مصفى كربلاء وأزمة المنتجات النفطية
الاستاذ سعد الله الفتحي
العضو المؤسس في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
لجنة الصناعة والطاقة
{ رئيس المؤسسة العامة لتصفية النفط وصناعة الغاز سابقا)
ابرزت قنوات الاعلام والتواصل الاجتماعي مؤخرا مسألة تشغيل مصفى كربلاء الذي طال انتظاره خاصة بعد افتتاحه رسميا ثلاثة مرات خلال السنة والنصف الماضية. وظهر ان هناك اراء متعددة حول المشاكل التي يعاني منها المصفى والتي تحول – برأي المعلقين – دون تشغيله او حتى التعمد في عدم تشغيله والاستمرار في استيراد المنتجات النفطية المكلفة.
واذ يشكر الاعلاميون على ابراز هذه القضية المهمة للرأي العام الا انهم في الاغلب لم يستشيروا فنيين متخصصين او مدراء فنيين معتمدين للتعليق واكتفوا في الغالب على ما ورد في وسائل التواصل الاجتماعي. واثار تقرير لشركة (تكنيب) الاستشارية حول شبكة مياه التبريد مزيدا من التعليقات حول مشاكل التشغيل وخطورته. وظهرت لذلك اراء متطرفة تنادي بعدم تشغيل المصفى لأن انفجارات سوف تحدث ويصل ضررها الى مدينة كربلاء وهذا شطط ليس له ما يبرره فنيا.
اما اخرون فقد كانت تعليقاتهم سياسية تبريرية بعيدة كل البعد عن الموضوعية وتمحورت حول عين السخط والرضا و الحب والكراهية وان اي رأي غير ما تقول به وزارة النفط يعتبر “تسقيطا”. علما ان وزارة النفط ودوائرها هم اقل من شارك في الطروحات.
تدهور انتاج
وقبل الدخول ببعض القضايا الفنية التي يواجهها المصفى، ارى من المناسب العودة الى تاريخ هذا المشروع وكيف تأخر الى يومنا هذا.
لقد بدا واضحا بعيد الاحتلال مدى التدهور في انتاجية المصافي وعدم كفايتها لمواجهة الطلب على المنتجات النفطية. وتبين ان مسألة استيراد المنتجات اصبحت ضرورة ملزمة وليست قصيرة الامد وان فتح الباب على مصراعيه لاستيراد السيارات والمولدات قد ادى الى طفرة في الطلب على المنتجات الخفيفة في وقت لم تكن نسبة انتاج المصافي تتجاوز 70 بالمئة من طاقتها التصميمية في احسن الاحوال.غير ان الوزارة في وقت مبكر بعد الاحتلال سعت لتفعيل العمل على خطة انشاء المصافي التي كانت معدة منذ 1988 وكان مصفى الوسط احد ابرز مشاريعها. وفي تلك الفترة ترددت تصريحات كثيرة عن اهمية المصافي وتسريع انشائها حيث – في ذلك الوقت – مر ما يقرب من 20 عاماً على بدء تشغيل آخر مصفى (صلاح الدين 2 في 1984). وقال وزير النفط ثامر الغضبان “إننا بحاجة إلى إضافة 450 ألف برميل باليوم من طاقة التكرير في ثلاث مصافي، في الجنوب والوسط وفي كردستان”.
وكان السائد أن مصفى الوسط، الذي سمي مصفى النهرين، هو أسرع طريقة لإضافة طاقة تكرير مفيدة. بدأ المشروع في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وتم استثمار الكثير في موقعه هندسيا وماليا. اذ تم بالفعل تنفيذ الكثير من أعمال الهندسة المدنية والخزانات وخطوط الأنابيب. لذلك، جرى العمل على إعادة مناقصة الوحدات الانتاجية والتفاوض حول اتفاقيات الترخيص بقصد تحديثها وأن يمول المشروع من ميزانية الوزارة لمصفى بطاقة 140 ألف برميل / باليوم وبكلفة أكثر من مليار دولار.
في ظل النمو الذي كان سائدا والمتوقع لاستهلاك المنتجات النفطية، وإذا كانت الوزارة ماضية في انشاء مصفى الوسط فقط، فسيتعين عليهم استيراد الغازولين لعام 2011 والمقطرات الوسطية (زيت الغاز والنفط الابيض) حتى عام 2015. لذا فالحاجة واضحة لإنشاء مصافي كبيرة ومتطورة اخرى والى بناء المشاريع التحويلية في مصفيي بيجي والبصرة لتحويل فائض زيت الوقود الى منتجات خفيفة.
