اشكالية المادة (76) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005
اشكالية المادة (76) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005
الدكتور ميثاق غازي فيصل الدوري
عضو اللجنة القانونية
الدستور هو مجموعة القواعد القانونية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها وتحدد هيئاتها وتنظم اختصاصات تلك الهيئات والعلاقة فيما بينها, وحقوق وحريات الافراد فيها. وهو اسمى القوانين في الدولة ويأتي في قمة الهرم القانوني للدولة. وحددت المادة الاولى من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على طبيعة نظام الحكم بانه نظام نيابي (برلماني). وهذا نص صريح على وجوب توافر ركيزتين اساسيتين: الأولى تخص السلطة التنفيذية وهي ثنائية السلطة التنفيذية. والثانية تخص السلطتين التنفيذية والتشريعية وهي الرقابة والتعاون المتبادلين بين كِلا السلطتين.
ولان المادة (76) جاءت مندرجة تحت عنوان مجلس الوزراء, ولأنها مدار مقالنا وموضوعه فأننا سنذكر القواعد الاساسية التي تحكم السلطة التنفيذية, ونقارنها مع ما جاءت به المادة(76), ثم نبين الاشكاليات التي تضمنتها المادة لما لها من اهمية حيث بان عوارها وانعكست اثارها سلبا على نظام الحكم في جمهورية العراق مما ادى الى تفرد في السلطة واستحواذ عليها مارسته الاحزاب السياسية منذ اقرار الدستور وليومنا هذا, وادى غموض نص المادة وهو الى تراجع هيبة القضاء الدستوري وفقدانه لاستقلاليته في نظر الشعب.
ولما كانت ثنائية السلطة التنفيذية من القواعد الاساسية التي تحكم السلطة التنفيذية, فلا بد من وجود رئيس دولة يكون في قمة السلطة التنفيذية, ويستوي ان يكون ملكا كما هو الحال في المملكة المتحدة ( بريطانيا) والمملكة الاردنية الهاشمية, يختص بتكليف رئيس مجلس الوزراء. ووجود رئيس لمجلس الوزراء او رئيس الحكومة يختص بممارسة العمل التنفيذي في الدولة وتكون اختصاص اتخاذ القرارات التنفيذية لمجلس الوزراء. ولما كان النظام البرلماني يقوم على اساس الديمقراطية النيابية, فإن القاعدة في تكليف رئيس مجلس الوزراء تقضي بتكليف زعيم الاغلبية النيابية الفائزة في الانتخابات بتشكيل مجلس الوزراء, وهو يقوم بدوره بتشكيل المجلس من حزبه او ائتلافه ان فاز بالأغلبية المطلوبة دستوريا وغالبا ما تكون اغلبية مطلقة, او بتشكيل ائتلاف موسع للوصول الى تلك الاغلبية.
ومن قراءة نص المادة (76) يتبين لنا الاشكاليات الاتية:
اولا. جاءت الفقرة اولا منها غامضة في صياغتها مرتبكة في تحديد تكليف رئيس مجلس الوزراء, حيث نصت على
” اولا. يكلف رئيس الجمهورية, مرشح الكتلة النيابية الاكثر عدداً, بتشكيل مجلس الوزراء, خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية“. فهل يكلف رئيس الجمهورية زعيم الاغلبية الفائزة في الانتخابات ام الاغلبية التي تتشكل في مجلس النواب من ائتلاف اكثر من قائمة, ومما زاد الامر تعقيدا رأي المحكمة الاتحادية العليا عقب انتخابات 2010 حيث بينت فيه ان بإمكان رئيس الجمهورية تكليف زعيم الاغلبية الفائزة بالانتخابات او تكليف زعيم الاغلبية التي ستتشكل خلال انعقاد او جلسة لمجلس النواب, وكان هذا تفسيرها للكتلة النيابية الاكثر عددا. وهذا التفسير تشوبه عيوب عدة ابرزها تقاطعه مع القاعدة الاساسية العرفية المستقرة في اغلب الانظمة البرلمانية العريقة من ان يكلف رئيس الدولة زعيم الاغلبية الفائزة في الانتخابات, وفتح الباب على مصراعيه لتقديم تنازلات لبعض القوى السياسية لكسب ودها ومشاركتها في تشكيل الحكومة, وضعف الاداء الحكومي.
