قانون غريشام ولعنة التضخم في تركيا التي طالت النقود المعدنية
قانون غريشام ولعنة التضخم في تركيا التي طالت النقود المعدنية
شوان زنگنه
عضو اللجنة الاقتصادية في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
باحث سياسي واقتصادي ، مستشار حكومي سابق
تمهيد
هل لعنةُ التضخم في تركيا طالت النقودَ المعدنية؟ سؤالٌ خطرَ على بالي وأنا أقرأ مقالًا للاقتصادي التركي المحنك الشهير البروفسور محفي اغيلماز، يحذّر فيه دارَ ضربِ النقود التركية من قلّة وَفْرة وتدَاولِ النقود المعدنية، طالبًا منها إجراء التحقيقات اللازمة بهذا الخصوص، مخافة أن يكون قد قام البعض بجمع النقود المعدنية من الأسواق وإذابتها، ثم بيعها كسبائك معدنية، علمًا بأن هذه النقود تُسَكُّ بخليطٍَ من معادن النحاس والنيكل والجينكو (الفافون).
ويتساءَلُ البروفسور اغيلماز، فيما إذا كانت نسبة التضخم العالية في تركيا قد تسببت في ظهور “قانون غريشام” بعد 500 سنة مرة أخرى!
وقد تزامنَ تصريحاتُ الأستاذ محفي اغيلماز، مع انشغالي في إعداد بحثٍ شامل ومتكامل عن النقود عبر التأريخ، تطورها وتوسع وظائفها وتغيّر صفاتها والنظريات المتعلقة بدورها في المؤشرات الاقتصادية، فلفت نظري ربطه بين التضخّم والنقود وقانون غريشام، وهذا هو ما وجدته مفصلا لدى المقريزي وابن تيمية قبل قرون، ما حثني على الكتابة فيه بشيء من البيان والتوضيح.
قانون غريشام
يُنسَبُ هذا القانون إلى واضعِه الاقتصادي الإنجليزي، توماس غريشام (1519م -1579م)، ويتلخص القانون أو النظرية في أنه حينما تتعدّد أنواع النقود أو العملات في اقتصادٍ ما، فإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول، وذلك لميل الناس إلى الاحتفاظ بالعملة الجيدة، واستخدام الرديئة ثمنا لمشترياتهم، توفيرا للنقد، وبذلك تختفي النقود الجيدة من الأسواق.
ويَنسِبُ الاقتصادُ المعاصر الفضلَ في وضعِ أسُسِ هذه النظرية إلى الاقتصادي الإنجليزي، توماس غريشام، الذي عاش بين عامي 1519 و1579، وتقوم نظريته على أنه بحال وجود نوعين من النقود بالسوق، نوع جيد تعرّض لتخفيض قيمته وآخر رديء رفع المشرّع من قيمته بشكل يفوق الواقع فإن النقد الرديء يطرد الجيد من السوق.. ولم تتفاوت قِيَمُ النقود المعدنية، وتتَصنّف إلى جيدة ورديئة، إلا لأسباب اقتصادية وسياسية بحتة، يأتي التضخم على رأسها، جنبا إلى جنب، مع قرارات الأمراء والرؤساء بتعدين نقود رديئة للتوفير على الخزينة، أو لوجود نقود مكسورة، أو مغشوشة، أو مضروبة خارج دور الضرب في الأسواق، كلُّ ذلك يجعل قيمة النقد السوقية أقلّ من قيمة معدنها في التداول، وهذا يدفع المتعاملون في الأسواق، إلى الاحتفاظ بالنقود الجيدة، وجمعها وإذابتها، ثم بيعها بسعر أعلى من قيمتها كنقد.
الظواهر الاقتصادية لقانون غريشام عبر التأريخ
ظهر قانون غريشام عبر التأريخ كثيرا، وبأشكال متعددة، نورد بعضًا منها كما يلي:
* ظهورُ أزمةِ النقود المعدنية العظيمة في أوربا والدولة العثمانية في أواخر القرن الرابع عشر، ومنتصف القرن الخامس عشر، نتيجة انقطاعِ سلاسلِ الإمدادات بين مناجم المعادن ودور الضرب والتعدين، والميزانِ التجاري السالب بين أوربا والشرق، فارتفعت أسعارُ خامِ الذهب والفضة، وانكمشت النقود المعدنية، حتى اضطرَّ السلطان محمد الفاتح إلى تخفيض قيمة العملة ست مرات، فأخذ الصرافون بإخفاء العملات النقدية الأصلية وإذابتها، وبيعها كذهب وفضة، لأن أسعارها تفوق أسعار النقود الذهبية والفضية المنكمشة، فطردت بذلك النقودُ الرديئةُ النقودَ الجيدةَ الأصليةَ من الأسواق.
