المتغيرات في النظام السياسي التركي وتأثيرها في سياسة تركيا الاقليمية
ا.د هاني الياس خضر الحديثي
عضو لجنة العلوم السياسية في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
تركيا الموقع الجيوبولتيكي
تتميز تركيا بموقع جيواستراتيجي مهم جدا بين أوروبا واسيا ,فهي سقف الدول العربية من الشمال وامتداداتها التاريخية والثقافية ومصالحها الاقتصادية تمتد عبر العراق وسوريا الى بلدان الخليج العربي ومصر والاردن ولبنان ليشكل العالم العربي النطاق الاول في جغرافية تركيا السياسية .
,وسواحلها تمتد من البحر الاسود الى البحر المتوسط ,وتسيطر على اهم ممرات الملاحة البحرية عسكريا وتجاريا حيث تعد تلك المضائق وبحر مرمرة جزء من الاراضي البحرية السيادية لتركيا وتخضع لنظام المياه الداخلية وتشكل سلسلة الممرات الدولية التي تربط بحر ايجة والبحر الابيض المتوسط بالبحر الاسود عقدة الربط الاستراتيجية بين اوروبا مع اسيا حيث مجموعة القوى الاساسية في اسيا لتشكل هذه المنطقة النطاق الثاني في جيوبولتيكية تركيا .
من جانب اخر فان لتركيا امتدادات مهمة مع اسيا الوسطى ( أ وروأسيا ) حيث البلدان في وسط اسيا الناطقة باللغة التركية وصولا الى الصين وبمحاذاة روسيا الاتحادية وهو النطاق الجيوبولتيكي الثالث لتركيا.
أقتصاديا تحتل تركيا الموقع السابع عالميا بدخل قدره 900 مليار دولار , وهي تعتمد على 60% من حاجتها للنفط والغاز الروسي وتشكل عقدة ارتباط استراتيجية للغاز والنفط المرسل من روسيا لاووسط اسيا فضلا عن بلدان الخليج العربي والعراق نحو اوروبا والعالم .
قيادة حزب العدالة والتنمية بزعامة السيد اردوغان للفترة 2002-2023 ادت الى تحقيق قفزات اقتصادية استحق معها السيد اردوغان ان يلقب بمهندس تركيا الحديثة:
ارتفعت نسبة النمو الاقتصادي من 1% الى 5,1%
ارتفعت الصادرات من 36 مليار دولار الى 170 مليار دولار
ارتفع عدد المناطق الصناعية من 192 الى 325 منطقة
تم توفير تسعة ملايين فرصة عمل
الاحتياط النقدي للبنك المركزي وصل الى 115 مليار دولار
المشاريع الدفاعية ارتفعت من 26 شركة الى 750 مشروع بتكلفة 50 مليار دولار كما ارتفعت الشركات الدفاعية من 56 شركة الى 1500 شركة. وقد ادى ذلك الى ارتفاع مبيعات الاسلحة بنسبة 30% وانخفاض الواردات منها الى 59%
الناتج الزراعي ارتفع من 37 مليار ليرة تركية الى 333 مليار ليرة تركية
بناء اكبر المنشآت السياحية منها مطار اسطنبول الدولي كاكبر مطار عالمي وتدشين قناة اسطنبول التي تربط البحر الاسود بالبحر المتوسط بكلفة 15 مليار دولار .
ان هذه المشاريع شاهد عيان يلمسه المواطن التركي بوضوح خلال عقدين من الزمن تحولت فيهما تركيا من دولة مديونة الى دولة دائنة وتسعى للعب دور قوة اقليمية كبرى في مجمل دوائر محيطها الاقليمي .
في السادس من شباط – فبراير 2023م ضربت الزلازل محافظات تركيا الجنوبية الشرقية , ومنطقة شمال غربي سوريا وهي الاقوى منذ مائة عام ادت الى كارثة مدمرة اقتصاديا وبشريا .
من الطبيعي ان تطلق هذه الكوارث تداعيات سياسية محلية واقليمية واخرى جيوسياسية خارجية خارج تخطيط الحكومات.
داخليا سعت قوى المعارضة السياسية الى التشكيك في قدرة الحكومة على ادارة الازمات بكفاءة متهمة اياها بالفساد او معيدة الاسباب الى الفساد الذي تزعمه اتجاه حكومة السيد اردوغان وهو ذات المنهج الذي اعتمدته المعارضة التركية اتجاه حكومة بولند اجويد حين ضرب الزلزال المدمر تركيا عام 1999م, وكانت تركيا حينذاك تعاني من ازمة اقتصادية كبيرة الامر الذي مكن المعارضة من الفوز بالانتخابات اللاحقة التي اوصلت حزب العدالة والتنمية بالفوز في انتخابات عام 2002م.
