معمل سكر الموصل ، التحدي
قصص من حياتي الوظيفية
المهندس الاستشاري سحبان فيصل محجوب ، رئيس لجنة الصناعة والطاقة في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
في احدى صباحات صيف عام 1992 حينها كنت مديراً لشبكات كهرباء المنطقة الشمالية ومقرها الموصل , تلقيت مكالمة هاتفية من الدكتور صالح الخفاجي مدير مكتب المستشار في رئاسة الجمهورية / الدكتور جعفر ضياء جعفر يبلغني فيها وبأمر من السيد المستشار بالتوجه الى معمل سكر الموصل لغرض معاينته وتقديم تقريرا فنيا عنه ..
كانت لدي معلومات اولية عن وجود وحدتي توليد كهرباء حرارية صغيرة فاتجه تفكيري بان الامر لا يتعدى العمل في اعادة تاهيل هاتين الوحدتين وربطهما مع الشبكة الوطنية تعزيزا لقدراته شبكة الكهرباء التوليدية وفعلا تحركت الى موقع العمل بعد اعلام مسؤولي المباشر وكان في حينها المدير العام للمنشأة العامة للتوليد ونقل الطاقة الكهربائية المرحوم المهندس عيد رشاد , اصطحبت معي مجموعة من المهندسين المختصين وكان بينهم المهندس عامر عز الدين كونه كان مسؤولا عن شبكات الشمال العربي وله من الخبرة الميدانية ما يساعد في انجاز المهمة.
عند وصولنا موقع المعمل تفاجئنا بوجود عدد هائل من المدراء العامون ومدراء من دوائر وزارة الصناعية والمعادن وهيئية التصنيع العسكري كانوا قد سبقوني بالوصول الى المعمل…
قام الجميع بالترحيب بي وتهنئتي على اختياري مديرا لمشروع اعمار معمل سكر الموصل .. وفعلا بعد دقائق ابلغت هاتفيا من مقر مديريتي بوصول امر تعييني مديرا للمشروع ..
الطريف ان خبرتي الفنية والعملية بعيدة كل البعد عن دهاليز ومراحل صناعة السكر .. لم ادخل هذا المعمل مسبقا , فقط كانت الرائحة المنبعثة اثناء عمليات تشغيل المعمل قد عرفتها منذ منتصف الثمانينات القرن الماضي عندما كان موقع وحدتي العسكرية مقابل هذا المعمل .
كان عليي الاطلاع بشكل سريع ومكثف على مراحل الانتاج وعلى مكائن المعمل المختلفة بدأت وبشكل مثابر ومن خلال الاجتماعات والمداولات مع المهندسين المختصين القدماء في المعمل والاصغاء اليهم وصلت الى حالة مقبولة الى استيعابها المصطلحات والمفردات وفلسفة الانتاج وكان عليي العودة الى تاريخ المعمل الذي تأسس عام 1958 واكتمل انشاؤه عام 1959 وبوشر بالانتاج في عام 1960 بطاقة انتاجية 800 طن بنجر/ يوميا و70 طن سكر من تكرير السكر الخام يوميا وفي عام 1969 بوشر بتوسيع المعمل لزيادة طاقته الانتاجية واضافة اربع وحدات جديدة له للاستفادة من النواتج الزمنية للانتاج وهي وحدة انتاج خميرة الخبز الجافة , والطرية الجاهزة ووحدة استخلاص السكر من المولاس ووحدة انتاج العلف الحيواني ووحدة انتاج النورة , وفي عام 1970 تم تشغيل هذه التوسعات لتصبح طاقة المعمل الانتاجية 480 طنا من السكر الابيض بتكرير السكر الخام و3 الاف طن يوميا من البنجر السكري من خلال موسم الحصاد .. وقد بلغت اعلى كمية شهدها المعمل تقطيعها من محصول البنجر 184 الف طن…
اغلق هذا المعمل في نهاية الثمانينات على ضوء تقريرا تم اعداده وخلاصته ( بان كلفة الانتاج لهذا المعمل تتعدى كلفة الاستيراد ؟! ) . بالاضافة الى تقادم مكائن وحدات المعمل الانتاجية وتم توزيع الملاكات العاملة الهندسية والفنية والادارية على دوائر وزارة الصناعة والمعادن لغرض الاستفادة منهم وتم التعميم على مؤسسات الدولة المختلفة بانه اصبح الان بامكانهم تفكيك مايحتاجونه من مكائن ومواد ونقلها الى مواقعهم للاستفادة منها هنا كان التحدي ( مصنع عملاق من دون مكائن صالحة وملاكات غائبة ) ولم يبقى منه غير لافتة وذكريات .
وفعلا اطلق اسم ( التحدي ) عنوانا لهذا المشروع .
كانت اول مهامي .. استدراج قرار مركزي يلزم كافة الدوائر بإعادة الملاكات المنقولة اليها وكذلك كانت المواد التي قاموا بتفكيكها ونقلها من المعمل الى موقعها السابق فورا قوة صاحب القرار ومركزيته حققت استجابة فاعلة وسريعة لكافة الدوائر المعنية..
