العراق … وقطار غرب بغداد الاقتصادي
الدكتور حميد شكر الجبوري
عضو الأمانة العامة للمنتدى العراقي للنخب والكفاءات – إسطنبول
- من المؤكد ان الكثيرين من أجيال الستينيات وما سبقها من المثقفين، قد قرأ او سمع عن قصة “جريمة في قطار الشرق السريع Murder on the Orient Express)” رواية للكاتبة البوليسية أغاثا كريستي(1)، والتي طبعت للمرة الأولى في لندن عام 1934، وتم إنتاجها كفيلم عدة مرات أولها كان إنتاجا” بريطانيا” عام 1974. وقد خلدت هذه القصة القطار الذي ينقل البضائع والمسافرين من برلين في المانيا الى البصرة على رأس الخليج العربي عبر اوربا الشرقية وتركيا. ولا ننسى ان بريطانيا العظمى التي كانت تستعمر العراق للفترة 1916 – 1958، كانت اول المستفيدين من هذا الخط. كما أن هذه الرواية تفــــوق شهرتها شهرة فيلم “من اجــل حفنة دولارات A Fistful Of Dollars ” الذي انتج في إيطاليا عام 1964. وقد اصبح عنوان هذا الفلم مقولة مأثورة على السن الشباب في وقته وبمثابة مسبة للذين يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح الآخرين، وبالتالي فأن الموضوعين مترابطين ببعضهما البعض في هذا المقال.
- يدور موضوع هذا المقال حول الخبر الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي (2)، عن موضوع محاولة تكليف بعض شيوخ محافظة الانبار، بحماية القطار الإيراني المخصص لنقل البضائع الذي سيربط ميناء خميني الإيراني بميناء اللاذقية السوري على البحر الأبيض المتوسط عبر العراق، وذلك منذ دخوله محافظة الانبار وحتى خروجه الى سوريا وبالعكس، مقابل تزويدهم بالسلاح والمال، من اجل ثنيهم عن المطالبة بالإقليم السني لأنه يتعارض مع المصالح الإيرانية. وقد انتشر هذا الخبر بأسرع مما تنتشر فيه النار في الهشيم، نظرا” لحساسية الموضوع المفرطة لدى المواطن العراقي (بكل اعراقه ومذاهبه الدينية وانتماءاته السياسية طالما توفرت لديه الروح الوطنية)، ولدى المواطن العربي عموما” وخصوصا” لدى المتخصصين في دول مجلس التعاون الخليجي ومصر.
علما” بأن الاتفاق المبرم مع الجانب الإيراني بشأن مشروع الربط السككي، ينص على أن يتحمل العراق مسؤولية إنشاء الخط السككي والمحطات والمواقع، في حين يتكفل الجانب الإيراني بإنشاء الجسر الملاحي على شط العرب وإزالة الألغام على طول (16) كيلومترًا ضمن المشروع (3).
وقد أكدت مصادر مطلعة ان تكاليف مد السكك الحديدية سيتحملها العراق لوحده بحجة ان نصيب إيران من تكاليف المشروع ستسدد من ديون إيران على العراق. وعليه فإن هذا المشروع سيؤدي إلى إضعاف مشروع ميناء الفاو الكبير جنوب محافظة البصرة، ويعد ضربة لمشروع سكة الحديد من الفاو وصولاً إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، والذي سيستفيد منه العراق بالدرجة الأولى على عكس مشروع الربط السككي بين ميناء خميني وصولاً إلى ميناء اللاذقية مرورا بالعراق، الذي سيفيد إيران بالدرجة الأولى (4).
