إختلالات هياكل القوى العاملة في العراق وسبل معالجتها
إختلالات هياكل القوى العاملة في العراق وسبل معالجتها
إعداد: إسماعيل الدليمي
مقرر اللجنة الاقتصادية
بإفتراض أن السكان النشيطين إقتصادياً في العراق هم الفئة العمرية ما بين 16-45 سنة ذكوراً وإناثاً والذين يمثلون القوى العاملة التي يمكن إعادة تأهيلها، بما يتناسب مع إحتياجات أسواق العمل لأسباب تتعلق بقصور في المؤهلات الناتجة عن ضعف عمليات التعليم والتدريب في البلاد، والمرجح أن هؤلاء يمثلون نسبة عالية من مجمل القوى العاملة الفعالة والمنتجة في المجتمع، على إعتبار أن الفئات العمرية دون السادسة عشرة منقسمة ما بين الملتحقين في صفوف الدراسة حتى نهاية المرحلة المتوسطة (التعليم الأساسي) وبين المتسربين من النظام التعليمي أو عدم إلتحاقهم بالنظام وخاصة الأناث، لأسباب تتعلق بأحوالهم المعيشية ومواقع سكنهم لا سيما سكان الأرياف، أما السكان من الفئات العمرية ما فوق 45 عاماً فأن نشاطاتهم أخذت شكلها النهائي في إكتساب المهن والمهارات بما في ذلك ربات البيوت ومن الصعب إجراء تغيرات على مؤهلاتهم وأنهم مستمرون بنشاطاتهم حتى سنوات متقدمة من العمر.
إن حجم القوى العاملة ضمن حدود الفئات العمرية المذكورة أعلاه بعد إستثناء الملتحقين بالدراسة والتدريب في مختلف المستويات، يعبر عن القوى العاملة المنتجة وغير المنتجة التي تعمل بالقطاعات الأنتاجية والخدمية في القطاعين العام والخاص والتي تشمل منتسبي الأدارات الحكومية الأدارية والفنية بأنواعها ويشكلون أعدادأ غفيرة، إضافة الى العاملين في القطاعين العام والخاص بنشاطاتهما المختلفة، فضلاً عن العاطلين والباحثين عن العمل، وهؤلاء يمكن إعادة تأهيل أعداد كبيرة منهم للمهن والأختصاصات المختلفة.
وأن أعداد منتسبي الأدارات الحكومية الممولة مركزياً ضمن موازنة العراق لعام 2019 كانت بحدود ثلاثة ملايين منتسباً بمختلف الدرجات الوظيفية يقابلها أعداد تزيد عن الأربعة ملايين منتسب في الأدارات والمؤسسات الحكومية الأخرى الممولة ذاتياً، ولا بد أن تكون هذه الأعداد قد زادت خلال العامين اللاحقين سواء كان ذلك ضمن الموازنة الممولة مركزياً أو ضمن إدارات التمويل الذاتي. أما الأعداد المتبقية من القوى العاملة فتمثل البطالة الهيكلية الظاهرة والتي تشمل جميع العاطلين عن العمل ذكوراً وإناثاً بما فيهم خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس المهنية ومراكز التدريب المهني وخريجي الدراسة المتوسطة والدراسة الثانوية الذين لم يلتحقوا بدراسات أعلى أو بمراكز تدريب أخرى. وقد قدرت نسبة العاطلين من جميع الفئات المشار اليها بما لا يقل عن 40% من القوى العاملة في العراق. كما أن أعداد العاملين في دوائر الدولة والقطاع العام تمثل زيادات واضحة ومؤكدة عن الأحتياجات الفعلية لخدماتهم بل وتمثل أعداد كبيرة منهم بطالة مقنعة ناتجة عن عمليات التوظيف دون الحاجة الحقيقية. ويمكن تصنيف القوى العاملة في العراق بحسب المستويات العلمية والثقافية والمهارات والمهن كما يلي:
- مستوى أدنى علماً ومهارة – ويحتوي هذا المستوى على مجموعة العمال ذكوراً وإناثاً من الأميين وممن يقرأ ويكتب حتى الصف الثالث أو الرابع إبتدائي، وغالباً ما يصنف هؤلاء بالقوى العاملة غير الماهرة لكن بعضهم يكتسب مهارات عالية نسبياً في مجالات الأنشاءات والسمكرة وبعض الأعمال الميكانيكية والكهربائية وإستخدام العربات والمكائن بأنواعها إضافة الى أعمال الخدمات الأخرى، وهؤلاء يكتسبون مهارتهم أثناء العمل وبإشراف من العمال المهرة أو الفنيين في مواقع العمل.