الان تقف تركيا على اعتاب انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة تخطط الحكومة لاجرائها في منتصف مايو \أيار من السنة 2023م.
الزلازل ونتائجها الكارثية اقتصاديا و اجتماعيا تضع حزب العدالة بقيادة اردوغان امام طريقين:
الفشل في الانتخابات بسبب مشاعر الغضب والحزن الناتجة عن الزلازل وهو امر يتوقف على امكانية احزاب المعارضة في التاثير على الشعب التركي عبر ابراز عناصر الفشل في مواجهة او ادارة الازمة ,
او نجاح حزب العدالة بتاكيد قدرته على قلب الطاولة عبر نجاحه في ادارة الازمة .
في الوقت الذي يسعى فيه اردوغان نحو استثمار منجزاته وادارة الازمة الناتجة عن تداعيات الزلازل الكارثية عبر حزمة من القرارات التي تلامس وضع المواطن والشعوب التركية ماديا وعاطفيا , فان المعارضة المجتمعة في اطار تحالف سداسي تسعى من طرفها لتوظيف الزلازل لاسباب سياسية انتخابية عبر التاكيد على بطئ اجراءات الانقاذ والسعي لتوظيف الموقف من المهاجرين واللاجئين السوريين والعرب لاثارة النقمة الداخلية على اسس عرقية .
ان انسحاب احد اطراف التحالف السداسي ( الجيد) والمعروف ايضا بحزب الخير من التحالف السداسي على خلفية رفض اختيار رئيس حزب الشعب التركي السيد كمال كيليتشدار أوغلو كمرشح مشترك للتحالف في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة تحت طائلة اتهامات قضائية , وتردد اسماء اخرى مقترحة تسعى لاحراز دعم مختلف الشرائح التركية بينها الاكراد والمحافظون والقوميون , يجعل هناك مساحات لاحتمالات التشرذم امام قوة وفاعلية السد اردوغان وحزبه المدعوم بسلسلة المنجزات له خلال العقدين المنصرمين مالم يحدث متغير اخر يحسم التنافس الانتخابي لصالح المعارضة.
في الجانب الاقتصادي , تمثل الولايات العشر الاكثر تضررا من الزلزال 15% من سكان البلاد (13) مليون نسمة وهي محافظات فقيرة نسبيا وتسهم بحوالي 9% من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد بما يشمل 15% من الناتج الزراعي و 8%من التجارة الخارجية
لذلك فان تاثير الزلازل التي حصلت على الاقتصاد التركي تعد محدودة نسبيا قياسا لما تحققه المدن الكبرى في اسطنبول و انقرة وازمير وبورصة وكولاجي ( 53% من الناتج المحلي الاجمالي) الى جانب ماتحققه السياحة الرئيسية في البلاد اسطنبول و أدرنة و أنطاليا 76,7 % من اجمالي عدد السياح)
الى جانب ذلك فان المنشات الرئيسية في مدن الاصابة بالزلازل مثل خطوط انابيب الغاز الرئيسية ومصافي النفط والمطارات (عدا مطار انطاكيا وحريق ميناء الاسكندرون) لم تصب باضرار استراتيجية
لذلك فان المتوقع عند البعض ان الادارة السريعة للازمة من قبل الحكومة التركية سيمكن تركيا من تجاوز الازمة دون انكار مايحققه الزلزال من تاثير على عجز الميزانية الى جانب ماسيضيفه الجهد الحكومي من انفاق على جهود اعادة البناء التي تطلقها الحكومة التركية , تضاف لها اضرار تقدر ب 70,8 مليار دولار للمباني المدمرة و 10,4 مليار دولار في الدخل القومي فضلا عن خسائر تقدر ب 2,9 مليار دولار هي خسائر القوى العاملة.
بعبارة اخرى فان مجمل الخسائر الناتجة عن الزلزال تقدر ب 84 مليار دولار وفق تقديرات أتحاد ألشركات والاعمال في تركيا في حين قدرت من قبل بنك ( جي بي مورغان ) الامريكي ب 25 مليار دولار الامر الذي يحقق عبىء على الاقتصاد التركي يمكن ان تظهر نتائجه لاحقا لفترة الازمة التي يمكن ان توحد الرايالعام التركي لتظهر لاحقا تصدعات يمكن ان تستثمرها قوى المعارضة في الانتخابات المقبلة في موعدها او اي موعد اخر قد ترحل الانتخابات اليه بسبب ظروف وتداعيات الزلازل وتهجير الملايين من الناس .
في ظل هذه الظروف المعقدة يواجه السيد اردوغان أحد اصعب التحديات طيلة فترة تزعمه للبلاد منذ عشرين سنة .