وبدات فرق العمل المتخصصة تلحق بالمشروع من كافة المؤسسات ذات العلاقة ومن كل انحاء العراق حيث وصل عددها الى ( 26 ) فريق عمل بالاضافة الى فريق العمل المركزي من ملاكات المعمل المتخصصة .
وكان عليي تقديم تقرير عن سير العمل نهاية كل يوم يرفع الى مكتب المستشار في رئاسة الجمهورية
كانت الاولوية تتجه حول موضوعين الاول تنظيم الوصول والسيطرة على ما يقارب الف مشارك في عملية اعادة الاعمار وعلى ضوء ذلك اطلق تسمية ( مشروع الالف مجاهد ) على هذا المشروع .
الثاني على ادارة المشروع ازاحة الترسبات الطينية التي غطت معظم مكائن المعمل نتيجة لفيضان اصاب ساحات المعمل جالبا معه كتلا طينية كبيرة حطت على اجزاء واسعة من قاعات المعمل حتى بدت بعض مساحاته سريالية قبيحة بائسة .
هذا ما اضاف لتمية المشروع التحدي قوة في العنوان …
وان هناك تحديين فوق الارض متمثلا بما وصفته انفا وتحت الارض وهو وجود عدد كبير من الافاعي منتشرة على ارض مواقع المعمل , اذكر هنا وفي احدى ايام العمل الصاخبة واثناء تجوالي المعتاد في اروقة العمل واذا باحد رؤوساء من العمل يهمس بأذني ويقول ( استاذي لا يمكننا مواصلة العمل مع انتشار عدد هائل من الثعابين السوداء ) وقلت له لا تتحدث عن الموضوع لاحد وانا سوف اقوم بمعالجة الحالة , عدت الى مكتبي وانا امام حالة تحدي اخرى…. قررت استدعاء ( سيد ) له القابلية على المسك ب الافاعي بدون ان تلمسه بضرر.. طلبت من احد العاملين القدامى ان ياتيني باحدهم وفعلا بدات عملية بأحدهم وفعلا بدأت عملية القبض على هذه الافاعي الخشنة وكانت الاولى ما يسمى ( العربيد ) بطول اكثر من متر ولونه الاسود يقع بيد هذا السيد ماسكا بها اما في مكتب مدير المشروع شكرته وقلت له استمر في عملك وكافئته مكافئة مالية مجزية وانتهت قصة الافاعي بفعل جهود هذا السيد الذي لن انسى فضله على استقرار العمل بالمشروع وللاسف لا اتذكر اسمه
ما ان نزيح نتائج تحدي حتى يظهر تحدي اخر جديد…. التحدي الجديد وجود تحليق طيران الامريكي بارتفاعات واطئة فوق ارض المعمل لاسباب اجهلها لحد الان … كانت هذه الطلعات تولد حالة من الازعاج والترقب لدى العاملين حيث كانت اصواتها المرتفعة وما تلقيه من مشاعل حرارية على ارض المصنع ما يهدد سلامة العاملين واستمرارية العمل قررت ان اعالج الحالة معنويا ليس الا وما كان مني ومع عدد من العاملين الا ان نقوم واثناء تحليق هذه الطائرات بالتسلق على احدى الابراج والذي تعتبر قمته اعلى نقطة في سماء المعمل وان اصنع بنفسي الراية العراقية وتثبيته باحكام على قمة هذا البرج واطلقت في حينها على هذا التصرف بفعالية التحدي والتي جنيت من ورائها معنويات لا توصف لدى العاملين باتجاه مواصلة العمل بكل مثابرة بالرغم من استمرار هذه الاستفزازات المتعمد.
منحت ادارة المشروع صلاحيات عالية ادارية ومالية وكان عليي تجاوز هذه الصلاحيات في تنفيذ عددا من فقرات العمل …. واذكر هنا اني قمت بالموافقة على صرف مبلغ مشتريات تجاوز صلاحيتي … واذا بمعاون مدير المشروع المهندس سالم الحجار ( والذي له مفردة تستحق ذكرها في قصة هذا المشروع ) والمديرة الانسة سهيلة نجم الدين يدخلون مكتبي ويطلبون مني التراجع عن هذه الموافقة … او يقوم المعنيين بتجزئة هذا المبلغ ليكون ضمن صلاحية الصرف … رفضت ذلك بشدة واستذكرت زيارة الرئيس الراحل صدام حسين ( رحمه الله) الى احدى المشاريع ومطالبة مدير المشروع الاسراع بالتنفيذ اضافة الى جودة التنفيذ , وعرض مدير المشروع بانه يحتاج الى صلاحيات استثنائية واجابة الرئيس الراحل له ( خذ صلاحياتي كليا ) ونفذ العمل كما يجب …. وكانت هذه الزيارة قد تم عرضها على شاشة التلفزيون الرسمي … قلت لمديرة الحسابات اكتبي ماسوف امليه … ( كتاب موجه الى وزارة المالية / دائرة الموازنة )
استنادا الى توجيهات السيد الرئيس القائد حفظه الله ورعاه اثناء زيارته لمشروع …. والذي امر سيادته … يرجى التفضل بالموافقة على صرف المبلغ …. لغرض …. والذي يقع خارج صلاحيتنا .. لم يرد الجواب من وزارة المالية لحد يومنا هذا .