- مستوى متوسط المهارة – ويشمل القوى العاملة بمستوى نهاية المرحلة المتوسطة، وهؤلاء يصنفون بالعمال أنصاف المهرة الذين يكتسبون مهارتهم أثناء العمل ويمارسون المهن المشار اليها في الفقرة أعلاه.
- مستوى العامل الماهر – ويشمل خريجي المدارس المهنية ومراكز التدريب المهني وخريجي المدارس الثانوية الذين لم يلتحقوا بالجامعات والمعاهد وحتى الطلبة الذين لم يجتازوا إمتحانات الدراسة الثانوية، ويصنف هؤلاء كقوى عاملة ماهرة إكتسبت مهارتها من خلال الدراسة والتدريب في المدارس المهنية ومراكز التدريب المهني إضافة الى الذين يكتسبون مهارات في ميدان العمل وجميع هؤلاء يمارسون المهن في المجالات الصناعية والزراعية والنقل والأتصالات والخدمات بأنواعها.
- المستوى الفني أو التقني – ويكون التحصيل العلمي والفني لهؤلاء هو إجتياز مرحلة الدراسة في المعاهد الفنية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي إضافة الى المعاهد الأخرى التابعة للوزارات والمؤسسات ذات العلاقة مثل معاهد المعلمين للمستوى الأبتدائي ومعاهد الأتصالات والمعاهد التابعة لوزارة الدفاع والقوى الأمنية في ذات المستوى، ويمثل هذا المستوى الأطر الوسطى في القوى العاملة، وهو المستوى ما بين الأختصاصيين حملة البكالوريوس والعمال المهرة في الأختصاصات المختلفة، ويفترض في سلامة هيكل العمل الصحيح أن يقابل كل أخصائي حاصل على البكالوريوس (4-6) من الفنيين بحسب الأختصاص.
- مستوى الأختصاصيين – وهم خريجي الجامعات أي حملة شهادة البكالوريوس أو ما يعادلها في الأختصاصات المختلفة، وهؤلاء يمثلون الأختصاصات المختلفة في العلوم والآداب والفنون ويفترض أن تكون مواقعهم كقياديين في مواقع العمل في حقول الأنتاج أو الخدمات.
- مستوى الدراسات العليا – وهم الحاصلين على شهادات الدبلوم العالي أو الماجستير أو الدكتوراه في مختلف التخصصات، وهؤلاء يشكلون قمة الهرم في النظام التعليمي والمهني، وغالباً تكون مواقعهم كقيادات في الجامعات أو المعاهد المتخصصة يمارسون مهنة التعليم العالي إضافة الى القيام بالبحوث العلمية في المجالات المختلفة، والمعول عليهم كرياديين في حقول العلم والمعرفة.
أوضحنا فيما تقدم عرضاً موجزاً لهياكل القوى العاملة في العراق الذي تم إعتماده منذ سبعينات القرن الماضي وكان الأمل أن تتم المحافظة على تطبيقه بإعتباره متوافقاً مع المعايير الدولية بشهادة الخبراء الدوليين الذين واكبوا الأستشارة للعراقيين في هذا الميدان.
غير أن واقع الحال في العراق يعكس صورة أخرى تتمثل بحدوث إختلالات في هياكل القوى العاملة لا سيما في الفترة التي تعرض لها البلد للأحتلال وحتى الوقت الحاضر، ويمكن إجمال تلك الأختلالات بما يلي:
- فقدان السيطرة على توجهات الطلبة الى المسارات العلمية والفنية التي تحقق المحافظة على سلامة أوضاع هياكل القوى العاملة المطلوبة وفق الحاجة الفعلية لمخرجات تلك المسارات.
- ضعف الألتحاق بالمدارس المهنية ومراكز التدريب المهني بسبب توجه غالبية الطلبة بعد الدراسة المتوسطة الى الفروع العلمية والأدبية بدلاً من التوجه الى المدارس المهنية ومراكز التدريب المهني.
- التسرب من النظام التعليمي بعد المرحلة المتوسطة الى سوق العمل إضافة للألتحاق بالجيش والقوات المسلحة الأخرى دون حصولهم على فرص التدريب والتأهيل المناسبة.