وهكذا فان وثائق المناقصة لمصفى الوسط اعدت واعلنت المناقصة في 2005 وخصصت الوزارة في ميزانيتها لتلك السنة 120 مليون دولار لذلك المشروع.
الآن وبالنظر الى الخلف، ارى ان البعض – وانا منهم – كانوا مفرطين بالتفاؤل وان النوايا غير كافية لتحقيق الاهداف. فالذين جاءوا لاحقا، بعد استقرار سلطة الاحتلال، هم من يملكون القرار وهم الى اليوم مسؤولون عن تدهور صناعة التكرير. فإلى اليوم ونحن في 2023 ليس هناك مصفى الوسط (كربلاء) ولا مصافي مشابهة او اكبر ولا وحدتي التكسير في بيجي والبصرة وكل ما تم اضافته لا يتعدى وحدات تقطير اولية وقليلا جدا من الوحدات اللاحقة لتحسين المواصفات بشكل لا يتناسب مع طاقة التقطير وظهور مصاف صغيرة في امكنة لا يعرف كيف اختيرت واقل ما يقال عنها انها من بنات افكار 1972. ما الذي حدث اذا وكيف تغير الاتجاه؟ جاء حسين الشهرستاني (المعلم، البرفسور، الدكتور الذي رفض صنع قنبلة صدام) وغير ذلك من القاب التبجيل التي كانت تلقى عليه، جاء في 2006 وزيرا للنفط ونائبا لرئيس الوزراء لشؤون الطاقة وكانت باكورة اعماله الغاء مصفى الوسط وتحويل موقعه الى منطقة في كربلاء لأسباب اقل ما يقال عنها انها غير موضوعية.
خسارة ناجمة
ولكن الشهرستاني لم يقل للعراقيين ماهي الخسارة الناجمة عن هذا القرار ولا كم سيكلف نقل المشروع الى كربلاء التي تتشرف بمرقدي سيدنا الحسين واخيه العباس ولا حاجة لها باي شرف يضيفه لها مشروع صناعي وهي المنطقة التي تحوي الكثير من بساتين العراق وصناعته الغذائية ايضا.
مصفى الوسط، للذين لا يعلمون كان مخططا له في أواخر الثمانينيات أن يكون في محافظة بابل شمال الحلة بين بلدتي المسيب والإسكندرية في المنطقة المعروفة اليوم باسم جرف الصخر. كان الموقع مثالياً بمعنى أنه قريب من محطتين حراريتين للطاقة ستستهلكان زيت الوقود المنتج في المصفى، وبالقرب من منطقة الطلب المرتفع في بغداد، كبديل لمصفى الدورة، وبالقرب من خط أنابيب النفط الخام الاستراتيجي … إلخ. ربما بدأ إعداد الموقع وإنشاء المرافق الخارجية في عام 1988 وقد تم التنفيذ من قبل الشركة العامة للمشاريع النفطية ولكنه توقف أو تباطأ بعد آب/أغسطس 1990 بسبب الحظر المفروض على العراق.
كانت حالة الموقع في مارس 2003 قبل غزو العراق متقدمة نسبيا حيث تم إجراء فحص كامل للتربة واستبدال السطحية منها بقاعدة سفلية بكمية 5 ملايين متر مكعب مع الانتهاء من أساسات 66 خزان وانتهى العمل ايضا من جميع المكاتب المؤقتة والمرافق السكنية ومن تشييد المباني الدائمة بنسبة تصل إلى 68 بالمئة . وتم استلام 70 ألف طن صفائح فولاذية للخزانات بالموقع. و تم إنشاء مرافق سحب المياه من نهر الفرات وخط الأنابيب إلى المصفى اضافة الى انجاز العديد من خطوط الأنابيب الطويلة للنفط الخام والمنتجات لربط المصفى بالمستودعات الرئيسية ومناطق الاستهلاك بما في ذلك: إلى مستودع اللطيفية وإلى مستودعين في محافظة الأنبار والى خط أنابيب الغاز السائل القطري. وكان خط أنابيب النفط الخام في مكانه بالفعل وتم تمديده إلى مصفى الدورة. اضافة الى خط فائض المنتجات التي ستعاد الى الخط الاستراتيجي.
وبعد الاحتلال كان من الصعب تقييم حالة الأعمال المذكورة أعلاه حيث تم نهب الموقع الذي كان محتلاً من قبل الأمريكان كمقر لهم حتى نيسان/أبريل 2004.