ثانيا. جاءت الفقرة الثالثة من ذات المادة باشكالية اكبر وهي تكليف مرشح اخر عند عجز المرشح عن تشكيل الحكومة, حيث نصت على” يكلف رئيس الجمهورية, مرشحا جديدا لرئاسة مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما, عند اخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة, خلال المدة المنصوص عليها في البند ثانيا من هذه المادة”. وتنبع الاشكالية الاكبر في ان نص المادة لم يحدد المكلف الثاني هل هو من ترشحه الكتلة الاكبر عددا ام انه من يختاره رئيس الجمهورية, وهو ما حصل بعد استقالة حكومة السيد عبد المهدي حيث كلف رئيس الجمهورية مرشحا اختاره هو ولا ينتمي الى الكتلة الاكثر عددا, مما حدا بمجلس النواب الى استخدام سلاح عدم الحضور وكسر النصاب في حالة اصرار رئيس الجمهورية على قراره, وعزز ذلك اقرار المحكمة الاتحادية بان تفسيرها الاول لنص الفقرة اولا هو ملزم ولا يمكنها التراجع عنه او استبداله بتفسير اخر.
وهذا ادى الى ان تستمر حكومة تصريف الاعمال بممارسة اختصاصاتها الى ما يقارب السنة بعد استقالتها, الامر الذي ادى الى خرق انتهاك لحقوق الافراد وحرياتهم وخصوصا المتظاهرين منهم, كما ادى الى فراغ تشريعي خطير يتمثل في امتناع حكومة تصريف الاعمال عن وضع مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2020 والى يومنا هذا, مما ذهب معه ادراج الرياح حقوق مالية لكثير ممن تم تحويلهم الى عقود وزارية بموجب قرارات وزارية, كما ادى ذلك الى استشراء الفساد وازدياد حدته لعدم امكانية استجواب الوزير كونه يقوم بتصريف الاعمال وهو مستقيل من الوزارة استنادا الى المسؤولية التضامنية.
ان ما ذكرناه سببه غموض صياغة نص المادة (76) حيث القى هذا الغموض بظلاله على عمل السلطة التنفيذية, وترك اختصاص رئيس الجمهورية مُزَعزَعاً امام رغبات الكتل السياسية فان رأت ان المرشح يخدم توجهاتها تبنت قرار رئيس الجمهورية واقرته ومضت في تنفيذه, فيستوي على سوقه ويأتي ثماره لمن اراد قطافها, وان رغبت عنه انتقدته لعدم دستوريته وروجت لفكرة خرق الدستور وما يعقبها من افعال تذهب بحقوق الافراد وحرياتهم ادراج الرياح. وكذلك اثرت هذه المادة لعدم دقة صياغتها على مكانة القضاء الدستوري خصوصا وان الطبقة المثقفة تعي قواعد التكليف الراسخة في الانظمة النيابية وهي تكليف زعيم الاغلبية الفائزة, وتدرك ان ما يكون خلاف ذلك هو اتباع لرغبات الاحزاب المتنفذة, والقضاء منزه عن ذلك فالأصل استقلاله والاستثناء خضوعه للرغبات السياسية والاستثناء لا يجوز القياس عليه ولا التوسع في تفسيره.
وندعو هاهنا الى ضرورة اعادة النظر في المادة (76) من الدستور في اقرب تعديل دستوري واستبدال لفظ الكتلة النيابية الاكثر عددا بلفظ القائمة الفائزة في الانتخابات, وذلك لكي نسد الذريعة على أي تفسير لا يتسق مع القواعد الاساسية التي تحكم تشكيل السلطة التنفيذية, ونقطع طرفا من الافعال او الاقوال التي تمس استقلال القضاء الدستوري, ونجعل من هذه المادة درعا يذب عن حقوق الافراد وحرياتهم وخصوصا منها حقوقهم المالية أي انتهاك او خرق, كما نعزز بذلك دور رئيس الجمهورية في اختيار المرشح الذي يعقب المرشح الذي يعجز عن تشكيل الحكومة وذلك بتحديد اختيار المرشح الذي ورد في الفقرتين الثانية والخامسة من ذات المادة بأن يضاف اليها لفظ أي مرشح يختاره رئيس الجمهورية لتصبح الفقرة الثانية كالاتي في صياغتها يكلف رئيس الجمهورية أي مرشح اخر يختاره.
نتمنى لعراقنا الحبيب الاستقرار السياسي و القانوني القريب, ونأمل على مشرعنا الدستوري تلافي هذه الاشكاليات واثارها في المستقبل القريب.