مسلسل مصفى بيجي في موسمه الجديد
الاستاذ سعد الله الفتحي
العضو المؤسس في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
لجنة الصناعة والطاقة
{ رئيس المؤسسة العامة لتصفية النفط وصناعة الغاز سابقا)
ضجت القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي اثر اعلان رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني استعادة معدات واجهزة مصفى بيجي المسروقة منذ نهاية 2015 وبداية 2016 حيث قال “إستعدنا بعد جهود مخلصة من قبل جهات رسمية وغير رسمية، المعدات والمستلزمات والأجهزة المسروقة من مصفى بيجي، و التي تقدر حمولتها بـ60 شاحنة، وقد تصل إلى 100.وهي تمثل نسبة كبيرة ممّا يحتاجه هذا الموقع المهم”. واضاف “المعدات عبارة عن أجهزة مفصلية يمكن أن تكلفنا ملايين الدولارات، ولو طلبناها ستحتاج سنوات لتصنيعها، واليوم باتت في الموقع”.
تنفيذ وصية
ثم تبع ذلك مقابلة للسيد خيرت الحلبوسي، رئيس لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب والذي بين ظروف اتصال الشخص الذي كانت المواد المسروقة بعهدته وطلب اعادتها الى المصفى نتيجة وصية اخيه الاكبر الذي كان قد اشتراها – بعد وصولها الى اربيل – بمبلغ ثلاثمائة مليون دولار ولم يجد خيرا منها والذي توفي سنة 2019. ولم يقل لنا السيد الحلبوسي لماذا تأخر تنفيذ الوصية اكثر من اربعة سنوات ولا من اوصل المواد المسروقة الى اربيل. وتوسع باجتهاداته حين قال بان مصفى بيجي اكبر مصفى في الشرق الاوسط وهذا كلام دعائي ليس له ذرة من الواقع على افتخاري بسعة مصفى بيجي ومكانته التكنولوجية. وذكر ايضا ان السارق – المتستر عليه بإصرار – قد قام بإحداث فتحات في احد المفاعلات – وهو بسمك 29 سنتمتر – نتيجة عدم تمكنه من سرقته. ولا اعتقد ان هذه انطلت على ابسط الفنيين في بيجي الذين يعرفون جيدا امكانية القطع بشعلة اللحام. واذا كانت هذه الفتحات موجودة فعلا فأنها ربما بفعل القصف بالمدفعية والطائرات التي لا يود احد التكلم عنها او عن ضرورتها وما احدثته من تخريب.
عموما لم يلقى بيان السوداني ولا ما قاله الحلبوسي قبولا واسعا من عدد كبير من المعلقين ولا من غالبية المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة ان كلاهما رفضا التصريح عن الجهة التي سرقت المعدات وباعتها الى التاجر الكردي الذي استيقظ ضميره بعد سبع سنوات واعادها للحكومة. والحقيقة ان ليس هناك مصداقية في جوانب اخرى فقد برأ خيرت الحلبوسي اقليم كردستان في ان مسؤوليه ليس لهم علم بوجود تلك المواد في اربيل وهذا امر لا يصدق خاصة وان حكومة الاقليم قد اقفلت عليه تجاه بقية العراقيين الداخلين او ما يجلبونه من مواد.
وبغربلة كل ما اعلم باليقين – وما كتبت عنه في اكثر من مناسبة – وكل ما قيل ويقال فان القضية لا تتعدى ان مليشيات الحشد الشعبي وخاصة العصائب قد سيطرت على المصفى بعد اندحار داعش وفتحت سوقا لبيع المواد المنهوبة واستمر الوضع لفترة طويلة وان التاجر الكردي الشريف قد كان من اكابر المشترين بحيث يدعي ان مشترياته بلغت اكثر من 300 مليون دولار. اراد لاحقا ان يبيعها للحكومة او غيرها على عدة مراحل بتخفيض مطالبه المالية تدريجيا. ولم يتمكن لأسباب متعددة من بينها فساد اللجان الحكومية المكلفة بمفاوضته وغير ذلك الى ان اصبح تخلصه من المواد هو الاصرف له لتبرئة ذمته وربما حتى مسائلته قانونيا.
لكن اود ان اذكر بان منهوبات من مواد ومعدات ثابتة ومتحركة اخرى قد بيعت في وضح النهار في اطراف بغداد بينها سيارات واليات انشاء ومواد هندسية عامة من انابيب وصفائح وغيرها. وحتى الادوات الاحتياطية والكيمياويات سرقت وبيعت لجهات مختلفة وليس للتاجر الكردي فحسب. واذا سألتني من المسؤول فأقول جميع الحكومات من حيدر العبادي الى السوداني وكل وزراء النفط الذين لم يدافعوا عن اهم مرفق في كل صناعة التكرير العراقية كان يجهز ما يقرب من اربعين بالمية من منتجات العراق من غازولين وزيت الغاز والنفط الابيض والغاز السائل. والقصة لم تنتهي وسنسمع الكثير في المستقبل القريب ولربما سنكتشف ان الجريمة ربما تتجاوز قيمتها وتأثيراتها سرقة القرن الشهيرة.
هذا يكفيني للدخول فيما اود ذكره من الناحية الفنية.
ابتداء اقول بانني سعيد جدا باسترجاع اي مواد مسروقة من مصافينا او غيرها كسعادتي باسترجاع ولو جزء بسيط من ميزانيات العراق المسروقة ايضا. ولكن ذلك لا يعني ان المعدات والمكائن والاجهزة المسترجعة ستتحقق الغاية منها. فالآراء السائدة قالت بان المواد ليست سوى سكراب او منتهية الصلاحية وان جلبها ومحاولة الاستفادة منها الان سيكون مكلفا وربما يتجاوز كلفة الجديدة منها. واذ اميل الى هذا الراي كثيرا اقول ايضا دعونا ننتظر الفحص الهندسي الدقيق لعل وعسى.