ولا أحد يعرف أين اختفت 70 الف طن من صفائح الخزانات ولا ما حل بالأنابيب وغيرها مما كان في الموقع. ودون الدخول في التفاصيل فان مجمع البتروكيماويات رقم 2 الملاصق للمصفى قد حظي بنفس المصير حيث بدء العمل عليه في عام 1987 من قبل وزارة الصناعة كمشروع يتكامل مع مصفى الوسط فنيا وانتاجيا.
الا ان اي عمل على الموقع الجديد لم يبدأ على الفور كما كان متوقعا وكان علينا الانتظار سنوات عديدة. وفي يوم من عام 2010? دُعى الشهرستاني إلى البرلمان للمسائلة عن نقص المنتجات النفطية في البلاد. اذ لم تكن المصافي تلبي الطلب المحلي وكانت الدولة تستورد ما يقرب من 100 الف برميل يوميًا من المنتجات النفطية الخفيفة المكلفة.
غادر الشهرستاني البرلمان وهو في قمة انتصاره بعدما أعلن أن وزارته تعمل على بناء أربعة مصافي في الوقت نفسه – كان مصفى كربلاء منها – رغم ان احدا لم ينتبه الى ان خطته التي اعلنت في نفس الوقت وبشكل مفاجئ ولم يعرف أحدا على أي أساس اُختيرت المواقع أو دراسات الجدوى من ورائها.
ويستمر نزيف الاستيراد وبسبب تعذر العثور على مستثمرين من القطاع الخاص، قررت الوزارة في كانون الثاني/يناير 2014 توقيع عقد مع شركة هونداي وشركائها لبناء مصفى كربلاء بتمويل من ميزانيتها الخاصة بعد ثمانية سنوات من الغاء مشروع مصفى الوسط.
بلغت قيمة العقد 6.5 مليار دولار، وتعد تكلفة باهظة اذا ما قورنت بتكلفة المشاريع المماثلة والمتزامنة في المنطقة مثل مصافي الزور في الكويت وينبع والجبيل في المملكة العربية السعودية؛ حيث يبلغ معدل الاستثمار في التكرير للبرميل/يوم حوالي 24 ألف دولار بينما يبلغ في مصفى كربلاء أكثر من 46 ألف دولار. وكان المتوقع انتهاء اعمال الانشاء والبدء بالتشغيل في عام 2018 الا ان تأخيرات كثيرة حدثت نتيجة عدم دفع مستحقات المقاول وربما بسبب جائحة كورونا وترتب على العراق ان يدفع مبالغ اضافية لخزن المعدات وغيرها ويقال ان الكلفة النهائية قد تصل الى ثمانية مليارات دولار.
الآن ونحن في وسط 2023 ومصفى كربلاء قد افتتح رسميا ثلاثة مرات مما يعني ان هناك على الاقل مشاكل تمنع من تشغيل المصفى واستقراره بالكامل واستلامه من المقاول مما ادى الى ان يكون المصفى موضوعا اعلاميا مثيرا كما سبق ان بينا.
اعود الى تقرير شركة (تكنيب) الصادر في آذار 2023 والذي اعتمد في كثير من المناقشات الجارية. وبرأيي ان ذلك التقرير ربما جزء من تقرير اوسع قدمته الشركة الاستشارية عن حالة المصفى ولم يتسرب منه الا هذا الجزء الذي يشير الى فحص شبكة مياه التبريد لوحدة هدرجة النفط الابيض ووجود تآكل موضعي كبير في احد الخطوط وتبديل قطعة من الانبوب واكتشاف مدى الشوائب والترسبات الكبيرة على سطحها ودون وجود دليل على تلافي ذلك اثناء الفحص او التشغيل من قبل المقاول.
وتعزو الشركة سبب الترسبات والتآكل الى رداءة مياه فحص الضغط للشبكة ومعداتها من مبادلات تبريد المنتجات. ونستنتج من ذلك ان المشكلة قديمة ولا تتعلق بالتشغيل الذي ربما يجري حاليا اذ تشير (تكنيب) باعتبارها استشاري ادارة المشروع الى ان “متطلباتها لفحص الانابيب لم تتبع” وانها بذلك “اوضحت ان المقاول لم يقم بالفحص لكشف حالة الانابيب وان جهده يمكن ان يصنف على انه غير موجود” وان المعالجات الجارية لا يمكن اعتبارها مقبولة. وينتهي التقرير بالطلب من المقاول اجراء حملة فحص هندسي على شبكة مياه التبريد وتنظيفها وتبديل اجزائها التي وصلت حدها من التآكل.
