صفحات من تأريخ الألعاب الأولمبية – الحلقة الحادية عشرة
الدورة الحادية عشرة … برلين 1936
أ. د إسماعيل خليل إبراهيم
نائب رئيس لجنة الشباب والرياضة
حين اختارت اللجنة الاولمبية الدولية في مؤتمرها السنوي التاسع والعشرين الذي عقد في (السادس والعشرين من نيسان 1931) في مدينة برلين لم تكن الأجواء العامة ولاسيما السياسية هي نفسها إذ كان نظام الحكم مختلفاً لكن تبدلات شهدتها ألمانيا العام 1933 غيرت من المعطيات وآلت إلى ما آلت إليه من تداعيات مع وصول هتلر وحزبه إلى الحكم ، وبالمقابل كان هذا الاختيار دليلاً على عودة ألمانيا إلى الرياضة الدولية بعد استبعادها بسبب الحرب العالمية الأولى .
تقدمت مدن ( برشلونة الأسبانية و برلين الألمانية و الإسكندرية المصرية و بودابست المجرية و بوينس آيرس الأرجنتينية و كولونيا و نورمبورغ و فرانكفورت الألمانيات و ريو دي جانيرو البرازيلية و روما الإيطالية ) بطلبات ترشح لاستضافة الأولمبياد لكن المنافسة انحصرت بين مدينتي ( برشلونة و برلين ) ، وجاءت نتيجة التصويت لصالح ( برلين ) التي حصلت على ( 43 ) صوتاً مقابل ( 16 ) صوتاً ( لبرشلونة ) .
طالبت جهات مختلفة بمقاطعة الألعاب لاسيما بعد تولي النازيين للحكم في ألمانيا لكن بالمقابل وضمن الكيان الواحد أي الدولة الواحدة انقسمت الآراء فنادت جهات أخرى بفصل السياسة عن الرياضة وتحديداً عن الألعاب الاولمبية معتبرة أن الألعاب الاولمبية هي مكان يجمع ولا يفرق حيث السلام شعار يعلو أي شعار ، ومن أبرز الأصوات التي هددت بالمقاطعة الولايات المتحدة الأميركية التي شهدت داخلياً تجاذبات بين أطراف عدة كل منها تنادي برأي مختلف .
كان رئيس اللجنة الاولمبية الأميركية وقتها ( آفري بروندج ) ضد قرار المقاطعة ، في حين قاد رئيس الاتحاد الأميركي لألعاب القوى للهواة حملة كبيرة داعياً لعدم المشاركة إلا انه في النهاية لم تقترن دعوات المقاطعة بالواقع وشاركت الولايات المتحدة في الألعاب . لكن في الوقت نفسه نظمت العديد من الجهات العالمية الداعية للمقاطعة ألعاباً موازية في إسبانيا سميت باسم الاولمبياد الشعبي ، لكنها لم تسلم من المشاكل خصوصاً مع تداعيات الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936.
أقيمت الدورة في الفترة من ( 1 حتى 16 أب 1936 ) وافتتحها أدولف هتلر بنفسه وشارك فيها ( 3963 لاعبا ولاعبة ) منهم (331 لاعبة ) من ( 49 دولة ) تنافسوا في ( 19 ) لعبة هي : ألعاب الماء ، العاب القوى ، كرة السلة ، الملاكمة ، التجديف ، الدراجات الهوائية على الطريق ، الفروسية ، المبارزة ، كرة القدم ، الجمباز ، كرة اليد ، الهوكي على العشب ، الخماسي الحديث ، الرماية ، البولو ، رفع الأثقال ، القوارب الشراعية ، الدراجات على المضمار . تضمن منهاج الدورة وللمرة الأولى ثلاث لعبات هي كرة اليد في الهواء الطلق وكانت مختلفة عن لعبة كرة اليد الحالية إذ كان الفريق يتكون من ( 11 ) لاعباً وكانت المباريات تجري على العشب ، وكرة السلة التي كانت تلعب في الهواء الطلق ، وسباق زوارق الكانوي و الكاياك ، فيما شهدت هذه الدورة الظهور الاخير للعبة البولو .