اجراءات احترازية
في 22 ايلول 1980 وفي مساء اول يوم من الحرب مع ايران قمنا بإيقاف الوحدات الانتاجية في مصفى البصرة وتم تنظيفها بالبخار وادخال النيتروجين اليها لاحقا. كان ذلك تحوطا من ان تقصف وهي في حالة اشتغال وما يتبع ذلك من حرائق او انفجارات. بقي مصفى البصرة متوقفا الى نهاية الحرب في 1988 رغم اكثر من محاولة لتشغيله وخاصة في 1982 الا ان الظروف الامنية لم تكن تسمح بذلك.
لذا كان علينا اعداد خطة واسعة للصيانة الحفاظية تضمنت غسل المعدات قدر الامكان بزيت الغاز، افراغ الماء من شبكات التبريد او اشباعها بمواد مقاومة التآكل،
ملأ المضخات وامثالها بزيت الغاز وتدويرها دوريا خوفا من هطول محاورها، رفع الاجهزة الدقيقة وبعض صمامات السيطرة وخزنها في مخازن نظيفة وامينة. واضافة الى كل ذلك ضخ غاز النيتروجين باستمرار الى كل شبكات الوحدات والمحافظة على الضغط خوفا من دخول الاوكسجين من الهواء وتأثيراته. الى اخر ذلك من إجراءات معروفة عالميا في توقيف الوحدات الانتاجية لمدة طويلة.
كانت ادارة مؤسسة المصافي توفد لجنة خاصة دوريا لمراقبة اداء مصفى البصرة بالنسبة للصيانة الحفاظية وكانت صلاحية اللجنة مطلقة في المحاسبة او في اجراء تعديلات بالتعاون مع مدير عام المصفى. ونتيجة لذلك تم تشغيل المصفى في 1988 بسلاسة وبتجاوز القليل من المشاكل. وحدث الشيء ذاته بالنسبة لمشروع غاز الجنوب الذي ربما استلم من المقاول في 1984 لكن لم يتم تشغيله الا في 1988 بعد توقف الحرب.
فهل تم اي اجراء من هذه عند توقيف مصافي بيجي في اعقاب دخول داعش في 2014? الجواب كلا طبعا. وهل تم ذلك بعد تحرير المنطقة؟ الجواب كلا ايضا. وهل قام السراق بتفكيك الاجهزة والمعدات بطريقة اصولية قبل تحميلها على الشاحنات. الجواب غالبا كلا مما رشح من المنتسبين في حينه او مما شاهدناه على التلفزيون لبعض المعدات المعادة. وقال لي احد العارفين ان التفكيك كان بطريقة “الخمط” وان كابسة مثلا فصلت عن محركها وهكذا بالنسبة لأجهزة القياس والسيطرة الحساسة. ثم هل قام التاجر الكردي بتنزيل المعدات وخزنها بطريقة اصولية وتدوير المضخات والكابسات والمحركات بصورة دورية؟ والجواب على ذلك ربما كلا ثم كلا. هذه العمليات ليست سهلة والاجهزة في مكانها وليست في جملون عادي ربما شبع غبارا او رطوبة حسب الموسم. لذا من حق الشكاكين في امكانية الاستفادة من المواد المعادة وقد اورد بعضهم اسبابه التي تتماشى مع ما ورد اعلاه.
وبدلا من التواضع في مسألة الاستفادة من المواد، نجد السيد الحلبوسي يعطي تصريحا ويكاد يكون جازما بان مصفى الشمال سيشتغل في الربع الأول من 2024 وهذا ابعد ما يكون عن الواقع في احسن الظروف. ان تعويض النقص في اي من اوعية الضغط او المضخات والكابسات الكبيرة في زحمة السوق العالمية قد يستغرق سنة ونصف او سنتين. كما ان جهود منتسبي المجمع الرائعة يجب تعزيزها بالشركات الهندسية والمصنعة بعيدا عن الروتين وبصلاحيات تتناسب مع اهمية المشروع وفائدته الكبيرة للعراق وهذا ما لم نجده في عمليات اعمار مصفيي صلاح الدين ا و 2.
والغريب ان السيد السوداني يقول ان “تشغيل المصفى سيُغلق باب استيراد المشتقات النفطية لعموم العراق، إضافة إلى المصافي التي أنجزت مؤخراً.” وهذا ايضا بعيد عن الواقع حيث كانت استيرادات العراق من الغازولين والنفط الابيض وزيت الغاز بحدود 141 الف برميل باليوم كمعدل في النصف الاول من هذا العام وان انتاج مصفيي الشمال وكربلاء لن “يغلق باب الاستيراد” حتى لو تم اصلاح الشمال وتشغيل كربلاء بانتظام.
وأخيرا دعوني اقول ان الاعلام مشكورا على تغطية الموضوع واتاحة الفرصة للعراقيين لمتابعة هذه القضية المهمة اخباريا وسياسيا. لكنني استغرب ان رأي الاختصاصيين غاب عن النقاش وهو المعول عليه في النتيجة. كما اننا لم نسمع شيئا من منتسبي مصافي بيجي لحد الان وهم معذورون اذ وسط هذا الكم من الدعاية ربما سكوتهم مبرر.
منقول من جريدة الزمان بتاريخ 23 اب 2023