عودة الى السيد سالم الحجار والذي كان يشغل مديرا للمعمل قبل غلقه .. وللامانة لا يمكنني وصفه الا بانه انسان جدي ومثابر ولا يقبل اي انحراف او تجاوز على السياقات في كافة التفاصيل العمل , والذي كان يواكب معي مسيرة تنفيذ العمل … في احدى ايام العمل ومع بداية المشروع واذا باحد الوشاة من العامين ينقل لي حديث عن السيد سالم قوله وباللهجة الموصلية (( اقطع ايدي اذا يطيقون تشغيل المعمل )).. لم اعاتبه على ذلك ولكني بصراحة اتذكر هذه الوشاية عند اللقاء به وكانها بمثابة ثارا مخبئا معه ومع يده التي لا اريد لها ان تقطع .. وما ان انتهى العمل وبدا التشغيل التجريبي واذا بقيامه بافراغ اول كيس سكر لتجربة عملية تكريره وكانت ملامح الفرح تعلوه وكانت هذه هي معادلة تصغير الحسابات معه وانتهى الموضوع بدون مواجهة صريحة معه كنا قد وضعنا جداول زمنية ودقيقة لتنفيذ كافة فعاليات الاعمال…. واذا تفاجا ادارة المشروع بزيارة الدكتور اللواء احمد مرتضى والمعروف بحديته وكان في حينها مديرا عاما للتنسيق والمتابعة في هيئة التصنيع العسكري .. والذي طلب من ادارة المشروع بضرورة تقليص وقت انجاز المشروع لاجل الاستعداد لانتاج السكر من حصاد البنجر في عروته الخريفية .
بوجبتي العمل ( نهارية وليلية ) ومتابعة تفصيلية انتهت الفعاليات المخططة لها بنصف الوقت وبنصف التخصيصات المالية .
وكافة مكائن المعمل في حالة جاهزية بعد الانتهاء من اعادة التأهيل وهي قادرة من خلال الفحوصات التشغيلية على انتاج السكر الابيض وكذلك الخميرة الفورية والعلف الحيواني .. ولكن اين السكر الخام واين البنجر للبدء بالانتاج .. وكان القرار المقترح ان تقوم ملاكات المعمل الاصلية باعمال الصيانة الوقائية بانتظام وحصول البنجر للمباشرة بالانتاج..
بعد اعلام وزارة الصناعة والمعادن باتمام العمل وبمقترح ادارة المشروع بانتظار انتاج محصول البنجر يرن الهاتف واذا بموظف البدالة يخبرني بطلب وكيل الوزارة الصناعة والمعادن وكان في حينها الاخ مهند عبد المجيب الناصري بالتحدث معي وبعد تهنئته لنا على انجاز العمل قال لي هناك اطنان من ( السكر الكناسة ) موجود في ميناء ام قصر عليكم نقله الى الموصل وتكريره واعادة انتاجه .
ماهو السكر الكناسة : هو ما يتساقط من سكر اثناء عمليات التفريغ والنقل والتحميل من بواخر الناقلة الى ارصفة الميناء ويكون عادة مخلوطا بشوائب مختلفة والاتربة اضافة لمواد اخرى كالعدس والملح والرز…الخ من مواد غذائية سقطت على ارض الميناء حيث يقوم العاملين بكنسها وتعبئتها ..
بدات شحنات هذا السكر اللعين تتوالى بوصولها الى موقع المعمل وتملأ ساحاته ..
فعلا بدانا بعمليات التكرير مرة ومرتين وثلاثة الى ان حصلنا على مادة السكر الابيض بدون اي طعم غريب … قمنا بتوزيع عبوات صغيرة على بعض المواطنين في الموصل حيث كانت الفرحة تعلو ملامحهم بعودة هذا الصرح الصناعي لمدينتهم لا بد من الاشارة اخيرا بان هذا المشروع حقق لاول مرة تعاونا وتنسيقا مشتركا مع الاساتذة في جامعة الموصل بالاخص المكتب الهندسي في كلية الهندسة حيث كان لجهودهم الاكادمية لمسات خاصة في الانجاز حيث كان مقترح تثبيت مسقفات المعمل ومعالجة قواعده المهترئة . اثرا في المضي بتنفيذ فعاليات العمل وهذه كانت احدى قصص العمل التي انجزتها حيث لاتنسى ادق تفاصيلها .