* قيامُ كندا وأمريكا بإصدار نقود معدنية من فئة ربع ونصف دولار كبديل لنفس الفئات الفضية المتداولة في الأسواق وذلك في الفترة بين 1964م و1968م، فاختفت على الفور النقود الفضية، بعد أن قام الناس بالاحتفاظ بها، للاستفادة من طبيعة معدنها النفيس الذي صار أعلى من قيمتها كعملة.
* ظاهرةُ التضخّمِ الْمُطَّرِدِ والمتسارعِ في الارتفاع في تركيا جعلت قيمةَ النقود المعدنية (الليرة)، وبكل فئاتها، أقلّ من قيمة المعادن التي تشكلت منها، وهي النحاس والنيكل والفافون، في مقابلِ ارتفاعِ أسعارِ السّلعِ والمعادنِ، فدفعت هذه الظاهرة تجّار السوق إلى جمعها والاستحواذ عليها، لغرض إذابتها، وبيعها في السوق كسبائك معدنية، مما جعل سوق التداول يعاني من نُدرتِها في تعاملاتها اليومية.
ولا ينحصرُ تطبيقُ نظريةِ “قانون” غريشام على النقود فقط، بل هي تنطبق على جميع السلع التي تشهد ظروفا مماثلة، تفوق فيها قيمة هذه السلع الحقيقية، القيمة التي يُطلب فيها من الناس دفعها حسب قانون العرض والطلب، ففي سوق السيارات تقوم السيارات المستعملة بشكل محدود أو المعاد تجديدها بالسيطرة على السوق وطرد السيارات الجديدة التي يتراجع الإقبال عليها وذلك لأن التجار سيؤكدون بأن سياراتهم المستعملة بشكل محدود أو المعاد تجديدها مساوية من حيث الجودة لتلك الجديدة، ما سيدفع الزبائن إلى الإقبال عليها لتوفير المال نظرا لعدم وجود ما يميزها عن الجديدة، أو إذا تسبب التضخم بارتفاع أسعار السيارات المستعملة، حتى تصبح أكثر جدوى من أسعار السيارات الحديثة، حينئذ ستطرد السيارات المستعملة السيارات الحديثة.
وقد أشار إلى نفس الأسس التي بنى عليها غريشام نظريته أعلاه، كلٌّ من المقريزي، وابنِ تيمية، فكتبا عن النقود الجيدة والرديئة، وتداول النقود والتضخّم ودَورِ الدولة في حماية المواطنين.
النقود من منظور المقريزي وابن تيمية
يمكنُ اعتبارُ المؤرخ الاقتصادي أحمد بن علي المقريزي (1364م-1441م) الواضعَ الحقيقيَّ لأسس “قانون غريشام”، فقد قام بدراسة العلاقة بين الأسعار والكتلة النقدية المتداولة في السوق، فتوصل إلى وضع أسس القانون الاقتصادي الذي يشير إلى أن “النقود الرديئة” أي المصنوعة من المعادن الزهيدة التكلفة، مثل النحاس والحديد، تطرد النقودَ المسكُوكة من المعادن النفيسة، مثل الذهب والفضة، وذلك لأن طرحَ النقود المعدنية، وإكثارها في الأسواق، يرفعُ الأسعارَ الفعلية للذهب والفضة بما يفوق أسعارَ الصرف المحدَّدة، وهذا يدفع الناس إلى تخزينهما والاكتفاء بالتبادل التجاري بالمعادن الرخيصة.
وقد أشار تقي الدين ابنُ تيمية، في فتاويه إلى هذه النظرية، في معرض حديثه عن دور السلطان في صيانة النقود، فذكر أن على السلطان الحفاظ على قيمة النقود وإلا غَلَتِ الأسعارُ وانتشرَ الفقرُ.
كما أنه قال: “ينبغي أن يضرب الإمام للرعايا فلوسا تكون بقدر العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتّجرُ ذو السلطان في الفلوس، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتّجرَ فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب النحاس بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصنّاع من بيت المال، فإن التجارة فيها ظلمٌ عظيمٌ، وأكلٌ لأموال الناس بالباطل.”
وقد حذّر ابن تيمية من أن السلطان إذا قام بسَكِّ “الفلوس” وهي عملات نحاسية أو حديدية: “أفسد ما كان عندهم من الأموال بنقص أسعارها” مضيفا أن النبي “نهى عن كسرِ سكّةِ (عملة) المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس.
الخاتمة
واضحٌ أن التضخّم في تركيا ضربَ النقود المعدنية، كما ضربَ كلَّ مناحي الحياة الأخرى، وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال، فإن الحكومةَ ستضطرُّ في النهاية إلى رفع هذه النقود عن التداول، واستبدالها بأوراق نقدية.