- لابد من القول ومن منطلق مبدأي اننا كدول متجاورة تجمعنا منطقة جغرافية مترابطة لابد لنا من التعاون لما فيه مصلحة شعوبنا وبلداننا، ولكن وفق الأعراف الدولية، وعلى أسس من العدل والمساواة واحترام السيادة وتحقيق المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ومن هذا المنطلق اود ان أعرض ما يأتي:
- شاركت ممثلا” عن وزارة المالية ضمن الوفد العراقي الذي زار طهران في مطلع شهر تشرين الأول 2001، برئاسة السيد وزير التجارة – الدكتور محمد الراوي، من اجل توقيع اتفاقية أنشاء منطقة تجارة حرة بين العراق وايران، وفق المبادئ الأولية التي تم التوافق عليها مسبقا” بين وزارتي التجارة في كلا البلدين، حيث عقدت اجتماعات مكثفة بين الخبراء الفنيين من كلا الطرفين ولعدة أيام، وتم في النهاية التوصل الى صيغة الاتفاقية، وتم تحديد وقت ومكان التوقيع من قبل الوزيرين ممثلين عن حكومتيهما، الا ان وزير التجارة الإيراني بدأ بتغيير مواعيد التوقيت تباعا” بحجج واعذار مختلفة، وكان آخر اتفاق هو ان يتم التوقيع في المطار صباح يوم مغادرة الوفد العراقي طهران، الا ان الوزير الايراني لم يحضر وارسل وكيله لتوديع الوفد. والواضح ان الهدف من كل ذلك هو عدم توقيع هذه الاتفاقية.
- عقد في دمشق ملتقى اقتصاديات المناطق الحرة للفترة 29 – 31/ آيار/2002، وقد تم دعوة رؤساء وفود العراق وسوريا واليمن ورئيس وفد احدى دول مجلس التعاون الخليجي، الى ندوة في تلفزيون دمشق أقامها “البرنامج الاقتصادي” ، حول موضوع المؤتمر. ومن جانبي تحدثت عن مناخ الاستثمار في العراق، والمناطق الحرة على وجه الخصوص، ثم عرجت على موضوع إمكانية تحقيق الربط السككي بين دول المنطقة، وبينت بان الدراسة الأولية التي قمنا بها في الهيئة العامة للمناطق الحرة (على سبيل المثال)، توصلت الى ان نقل البضائع من اوربا الى طهران عبر قناة السويس يتطلب (21) يوم. وان نقل البضائع من الموانئ السورية الى طهران برا” عبر تركيا يتطلب (7) يوم. في حين ان نقل البضائع الاوربية من الموانئ السورية برا” عبر العراق الى طهران يتطلب (2) يوم. لذلك فان بالإمكان دراسة ربط الموانئ السورية بالموانئ العراقية والدول المجاورة عبر خطوط السكك الحديدية العراقية، وكما يلي:
- ربط خط السكك الحديد في نينوى مع موانئ محافظة اللاذقية السورية، من خلال ربط خط قطار الشرق السريع من منطقة القامشلي السورية مع ميناء اللاذقية، وهذا سيوفر نقل البضائع العراقية والبضائع المارة الى دول الخليج العربي وشرق اسيا من الموانئ السورية عبر الموانئ العراقية في البصرة.
- ربط خطوط السكك الحديدية في البصرة مع الكويت وثم دول مجلس التعاون في الخليج العربي.
- ربط خط سكة حديد غرب بغداد – القائم العراقية، مع خط سكك الحديد السورية في منطقة البوكمال. حيث ان خط السكة العراقي يصل الى الحدود العراقية – السورية في منطقة القائم، ويحتاج الى الربط من الجانب السوري تكملة الخط وبطول (60 – 65) كم. وبالفعل تم الاتفاق بين الحكومتين العراقية والسورية على ذلك، حيث باشر الجانب السوري بإكمال خط السكك من البوكمال الى القائم قبل ان تتوقف بسبب غزو العراق عام 2003.
- ربط خط سكة شرقي بغداد – خانقين، باتجاه طهران والمحافظات الإيرانية ذات الصلة، ومن ثم باتجاه الشمال الإيراني للربط مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي (السابق).
- ربط خط السكك الحديد من البصرة باتجاه الشلامجة ومنها الى المحافظات الإيرانية القريبة من الخط، وقد يكون بالإمكان ربطه مع باكستان وأفغانستان باتجاه الشرق.
