الأوعية الدموية المتولدة: الحليف الاستراتيجي للأورام السرطانية
د. سعد صبار السامرائي
عضو اللجنة الطبية في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
قد يبدو العنوان سياسيا للوهلة الأولى، لكن الخلايا والمستعمرات السرطانية لها دوافع وصفات مشابهة لتوجهات بعض الكيانات والدول التي تسعى لإكتساب القوة والتمدد من خلال التحالفات الإستراتيجية والدعم اللوجستي من جهة معينة على حساب الأخرى. ولعل بدايات التكوين لهذه الكيانات والخلايا السرطانية خضعت لنفس الأطوار، فمن خلية وحيدة بائسة ، غريبة السلوك والمظهر الى اداة للموت لاتعرف الرحمة. وبالرجوع الى الأوعية الدموية ، نجد ان هذه الشبكة المعقدة من الأوعية قد اكتمل تشكيلها وبانت معالمها ونحن لازلنا في رحم الأم. يبلغ طول هذه المنظومة من الأوعية 60,000 ميل تتخللها شعيرات دموية صغيرة يبلغ عددها 19 بليون شعيرة، تمتاز هذه الأوعية بقدرة عالية على التكيف والانسجام مع وظيفة الجزء الذي تنمو فيه، فعلى سبيل المثال تبطن الأوعية الدموية أكياس الهواء في الرئة لتسهيل عملية تبادل الغازات ، في الكبد تشكل قنوات لازالة السموم من الدم ، وفي العضلات تأخذ شكل حلزوني لكي تتمكن العضلات من الانقباض والانبساط بصورة طبيعية دون اعاقة مجرى الدم. والجدير بالذكر ان تكاثر ونمو الأوعية الدموية يكون محدود لدى الأشخاص الأصحاء فهو لايحدث الا في حالات التئام الجروح حيث تنمو الأوعية الدموية تحت قشرة الجرح لكي تساعد في عملية الشفاء واعادة تكوين الانسجة، كذلك فانه يحدث شهريا لدى النساء تقوم الأوعية الدومية ببناء جدار الرحم ، واثناء الحمل تقوم الأوعية بتشكيل المشيمة. تحدث هذه العمليات تحت نظام رقابي دقيق يشتمل على توازن محسوب بين محفزات ومثبطات تولد الأوعية. الخلل في هذا النظام ينتج عن امراض مزمنة عديدة. فمثلا، اذا كان الجسم لايستطيع ان ينتج عدد كافي من الأوعية وفي المكان والوقت المناسب فانه يؤدي الى جروج لاتلتئم ، جلطات، وازمات قلبية. ومن جهة اخرى فان الافراط في تكوين الأوعية قد يزيد من شراسة امراض عديده منها الزهايمر، السمنه، والسرطان. وبالحديث عن السرطان، فان الخلايا السرطانية لايمكن ان تنمو الى 3 ملم في الحجم ولايمكنها ان تغزو وتهاجر الى انسجة اخرى مالم تحصل الخلية السرطانية علىالأوكسجين والغذاء الكافي، لذلك تقوم الخلايا السرطانية بالاعتماد على عملية تسمىAngiogenesis ( تولد الأوعية).
حيث تنشأ اوعية دموية جديدة من الأوعية الدموية الموجودة في الجسم وبمساعدة عوامل تحفيز نمو بطانة الأوعية الدومية والذي يعرف اختصارا ب (VEGF) ، وبذلك تتصل الخلايا السرطانية مع شبكة من الأوعية التي تزودها بالغذاء والأوكسجين وتخلصها من الفضلات المتراكمة.
وقد بين العالم الأمريكي فولكمان في سنة 1971 العلاقة بين الاورام السرطانية الصلبة وتولد الأوعية ونشر اول بحث علمي الشهيرة.New England of Medicine بخصوص هذا الموضوع في مجلة
ومنذ ذلك الحين اخذت الابحاث في علم الاورام اتجاه اخر ، فقد فتح اكتشاف فولكمان العديد من النوافذ واعطى فهم اعمق حول طبيعة الورم السرطاني. استمرت رحلة البحث عن علاج يثبط الاوعية المغذية للسرطان حتى عام 2004 حيث تم الاعلان عن اول منتج دوائي (افاستينAvastin) الذي خصص لعلاج الحالات المتقدمة من سرطان القولون. يوجد اليوم 12 منتج دوائي يستهدف ايقاف الأوعية الدموية المغذية لمختلفالخلايا السرطانية. الا ان اغلب هذه الأدوية لايعمل بمفرده وانما يتم دمجه مع علاج كيمياوي اخر لزيادة الفعالية مما ينتج عن بعض المضاعفات الجانبية . ومن ناحية اخرى فقد بينت العديد من الأبحاث العلمية ان هناك مواد طبيعية فعاله توجد في الكثير من الفواكه والخضراوات والتي لها القابلية على تثبيط نمو الأوعية الدموية بصورة انتقائية من دون اثار جانبية . ولعل السبب في ذلك يرجع الى الطبيعة المظهرية للأوعية الدومية، فقد بينت الدراسات المجهرية ان الاورام السرطانية تحيطها كتلة مبعثرة من الأوعية الدموية تتصل بصورة عشوائية من خلال فروع كبيرة الحجم واوعية مايكروية غير مكتملة النضج والتي يسهل التعرف عليها واستهدافها. بينما تمتاز الانسجة الطبيعية بأوعية دموية مستقيمة ذات تفرعات واضحة .ومن خلال عملنا مع فريق بحثي في مختبرات ايمان لبحوث السرطان في جامعة العلوم الماليزية ، استطعنا الاستفادة من الرؤية الجديدة لاستهداف الاوعية الدموية المغذية للخلايا السرطانية فقد قمنا بعلاج سرطان القولون والثدي في الفئران المختبرية باستخدام العديد من المستخلصات والمركبات المعزولة من النباتات الطبية والفواكهوالتي تعمل على تعطيل المستقبل الرئيسي للعامل VEGF وقد شاهدنا ضمور واضح للأورام السرطانية بعد اربع اسابيع من العلاج . واخص بالذكر فاكهة الرمان ، العنب، الزيتون، مركب بيتا-كاريوفلينβ-caryophylleneالموجود في العديد من الزيوت والفلفل الاسود، مركب سكوبولاتينScopoletin ومركب سيميكلابرينsemiglabrin وغيرها من المركبات الطبيعية الاخرى التي تحارب الأوعية الدموية المغذية لخلايا السرطان. ومن هنا نستطيع القول ان بامكاننا ان نأكل من دون ان نغذي الخلايا السرطانية. بمعنى اخر،يمكننا ان نختار الغذاء المناسب الذي يمكنه ان يضع الخلايا السرطانية في مجاعة !