صفحات من تأريخ الألعاب الأولمبية
الحلقة الأولى
أ. د إسماعيل خليل إبراهيم
نائب رئيس لجنة الشباب والرياضة
تنطلق في باريس يوم (26 / تموز / 2024) دورة جديدة من دورات الألعاب الأولمبية التي تعد من بين أبرز و أهم الاحداث الرياضية التي ينتظرها العالم كل أربع سنوات، وهي إحياء للألعاب الأولمبية القديمة التي بدأت في بلاد الإغريق عام (776 ق. م) واستمرت لغاية (عام 393 م) عندما أمر الإمبراطور الروماني ( ثيودوسيوس ) بإلغائها . ظلت الألعاب الأولمبية لقرون عديدة طي النسيان ويعود الفضل في إحيائها إلى البارون الفرنسي (بيير دي كوبرتان) الذي نجح في مساعيه ونظم مؤتمرا عالميا في حزيران عام 1894 تحدث فيه عن الرياضة، وقام بتشكيل لجنة أولمبية دولية ترأسها اليوناني ديمتريوس فيكيلاس وكوبرتان نائبا له وبدء السعي لتحديد مكان إقامة الألعاب الأولمبية الحديثة فوقع الاختيار على المدينة التاريخية أثينا وتقرر إقامة الدورة الأولى في العام 1896، وجاء اختيار أثينا تكريما لليونان لأنها مهد الألعاب الأولمبية. والألعاب الأولمبية هي الظاهرة الاجتماعية الوحيدة على مدار تأريخ البشرية التي تم إحياؤها بعد انقطاع دام (1500) سنة .
من هو بيير دي كوبرتان :
ولد بيير دي كوبرتان في ( 1 يناير 1863 في مدينة باريس ) وهو مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة و مصمم رموزها كالعلم و الشعار ، وهو من عائلة ارستقراطية نبيلة عاش طفولته في قصر ميرفل أحب الفنون والعلوم والتاريخ ، ودرس المحاماة ثم تركها ودخل المدرسة العسكرية في ( سانسير ) ومنها تحول إلى التربية والرياضة بعد أن وجد فيها أساسا لبناء الإنسان والمجتمعات ، ومع عشقه للتاريخ اليوناني القديم نادى في 25 نوفمبر 1892 أي عندما كان في سن التاسعة والعشرين بإحياء الألعاب الأولمبية القديمة .
ويسجل التاريخ أن كوبرتان عرض أفكاره التي لاقت القبول عام 1892 ونتيجة لجهوده المكثفة والمنسقة ونتيجة للخبرات التي كان قد اكتسبها من خلال دراسته قرر تسطير قائمة تضم أسماء ابرز قادة الرياضة في أنحاء العالم طالبا دعمهم فكريا ومعنويا لإعادة تنظيم الألعاب الأولمبية ، بعدها كانت محاضرته الشهيرة التي ألقاها في جامعة ألسوربون في ( 25 نوفمبر 1892 ) ولقيت القبول من الحاضرين . وقد وضع كوبرتان دستورا للدورات الأولمبية حين قال: ( إن أهم شيء في الألعاب الأولمبية ليس الانتصار بل مجرد الاشتراك . وأهم ما في الحياة ليس الفوز، وإنما النضال بشرف ) ، وكتب بيير دي كوبرتان كلمات القسم الأولمبي في عام 1920 وتم ترديده لأول مرة من قبل الرياضيين في مراسم افتتاح أولمبياد عام 1920 وأصبح تقليداً في جميع الدورات الأولمبية ، وقد طرأت تعديلات طفيفة على القسم في الأعوام اللاحقة . لم تقتصر فكرة إعادة احياء الألعاب الأولمبية على إقامتها فقط بل امتدت لتأخذ عنها العديد من الطقوس التي كانت ترافقها ومنها :
الأولمبياد : سميت أولمبياد نسبة إلى أولمبيا مجمع الآلهة بشبه جزيرة الاليدة باليونان حيث بدأت هذه الدورات بعد نزاعات طويلة بين المدن اليونانية ، وتم اعتماد الإسم ذاته في الدورات الحديثة .
إقامة الأولمبياد كل أربع سنوات : وهو العرف الذي اتبعه الإغريق إذ كانت الألعاب الأولمبية القديمة تقام كل أربع سنوات ، ولم أجد في المصادر التأريخية التي اطلعت عليها ما يفسر سبب ذلك ، علماً أن مصطلح أولمبياد كان يشير لدى الإغريق إلى وحدة زمنية في التسلسل الزمني ، أي الفترة بين أولمبياد وأخر ومدتها أربع سنوات .