- في مطلع عام 2003، تم دعوتنا من قبل السيد وزير التجارة الخارجية التركي السيد كوتشاب توزمان، لزيارة المناطق الحرة التركية، وذلك بناء على طلب من السيد وزير التجارة العراقي الدكتور محمد الراوي(5)، وقد تم تلبية الدعوة وزيارة بعض المناطق الحرة التركية في إسطنبول وغازي عنتاب بداية شهر آذار 2003، أي قبل أيام من اعلان الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الحرب على العراق في 21/03/2003. وعند انتهاء الزيارة التي استغرقت أسبوع وفي اللحظات الأخيرة قبل مغادرة الوفد، تم دعوتي لحضور ندوة يرأسها السيد وزير التجارة الخارجية التركي في محافظة غازي عنتاب حول إقامة منطقة تجارة حرة بين تركيا وسوريا والعراق وايران. وكان الجانب التركي قد استحصل موافقة السيد وزير التجارة العراقي على قيامي بتمثيل العراق في هذه الندوة. وقد عرض جميع رؤساء الوفود في كلماتهم عن ترحيبهم بهذا المشروع الذي يخدم المصالح الاقتصادية لبلدان هذه المجموعة التي تضمهم منطقة جغرافية واحدة، واستعداد بلدانهم لدراسة إزالة العقبات التي تعيق ذلك. ولا ننسى ان هذا المشروع يخدم العراق بالدرجة الأولى لأنه كان تحت حصار اقتصادي دولي منذ 6/آب/ 1990. الا ان الغريب في هذا الامر انه تمت الدعوة الى هذا الاجتماع وبشكل عاجل وطبول الحرب على العراق تقرع من كل مجال، الامر الذي اثار استغرابي خاصة وان تركيا عضو في حلف الناتو، وبشكل يثير الشك الى ان الحرب المعلنة على العراق هي مجرد جعجعة سلاح، الا انه تبين بعد أيام قليلة بان الامر لم يكن كذلك.
- الاستنتاجات:
- لا زال العراق يتمتع بموقعه الجغرافي المتميز في الربط بين غرب الكرة الأرضية وشرقها، ويتربع على رأس الخليج العربي المؤدي الى الهند والصين اكبر أسواق العالم على الاطلاق.
- ان تقديم المقترحات المتعلقة بالربط السككي ومناطق التجارة الحرة بين العراق ودول الجوار ومنها ايران (والتي سبق عرضها)، قدمت عندما كان العراق دولة مستقلة لها حكومة وطنية وقوية، ومؤسسات حكومية فاعلة تدرس وتحلل وتقيّم وتقرر مصلحة العراق أولا” وآخرا”.
- يمكن للفاحص المتخصص ان يستنتج ان الخط الذي باشرت به الحكومة العراقية للربط مع ايران عن طريق البصرة – الشلامجة، لم تعد له أي دراسة جدوى اقتصادية وفنية، والدليل على ذلك انه يركز أولا” على نقل الزوار من ايران وبلدان وسط اسيا الى العتبات المقدسة، ومن ثم مع ميناء خميني، وبالتالي فمن الواضح انه يصب في مصالح ايران الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأهدافها في التغيير الديموغرافي للمنطقة العربية من خلال العراق وسوريا ولبنان والأردن تحت شعار تصدير الثورة.
- ان هذا الربط ستكون له اضرار مباشرة على الموانئ العراقية، وعلى الأخص منها ميناء الفاو الكبير الذي تحاول بعض الدول عرقلة إنجازه لما فيه من ميزات تنافسية واقتصادية كبيرة للعراق، ونقل هذه الميزة الى ميناء خميني بدلا” من ميناء الفاو على سبيل المثال لا الحصر.
- ان تفعيل هذا الخط، يعني تجاهل واهمال خط قطار الشرق السريع، الذي ننتظر منذ فترة طويلة إعادة تفعليه لنقل البضائع والمسافرين بين العراق واوربا، وكذلك للربط مع دول مجلس التعاون الخليجي.
- لماذا لا تقوم الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003 بإعادة تفعيل وتطوير خطوط النقل بالسكك بين المحافظات العراقية لنقل البضائع والمسافرين، كأسبقية أولى، بدلا” من اهمال هذا القطاع، والذي يشكل رافد مهم للاقتصاد العراقي. وان يتم توسيع هذه الشبكة لتشمل كل محافظات العراق بما فيها محافظات إقليم كردستان، بدلا” من إعطاء الأولوية للربط مع ايران لنقل الزوار، والذي له ابعاد سياسية اكثر منها اقتصادية.