وكمختص، اقول ان التقرير يأشر بالتأكيد على وجود مشكلة كبيرة في كل شبكة مياه التبريد للمصفى ولا يقتصر على وحدة انتاجية واحدة. ولكن التقرير لا يتحدث عن وضعية مبادلات تبريد المنتجات التي يدخلها هذا الماء وهو برأيي الاهم والاخطر اذ ان انابيبها الصغيرة اكثر عرضة للانسداد والتآكل.
اذا نحن بحاجة الى معلومات اكثر ليس من الاعلام بل ممن يمكن ان يكون عنده علم. ومرحبا بمقالة في شبكة الاقتصاديين العراقيين في 28/6/2023 في حقل ” اوراق سياسية في بناء المصافي النفطية” كتبها عبدالحسين الهنين تحت عنوان “مصفى كربلاء والافتتاح الثالث”. واهمية المقال تكمن بان صاحبه “خبير فني ومستشار سابق لرئيس الوزراء العراقي” اي انه ممن عنده علم بحكم موقعه واطلاعه على تقارير سابقة حول المصفى.
يفتتح السيد الهنين مقالته بان “توقيع عقد المصفى آنذاك كان أمرا رائعا وان العراق لازال بحاجة لعدد من المصافي المماثلة. لكن تفاصيله التعاقدية فنيا وماليا تبقى محط نظر و اعتراض”. وعلى ضوء افتتاح المصفى ثلاثة مرات ووضع المصفى الحالي يقول “ربما سيكون هناك افتتاح رابع وخامس” رغم التشغيل الجزئي لوحدة التقطير الجوية. ويشير الى ان شهادات الضمان لمعدات المشروع قد انتهت بحكم تأخر المشروع وعدم تجديدها من قبل المجهزين “لان هذه المعدات مصنعة منذ عام 2015 و2016 و قد تم تنصيبها في مواقعها منذ عام 2017” ويشير الى “الضرر الناتج عن سوء اختيار تراكيب مواد المعدات الذي لم يكن وفق معايير هندسية عالية بحيث تقاوم الظروف الكيمياوية والحرارية” بدليل “ظهور مشاكل خطيرة في المشروع منها التآكل الشديد لحوالي 319 مبادل حراري رغم انها لم تدخل الخدمة الفعلية”. وان ذلك موثقا في تقرير شركة (تكنيب) المؤرخ في 23/1/2023 وهو غير التقرير المشار اليه اعلاه.
وينصح السيد الهنين “باستقدام شركة مختصة لتقييم حالة المصفى فنياً و تصميمياً و أجراء الفحوصات الدقيقة لجميع معدات المصفى والتعاقد مع شركة متخصصة في تشغيل المصافي واستبعاد أي جهة ذات مصلحة في هذا الملف فقد تكون متورطة بقصد او نتيجة قلة الخبرة في هذه الاخفاقات خشية ان يتم تقديم تقارير مضللة للجهات العليا مثلما جرت العادة في احداث سابقة “.
الا تسكب العبرات على هذه الوضعية؟ اين ادارة المشروع العراقية؟ اين شركة المشاريع النفطية صاحبة عقد المشروع؟ اين شركة (تكنيب) يوم استعملت مياه غير مناسبة في فحص الضغط؟ ولماذا لم تفرغ تلك المياه وتجري المحافظة على المعدات ميكانيكيا وكيمياويا؟ اين من يقول لنا بالضبط ماهي وضعية المصفى ويصارح العراقيين بالحقيقة؟ وكيف سمح للمقاول بالتصرف بهذا الاسلوب المنافي لأبسط القواعد المعتمدة؟
وأخيرا دعوني اذكركم بأننا في مؤسسة المصافي في سنة 1983 قمنا بتشغيل مصفى الشمال الذي بنفس حجم مصفى كربلاء وبنفس التعقيد الذي كان بأشراف شركة المشاريع النفطية وادارتها ولم يكن هناك استشاريا مثل (تكنيب) معنا. وكذلك الحال في تشغيل مصفى صلاح الدين 1 في 1982 وصلاح الدين 2 في 1984 ومجمع غاز الشمال في 1983 ولم يكن لنا سوى البهجة والفرح باكتمال التشغيل دون مشاكل. اذكركم بذلك لتدركوا مدى التقدم او التخلف الذي نحن فيه اليوم.
منقول من جريدة الزمان بتاريخ 15 تموز 2023