الشعلة الأولمبية : هي من المراسيم الرئيسية في الألعاب الأولمبية وترمز إلى انتقال مبادئ وقيم فكرة الأولمبياد من اليونانيين القدماء إلى العالم الحديث . بدأ إدراج فكرة الشعلة الأولمبية كإحدى الفقرات الرئيسية في مراسيم الافتتاح في أولمبياد برلين عام 1936. يتم إيقاد اللهب المشتعل داخل الشعلة الأولمبية قبل سنة من انطلاق الألعاب الأولمبية من داخل معبد ( هيرا )، مقابل معبد ( زيوس ) في الموقع الأثري ( بأولمبيا ) (مكان انعقاد الألعاب الأولمبية القديمة) جنوب اليونان .
يبدأ حفل إيقاد الشعلة في موكب يتم خلاله استحضار طقوس إغريقية قديمة من خلال إشراف امرأة تعرف ( بالكاهنة العليا ) مع نسوة أخريات يمثلن دور ( كاهنات )يرتدين ملابس ذات طقوس قديمة حيث تدعو الكاهنة العليا إله الشمس ( أبولو ) لإضاءة الشعلة باستخدام مرآة مقعرة لتركيز أشعة الشمس ، ثم تقوم بترديد الصلاة إلى ( أبولو ) و( زيوس ) وعند إشعالها تضعها ( الكاهنة العليا ) في وعاء صغير ثم تقوم بالتتابع مع الكاهنات في ملعب ( باناثينايكوس ) في موكب يمر من شجرة الزيتون حيث يتم قطع غصن زيتون كرمز للسلام ، وعند وصول الموكب إلى الملعب تضيء ( الكاهنة العليا ) شعلة أول عداء ليبدأ مسار تنقلها بالتتابع نحو البلد المستضيف للألعاب الأولمبية .
يستغرق حمل الشعلة من اوليمبيا في اليونان ونقلها إلى المدينة المضيفة اسابيع أو أشهر ويتناوب على نقلها عادة شخصيات ورياضيون مشهورون وبعد أن يقوم الرياضي الأخير بإشعال الشعلة الرئيسية في ملعب الافتتاح يقوم رئيس الدولة المضيفة ببدأ الألعاب الأولمبية بصورة رسمية. حيث اتٌّبع نفس التقليد في جميع الألعاب المتعاقبة بعد دورة برلين وحتى الآن . ويعدّ اليوناني ( كونستانتينوس كونديليس )أول من حملها ،
استعراض المشاركين في الأولمبياد : قبل بدء سباقات الأولمبياد كان يجري استعراض للحكام والمتسابقين بمصاحبة الموسيقى يبدأ في طرقات المدينة لتعريف الناس الذين لن يحضروا إلى الملعب بالحكام والمتسابقين وفي هذا تكريم لهم يتناسب وأهمية مشاركتهم في الأولمبياد لينتهي في الملعب حيث يأخذ كل متسابق المكان المخصص له ، ثم ينادي المنادون على المتسابقين الواحد تلو الأخر بإسمه واسم أبيه وإسم مدينته ليراه الجمهور . وفي الألعاب الأولمبية الحديثة يجري استعراض للمتسابقين خلف أعلام دولهم أمام الجمهور الحاضر في الملعب أسوة بما كان يحدث سابقاً ، لكن تعريف الجمهور بالمتسابقين يتم حالياً قبل كل لعبة أو فعالية بسبب تعدد اللعبات واختلاف أماكن إقامتها .
القسم الأولمبي : قبل بدء المسابقات كان المتسابقون يرددون القسم الأولمبي أمام محراب الإله ( زيوس ) وفيه يتعهد المشارك بأنه ( قضى فترة كافية للتدريب لا تقل عن عشرة أشهر وأنه لم يرتكب أي فعل أو سلوك مناف لقواعد الرياضة والشرف والأخلاق ) ، وهو تأكيد على أهمية الإلتزام بقواعد الأخلاق والمنافسة الشريفة والإستعداد الجيد . لم يختلف الحال في الألعاب الأولمبية الحديثة حيث يؤدي الرياضيون في مراسم الإفتتاح القسم الأولمبي الذي كتب كلماته بيير دي كوبرتان وجرى ترديده لأول مرة في أولمبياد عام 1920 ، وطرأت تعديلات طفيفة على القسم في الأعوام اللاحقة . من جهة أخرى يقوم حكم ( من الدولة المضيفة ) وبالنيابة عن جميع الحكام بترديد قسم الحكام .
في الحلقات القادمة إن شاء الله سنستعرض الدورات الأولمبية في العصر الحديث بدءاً من دورة اثينا عام 1896 .