ولأول مرة في تأريخ الأولمبياد تم نقل الشعلة الأولمبية من مكان إيقادها في جبل أولمبيا مهد الألعاب الأولمبية القديمة إلى الملعب الاولمبي في برلين جرياً عن طريق ثلاثة آلاف عداء حملوا الشعلة عبر عدة دول هي ( اليونان و بلغاريا و يوغسلافيا و المجر و النمسا و تشيكوسلوفاكيا وأخيراً ألمانيا ) ، وقد أضاء الشعلة في حفل الافتتاح بطل ألعاب القوى الألماني ( فريتز شيلغن ) . وكانت اللجنة الاولمبية الدولية قد وافقت في مؤتمرها السنوي الذي عقد عام ( 1934 ) على الفكرة التي طرحها السكرتير العام للجنة المنظمة لاولمبياد برلين ( كارل ديام ) بتبادل العدائين حمل الشعلة انطلاقاً من جبل اولمبيا .
تم بناء ملعب برلين الاولمبي خصيصاً لاستضافة الاولمبياد وكان من تصميم المهندس الألماني ( فيرنر مارش ) وبلغت سعته ( مائة وعشرة آلاف ) متفرج ، وأقيم فيه حفلا الافتتاح والختام ، ومسابقات ألعاب القوى والفروسية ونهائيات مسابقتي كرة القدم وكرة اليد بالإضافة للعبة البيسبول التي أقيمت كرياضة استعراضية . أقامت الوفود في القرية الأولمبية التي احتوت على سينما ومسرح وقاعة موسيقى ومكتبة ، وغرف نوم في كل منها حمام ومجهزة بتدفئة مركزية .
جرى حفل الافتتاح في ( الأول من آب 1936 ) أمام ( مائة ألف ) متفرج احتشدوا في الملعب الاولمبي بحضور ( أدولف هتلر ) ورئيس اللجنة الأولمبية الدولية البلجيكي ( هنري دي بايي لاتور ) . وبعد عدة عروض ذات دلالات سياسية استعرضت وفود الدول المشاركة ، وتم نشر مقولة البارون ( بيير دي كوبرتان ) الشهيرة ( ليس المهم في الألعاب الاولمبية أن تربح بل أن تشارك ، لأن الكفاح هو أهم من النصر في الحياة ) . ثم أعلن هتلر افتتاح الألعاب التي جرى نقل وقائعها مباشرة عبر التلفزيون الألماني في خطوة هي الأولى في تأريخ الألعاب الأولمبية .
شاركت في هذه الدورة ( 49 ) دولة منها ست شاركت للمرة الأولى هي ( أفغانستان وبرمودا وبوليفيا وكوستاريكا وليشتنشتاين و بيرو ) . بينما ظهرت لأخر مرة أستونيا كدولة مستقلة قبل أن تعود العام 1992. ولم يشارك الاتحاد السوفيتي في الدورة .
نجوم الدورة : لم يكن أبرز نجوم الدورة ألمانياً بل كان الأمريكي الأسود ( جيسي أوينز ) الذي فاز بـ ( 4 ذهبيات في 100 و200 وتتابع 4×100 متر والقفز الطويل ) ، وعندما هزم ( أوينز ) المتسابق الألماني ( لوتس لونغ ) في مسابقة القفز الطويل مسجلاً (8.06 أمتار) مقابل (7.89 أمتار) للألماني غادر هتلر الاستاد غاضبا . وشهدت الدورة تألق أبطال مصر فأحرز ( خضر التوني ) ذهبية رفع الأثقال للوزن المتوسط ، و ( محمد مصباح ) ذهبية وزن الخفيف لرفع الأثقال ومواطنوه ( صالح سليمان فضية رفع الأثقال لوزن الريشة ، إبراهيم شمس برونزية رفع الأثقال لوزن الريشة وإبراهيم واصف برونزية رفع الأثقال لوزن الخفيف ) .