- الأنخراط بالوظائف الحكومية دون الحاجة الفعلية لتلك الوظائف ودون أن يكون لمعظم هؤلاء المهارات المناسبة، ما يشكل بطالة مقنعة بنطاق واسع في معظم الوزارات والمؤسسات.
- ضعف المناهج التعليمية والتدريبية وضعف الألتزام بتطبيقها نتيجة الأنفلات والتسيب في النظامين التعليمي والتدريبي بسبب الظروف غير المواتية لتأمين جودة التعليم والتدريب.
- تدني مستوى المهارات لا سيما في الجوانب العملية والتطبيقية للأسباب سالفة الذكر.
- العزوف عن التوجه للعمل في القطاع الخاص لأنعدام الضمانات والتأمينات الأجتماعية والصحية للقوى العاملة بمختلف مستوياتها.
- ضعف وسائل الدعم المادي والمعنوي بما في ذلك التمويل للقوى العاملة الراغبة في إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة ضمن نشاطات القطاع الخاص.
- تراكم أعداد الخريجين من المدارس والمعاهد والجامعات بمختلف الأختصاصات لسنوات عديدة دون جهود حكومية بتأهيل الراغبين منهم بمهارات ومهن وفق حاجة البلاد.
- تشوه في هياكل القوى العاملة في العراق بسبب توجه الطلبة في مختلف الأختصاصات والمستويات نحو الدراسات الأكاديمية بحيث تكون أعداد خريجي الكليات متفوقة عن أعداد الفنيين والعمال المهدرة في المهن المختلفة بعكس ما هو مطلوب لتكامل قوة العمل وتحسين أوضاع هياكل القوى العاملة.
أما معالجة الأختلالات في هياكل القوى العاملة فلا بد من إعادة النظر في مجمل العمليات التعليمية والتوقف عن الهدر الحاصل في قوة العمل للأسباب والعوامل المنوه عنها في أعلاه، والتوجه نحو ما يلي:
- ضبط الأنفلات في توجه الطلبة نحو الدراسات الأكاديمية والنظرية في المستويات والتخصصات التعليمية المختلفة.
- إحكام السيطرة على توجه الطلبة بعد الدراسة المتوسطة بحيث يتم توجيه ما لا يقل عن 50% منهم نحو المدارس المهنية ومراكز التدريب المهني، مع التأكيد على ملائمة المناهج التدريسية والتدريبية في تلك المدارس والمراكز، لضمان مخرجات بحسب حاجة سوق العمل.
- إحياء نشاطات مؤسسات التعليم والتدريب المهني ومدها بالعناصر الكفوءة والتمويل المناسب لضمان إستيعاب الطلبة المتخرجين من المرحلة المتوسطة ذكوراً وإناثاً.
- أن يتم قبول الطلبة في الأختصاصات والمستويات التعليمية وفقاً للأحتياجات الفعلية لسوق العمل.
- إعادة النظر بالمناهج الدراسية بحيث يتم التوجه الى المهن والمهارات والأختصاصات والتقنيات الجديدة مثل الذكاء الأصطناعي والروبوت والتكنولوجيات الحديثة، مع توفير المدرسين والمدربين الأكفاء لضمان الحصول على قوى عاملة مؤهلة لمواجهة حاجات أسواق العمل.
- التوسع في قيام مشاريع للتدريب على المهن القطاعية المختلفة ضمن المؤسسات القطاعية بحسب إحتياجاتها وتعزيزها بالكفاءات التدريبية المناسبة.
- التأكيد على المؤسسات المعنية لأجراء الدراسات والبحوث الأقتصادية والأحصائية بما في ذلك الجامعات للقيام بتوفير مؤشرات حاجة الأسواق للمهن والمهارات المختلفة في ضوء المستجدات والحاجة الفعلية لتلك الأسواق، للأستفادة منها في توجيه سياسة القبول في المدارس والمعاهد والجامعات.
- الأستفادة من تجربة الأردن في تأسيس هيئة لتنمية وتطوير المهارات المهنية والتقنية وكذلك شركة وطنية للتدريب للقيام بمهام تأهيل القوى العاملة العاطلة بأنواعها وتوجيهها نحو إحتياجات أسواق العمل، والمساعدة في تشغيل القوى العاملة.
وبذلك يمكن الحد من الأختلالات في هياكل القوى العاملة في العراق، والله من وراء القصد.