شارع الرشيد ومأساة التجارب المكررة

تغلب عبد الهادي الوائلي
معمار/ مخطط مدن
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات / لجنة الاسكان والبنى التحتية
حين يستبدل التخطيط بالطلاء واعادة الرصف
الرشيد، ليس شارعاً عادياً، بل هو شريان روحي وتاريخي يربط بين أجيال من البغداديين، ويحمل في أحجاره حكايات قرن من التحولات الاجتماعية والسياسية والمعمارية وهو ايضا جزء من العناصر الحضرية الأخرى التي تشكل بنية المدينة التاريخية الحضرية. ومع ذلك، ورغم كل ما كتب وقيل عن أهميته واهمية المدينة التاريخية وارتباطهما ببعض، لا تزال الجهات الحكومية تتعامل مع هذا الفضاء بالذات وكأنه مساحة للتجارب العشوائية، أو مجرد جدار يعاد طلاؤه مع كل موسم سياسي جديد، وتحت مختلف الاسماء مرة تحت اسم ألق بغداد ومرة باسم نبضها ومرة تحت ستار تأهيل المدينة التاريخية المهملة، وهو ابعد ما يكون عن ذلك.
لقد شهدنا عبر عقود تجارباً عديدة لتأهيل شارع الرشيد، لكنها – وللأسف – كانت في معظمها محاولات سطحية ارتجالية تفتقر إلى العمق التنموي والرؤية الشمولية، وكأننا ندور في حلقة مفرغة: نبدأ بمشروع ثم نعلقه، نعيد فتح ملف التطوير ثم نغلقه، نرفع شعارات كبرى ثم نستقر على حلول ترقيعية لا تصمد أمام الزمن أو المنطق ولا تهدف إلا إلى تخدير الرأي العام وايهامه بقرب تحقيق أحلامه.
كصاحب دراسة تنموية موثقة لإحياء المدينة التاريخية وشارع الرشيد، نشرت في كتاب عام 2017، وقدمت لاحقا في ندوات وعبر أوراق عمل وتقارير متعددة للجهات الحكومية المختصة على اختلاف مستوياتها، لا أجد سوى التعبير عن الحزن العميق وانا أرى كيف يتم تهميش هذه الجهود التي شارك فيها العديد من المتخصصين ودعمها كذلك بعض من عمالقة التخطيط والعمارة، في الوقت الذي تمتنع امانة بغداد عن كل ذلك وتمنع حتى مناقشته. ولكنها، في نفس الوقت الذي تحتفى فيه وكبار المسؤولين بالدولة بأعمال “تجميل” سريعة تقتصر على طلاء الواجهات أو رصف الأرصفة والإضاءة “الديكورية” وتفتخر بهذه الاعمال وكأنها عمل خارق.
يفترض بالجهات المعنية المسؤولة ان تعلم بان هذه الممارسات لن تعيد الحياة للمنطقة، لان الشارع ببساطة ليس خشبة مسرح منفصلة، بل جزء من منطقة حضرية مأهولة، وان هذه الاعمال لن تؤدي إلا إلى تأخير مواجهة الأسئلة الحقيقية حول ما تحتاجه المدينة من خطط تنموية حقيقية، وهي على سبيل المثال:
- اين “الخطة” التي يتم تنفيذها “على مراحل” ولا نراها ولا أحد يعلم عنها شيئا؟
- اين اجراءات تنظيم الاسواق والحركة الاقتصادية في مركز المدينة؟
- أين احترام ذاكرة المكان، لا فقط شكله الخارجي؟
- أين التفكير الجاد في إعادة ربط المركز بوظيفته التاريخية والاجتماعية؟
- ما مصير الازقة المهملة وباقي المدينة التاريخية التي تتأكل يوما بعد يوم؟
- اين هي الاستدامة وما هو مفهومها لديكم؟
والسؤال الاهم للمسؤولين; هو كيف يمكن ان تعهد الحكومة بمهمة تطوير مدينة تاريخية عريقة كبغداد الى جمعية مصرفية، غير مؤهلة ولا مختصة، لمجرد انها تمول المشروع بعدة مئات الالاف من الدولارات لان الحكومة عجزت عن توفيرها طوال عقدين من الزمان، ويراد منا تصديق ذلك؟
إن الأزمة التي نواجهها ليست في توفر الموارد، بل في غياب الإرادة الحقيقية للاستماع إلى الرؤى المعمقة، واستبدالها بثقافة “المشروع السريع” واساليب تخدير الرأي العام.
لا اتصور احدا منا يرفض أي جهد لتحسين المدينة او ترميم مبانيها، لكنني، واحسب ان اغلب زملائي من المعماريين والمخططين، نرفض أن يختزل العمل التخطيطي من اجل التطوير والتنمية الحقيقية للمدينة إلى مجرد طلاء للجدران، وأن يستبدل الإصلاح البنيوي بالتجميل المؤقت والتنمية الحضرية بالإضاءات الديكورية. فالتنمية ليست لقطات تقتنص في ظلام الليل او مجرد فيديوهات إعلامية حالمة لترام يسير في شارع جميل، بل هو عبارة عن مسار طويل يحتاج إلى الشجاعة في تبني ما هو صعب لكنه صادق ومستدام.
آن الأوان أن نوقف هذه الدائرة المفرغة من التجارب الفاشلة، وأن تعيد الأجهزة الحكومية الاعتبار للمعرفة والتخطيط وللدراسات الجادة التي تلتزم بالمعايير العالمية لتطوير المدن التاريخية، وان تتيح لجميع اصحاب الخبرات الحقيقية والرؤى الذين عملوا في قلب بغداد ومن اجلها بالمشاركة بالعمل الجدي من اجل بغداد، ولأجل بناء مستقبل مستدام لهذه المدينة المهددة بأخطار متسارعة تهدد تراثها وهويتها، وان تمنع محاولات العبث بالمدينة وتراثها في مشاريع تجميلية سريعة تنفذ من اجل مصالح شخصية عابرة.