- ان اعتماد نظام التلزيم لحماية الخط بأفراد العشائر واموال الشعب العراقي، يعني العودة بالعراق لأكثر من مائة عام خلت عندما كانت الدولة العثمانية تعتمد نظام تلزيم شيوخ العشائر للجباية وتنفيذ الأوامر العثمانية وادارة الاقطاعيات الزراعية. وهذا يذكرنا بما ورد في مقدمة ابن خلدون الشهيرة، حيث تضمنت: “ان القبيلة اذا قوي سلطانها ضعف سلطان الدولة، واذا قوي سلطان الدولة ضعف سلطان القبيلة”. وبالتالي لا يصح ان تكون هناك دولة ويتم تكليف جهة غير رسمية لحماية الامن الداخلي، مما يدلل على ان هذا الاجراء ذو اهداف سياسية اكثر منه امنية.
- كيف يتسنى لبعض شيوخ الانبار ان يقبل لنفسه هذا التكليف وهم يعرفون ابعاده السياسية واضراره الاقتصادية على العراق، وابنائهم من قارع المحتل الأمريكي بكل شجاعة وبسالة طيلة سنوات نيابة عن العراقيين، وسطر التاريخ ملاحمهم بأحرف من نور.
- ان تحقيق الربط السككي مع ايران وسوريا بهذه الطريقة التي تهدر حقوق العراق الاقتصادية سيشكل جريمة جديدة في خط غرب بغداد السريع، تتحمل الحكومة العراقية السابقة مسؤوليته مع الحكومة الحالية. كما ان نظام تلزيم حماية الخط من قبل شيوخ العشائر ان تم، سيكون بمثابة التضحية بالعراق من اجل حفنة دولارات.
- واخيرا” وليس آخرا”، لا بد للمواطن العراقي ان يتساءل عن موقـــف الولايات المتحدة الامريكية (وهي المحتل الحقيقي للعراق لحد الان)، من هكذا عملية ربــــــــــط وتعاون اقتصادي بين العراق وايران، وبما يتيــــــــــــــح لإيــــــــــــــــــــــران الانفتـــــــــــــــــــــاح على موانئ البحــــــــــر الأبيض المتوسط واوربــــــــــــــــــا عـبر الموانـــــــــــــــــــئ السورية، رغم العداء المعلن بين ايران والولايات المتحدة من جهة، والعقوبات الامريكية والاوربية على ايران من جهة آخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (1) اجاثا كريستي (1890 – 1976): الروائية العالمية، تلك الأسطورة التي تحتل المرتبة الثانية في أرقام توزيع وترجمة أعمالها بعد وليم شكسبير، وتعتبر هذه الرواية من أشهر روايات أغاثا كريستي، التي زارت العراق لأول مرة عام 1929، وكتبت روايتها هذه عندما تزوجت واستقرت في العراق للفترة من عام 1930 الى عام 1958.
- (2) حساب وزير عراقي، حيث لا يمكننا التعرف على مدى مصداقية هذا الحساب او الجهة التي تقف خلفه، الا ان موضوع القطار معلن عنه رسميا” من قبل الحكومة العراقية.
- قناة الحدث الفضائية – الحكومة العراقية توافق رسميا” على اختراق “خط الترانزيت الإيراني التجاري”
- (3) بغداد – سبوتنيك عربي – العراق وإيران يبحثان استكمال خط سكة حديد “الشلامجة البصرة” 01/09/2023
- (4) صحيفة القدس العربي – مخاطر الربط السككي بين العراق وإيران 07/04/2024.
- (5) الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وكنت اسميه رئيس وزراء في الظل، حيث كان همه ونشاطه لا يقتصر على وزارة التجارة فقط وانما ينصرف الى مصالح وزارات: المالية (باعتباره وزيرا” للمالية عند غياب وزير المالية)، الخارجية، الصناعة، الزراعة … وغيرها، كلما تطلب الامر ذلك، حيث انه كان صاحب موقف وقرار، ولا يتردد في التعامل مع أي موضوع يتعلق بأية دائرة او وزارة طالما وجد في ذلك مصلحة للعراق.