وبرز ( الإستوني كريستيان بالوسالو ) الذي فاز بذهبيتين في المصارعة بفئتيها الحرة و الرومانية . وشهدت هذه الدورة تتويج نجمات صغيرات السن مثل الأميركية ( ماريوري غيسترينغ ) بذهبية في ( الغطس ) وهي بعمر ( 13 ) عاماً ، والدانماركية ( إنج سورينسون ) ببرونزية ( المئتي متر ) سباحة على الصدر وهي بعمر ( 12 ) عاماً .
وعلى الرغم من سقوط الفارس الألماني ( كونراد فون فانغينهايم ) عن جواده في مسابقة الفروسية للفرق واصابته بكسر في عظم الترقوة إلا أنه أكمل السباق كي لا تصبح بلاده خارج المنافسة ليساهم في منح بلاده الميدالية الذهبية .
الألعاب الأخرى : في العاب القوى حصل رجال و نساء الولايات المتحدة الأميركية على ( 14 ) ميدالية ذهبية من أصل ( 29 ) وجاءت ألمانيا ثانية ( بخمس ذهبيات ) . وبقي اسم فنلندا لامعاً في المسافات الطويلة بفوزها بثلاث ذهبيات في ( الـ3000م موانع والـ5000 متر والـ10 آلاف متر ) .
وشارك في منافسات الملاكمة ( 179 ) ملاكما من ( 31 ) دولة تنافسوا على ثمانية أوزان ، و حصلت ألمانيا على خمس ميداليات منها ذهبيتان ، وجاءت فرنسا ثانية بذهبيتين ، وسجلت مصر على عادتها في ريادة المشاركات حضوراً للعرب عبر أربعة ملاكمين .
على الرغم من ظهورها لأول مرة أولمبياً شهدت مسابقة كرة السلة إقبالاً ملفتاً إذ شاركت فيها ( 32 ) دولة مما جعلها المسابقة الأكبر من حيث المشاركات من بين بقية اللعبات ، ونالت الولايات المتحدة الذهبية بفوزها على كندا في النهائي ( 19-8 ) الذي شهده حوالي الألف شخص ، ونالت المكسيك البرونزية بفوزها على بولندا ( 26-12) .
وفي اللعبات الأخرى اكتسحت ألمانيا رياضة الجمباز محرزة ( ست ذهبيات من تسع ) وكان الأبرز الألماني ( ألفرد شوارزمان ) الذي أحرز ثلاث ذهبيات . وفي المصارعة تصدرت السويد بـ ( أربع ذهبيات ) مقابل ( ثلاث ) للمجر، وتصدرت مصر مسابقة رفع الأثقال بـ ( بذهبيتين ) فيما نالت كل من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والنمسا ذهبية واحدة .
وفي المبارزة توزعت الذهبيات السبع بين كل من إيطاليا بـ ( أربع ) ذهبيات و المجر بـ ( ثلاث ) ، وفي الرماية شارك ( 140 ) رامياً من ( 29 ) وتقاسم ذهبياتها الثلاث ألمانيا و السويد والنروج ، وتألق سباحو اليابان وهولندا فحصدت كل دولة من الدولتين على ( أربع ذهبيات ) مقابل ( اثنتين ) للولايات المتحدة الأمريكية ، ونالت فرنسا ( ثلاث ذهبيات ) في الدراجات مقابل ( اثنتين ) لألمانيا .
ترتيب الميداليات : تصدرت ألمانيا ولأول مرة جدول ترتيب الميداليات برصيد (33 ميدالية ذهبية و26 فضية و30 برونزية ) وحلت الولايات المتحدة الأمريكية ثانية بـ (24 ذهبية و20 فضية و12 برونزية ) ثم المجر وحصلت على (10 ذهبيات و1 فضية واحدة و5 برونزيات ) وإيطالبا بـ (8 ذهبيات و9 فضيات و5 برونزيات ) وفنلندا ونالت (7 ذهبيات و6 فضيات و6 برونزيات ) .