ويبدو ان خطواته السريعة توجهت نحو مسالتين اساسيتين:
الاولى :حشد فرق الانقاذ الداخلية والخارجية فضلا عن طلب المساعدات الدولية عبر تفعيل مستوى (التنبيه الرابع)وهو اسلوب ادارة فاعل افضى الى سرعة تقديم لجان الاغاثات الدولية والاقليمية وضمنها دول ليست صديقة لتركيا مثل اليونان واسرائيل فضلا عن السعودية ومصر ودولة الامارات , الامر الذي يمكن توظيفه لاحقا لتحسين العلاقات الخارجية في ضوء تقدير اقليمي ودولي لاهمية موقع تركيا الجيوبولتيكي.
الثانية : مبادرة اردوغان لاعادة تاهيل المدن المدمرة وتعويض الضحايا عما فقدوه من منشات ومنازل وحقول دون مقابل , وهو امر يوضح قدرة اردوغان في ادارة الازمة الناتجة عن الزلازل بكفاءة عالية . يضاف لذك تواجده وتفاعله بين المواطنين ومشاركتهم الامهم ووعوده لهم ان يكون معهم حتى يتم تجاوز نتائج الكارثة الطبيعية. ومن المهم هنا الاشارة الى الاجراءات السريعة التي اعتمدها في محاسبة المقاولين المسؤولين عن انشاء بنايات ليست ضمن مواصفات قابلة لتحمل الزلازل .
الازمة في تركيا اثارت دعم اقليمي ودولي من دول مهمة مثل بلدان الخليج العربي ومصر فضلا عن اليونان وبلدان وسط اسيا الى جانب روسيا واوربا الامر الذي يحقق فرص جديدة للتعاون يمكن استثمارها من قبل الرئيس طيب رجب اردوغان لاعادة ترتيب سياسة بلاده اقليميا ودوليا لصالح تركيا.
تطبيع علاقات تركيا مع مصر والسعودية والامارات ارمينيا واليونان
تقديم عدد كبير من الدول لمساعدات انسانية وتبرعات مالية.
قيام الامارات بجسر جوي مع تركيا وإرسال اكثر من 116 طائرة محملة بالمساعدات.
توقيع اتفاقية شراكة اقتصادية مع الامارات بقيمة 25 مليار دولار.
ينظر تقرير الجزيرة .اسباب للشؤون الجيوسياسية ,18.02.2023
من جانب اخر فان تركيا مدعوة لابداء حسن النية اتجاه بلدان الجوار وخاصة العراق وسوريا فيما يتعلق بالسدود المائية الضخمة التي حجزت اسباب الحياة عن شعوب البلدين وتركت تاثيراتها سلبا على العلاقات معهما خاصة ان التقارير العلمية اشارت الى تحمل تلك السدود اسباب تلك الزلازل .
يضاف الى ذلك الموقف التركي من التدخل بالشان الداخلي للبلدين تحت ذريعة محاربة ارهاب ال بي كه كه.
في هذا الجانب لابد من الاشارة الى الدور التركي في شمال غرب سوريا وخاصة المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا والتي تضم اعدادا كبيرة من النازحين السوريين والتي تعتمد بشكل كبير على المساعدات التركية حيث ان العقوبات الدولية على النظام السوري ادت الى تعثر وصول المساعداتللنازحين في مدنهم المدمرة شمال حلب وادلب الامر الذي يمكن ان يعرض الوضع الاجتماعي الهش لمخاطر وتداعيات سياسية وانسانية واقتصادية تتطلب من الحكومة التركية ان تاخذها بنظر الاعتبار في سياستها اتجاه سوريا لمرحلة مابعد الزلازل .
ان ماتقدم يثير سؤالا امام حكومة تركيا الحالية او المستقبلية : كيف سيتم التعامل مع ملايين اللاجئين السوريين في تركيا؟
وفي ضوئه فان تركيا مدعوة للعب دور فاعل في تطوير العلاقات ايجابيا مع محيطها الاقليمي العربي ضمن سياسة اشمل تشمل بلدان الخليج العربي ومصر .
ان ماتقدم الى جانب سياسة تركيا اتجاه بلدان وسط اسيا وبالتنسيق مع القوى ذات المصالح الاستراتيجية في الشرق الاوسط ووسط اسيا يمكن ان تساعد في الحفاظ على اتجاهات سياسة تركيا ضمن اطارها الجيوبولتيكي وتعزيزها مستقبلا.
سياسة تركيا الاقليمية ترتكز عند ثلاث محطات جيوبولتيكية مهمة :
الاولى: تتمثل بتاثيرها في المضائق البحرية بين البحر المتوسط والبلطيق وهو امر تحذر الولايات المتحدة من امكانية سيطرة روسيا على البلطيق وبحر ازوف عبر نتائج الحرب في اوكرانيا والذي في حال تحققه سيتحول الى بحر داخلي روسي وهو الامر الذي تعارضه تركيا كون ذلك يحقق لروسيا الاقتراب من المضائق التركية وهو الامر الذي يدفعها لمحاولة تحقيق توازن يجعلها طرفا وسيطا في الحرب معتمدة على قدراتها في الموقع والموارد وعضويتها في الناتو .
لاجل ذلك فان تاثير الزلازل عليها يكون فاعلا ويدفعها ربما نحو خيارات صعبة , فهي بين القبول بما ترغب به روسيا تحت تداعيات الزلازل او الاحتواء من قبل الناتو والقبول بالاقتراب من اليونان المنافس الرئيس لها في المظائق والتي كثيرا ماشهدت توترات في العلاقات بينهما بسبب هذا التنافس في تحديد الملاحة .
الثاني :منظومة البلدان الناطقة باللغة التركية في وسط اسيا حيث سبق لنظام اردوغان وذهب الى اعلان اردوغان عام 2021 لتشكيل منظومة اقليمية مقرها اسطنبول باتجاه تحقيق التكامل على غرار اوروبا عام 2040م.
وضمن هذا السياق ارتبطت تركيا بمجموعة اتفاقيات اقتصادية وتجارية مع بلدان وسط اسيا كما هو الحال في مشروع تاناب لتصدير النفط والغاز من اذربيجان الى اوروبا بسعة 10 مليار متر مكعب منه 6 مليار متر مكعب الى غرب اوروبا .
ان ماتقدم يشكل حضورا تركيا ينافس المساعي الصينية – الروسية في وسط اوروبا حيث ترتبط بلدان وسط اسيا ( اورواسيا) مع كل من القوتين بمنظومتي شانغهاي و منظومة الامن لبلدان وسط اسيا بقيادة صينية وروسية الامر الذي يعني الاصطدام المحتمل في المجالات الحيوية لاطرافها .
الثالث:بلدان غرب اسيا حيث ايران و بلدان الخليج العربي فضلا عن سوريا ومصر .
العراق وسوريا يمثلان نقطة تماس خطيرة للامن القومي التركي حيث نفوذ حزب البي كة كة المعارض الشرس للنظام التركي والذي يلجا باستمرار الى التدخل بالشان الداخلي للبلدين والامتداد داخل حدو البلدين تحت ذريعة مطاردة قوى حزب العمال المعارض( المعارضة الكوردية) بذا الوقت الذي تسيطر تركيا على مناطق واسعة من شمال غرب سوريا فضلا عن داخل شمال العراق وهي مناطق زلزالية متاخمة بينها بين الصفيحتين العربية والاناضولية .
في هذه المناطق تتركز السدود المائية الضخمة لتركيا لتتحكم بالموار المائية للبلدين وهو امر اثار تساؤلات كثيرة عن مدى تاثيرات هذه السدود على النشاط الزلزالي الذي بدوره يحقق كوارث اقتصادية واجتماعية وامنية لتركيا وجوارها الاقليمي.
من جانب اخر فان ايران تنافس تركيا على مناطق النفوذ في البلدين فضلا عن عموم المشرق العربي الامر الذي يترك ظلاله على العلاقات التركية مع هذه الدول التي بدورها تعتمد سياسات متوازنة في علاقاتها مع الصين وروسيا لاعتبارات المصالح الاستراتيجية والتي دفعتها لتوقيع اتفاقيات شراكات اقتصدادية بمديات مستقبلية تصل الى 25 سنة .
النفط والغاز والتجارة والموقع الجيواستراتيجي للخليج العربي وغرب اسيا يجعل تركيا ذات طموحات واسعة خاصة انها جزء من الناتو الذي يسعى لمنع الصين وروسيا من الحلول محل النفوذ الامريكي في منطقة الشرق الاوسط .
في ضوء ماتقدم فأن تداعيات الزلازل في تركيا تظهر بمسارين اساسيين:
داخلي يتعلق بالنظام ومؤسسات ,
وخارجي يتركز في الدوائر الاقليمية التي تنشط فيها سياسة تركيا الخارجية حيث معضلات الامن والاقتصاد والنفوذ المتعارض مع نفوذ القوى الاخرى , وهو الامر الذي يترك للقوى الخارجية وخاصة الولايات المتحدة واوربا دورا في مستقبل تركيا عبرادوات المعارضة التركية وطبيعة المقاصد الخارجية لمجمل موضوع رسم الخارطة السياسية لعموم مناطق وسط وغرب اسيا والشرق الاوسط متفاعلة مع حرب اوكرانيا والموقف من روسيا وطموحاتها ومشاريع الصين الاستراتيجية ومقاصدها.