بغداد – هل هي مدينة على حافة الفشل ؟
ا.د. احسان فتحي
معماري ومخطط مدن- دكتوراه حفاظ (المملكة المتحدة)
مستشار لأربعة امناء عاصمة سابقين (1980-1991)
عضو اللجنة الاستشارية العليا للتصميم الاساسي لمدينة بغداد
مؤسس قسم التراث في امانة بغداد 1984
بغداد، مدينة اسمها رنان ومدو عربيا وعالميا… وتعتبر بكل المقاييس والمعايير التخطيطية المعتمدة،…عملاقة وجميلة بدجلتها وتاريخها الثري الحافل… لكن دعونا نعترف بانها لم تعد كذلك… بغداد قد ترهلت وانتفخت وترامت اطرافها وتريفت، وفقدت اعز ما تملك…هويتها! طبعا بالنسبة للزائر والسائح الغريب فهي تبدو حية وحيوية الان… كلها دكاكين ومحلات فاخرة للمساج ومولات ومطاعم لا تعد ولا تحصى… سمك مسقوف وباجة وتشريب وبامية ودولمة ويابسة وتمن… الافطار كاهي وكيمر ودبس… هذه هي “منيو” بغداد… اكتظاظ في كل مكان…ناس رايحة وناس جاية…الى أين؟ فوضى سريالية… بحر من السيارات… مركبات (التك توك) منتشرة كالذباب…وهي الواسطة غير الرسمية للنقل السريع…سرعتها تضاهي مونوريل دبي… مدينة “الزرق ورق” حسب امينها السابق (نعيم عبعوب 2012- 2015 ). محلاتها القديمة مهملة عمدا ومتهالكة ومحكوم عليها بالفناء من قبل حكام لا ينتمون اليها ولا يفهموها… بيوتها التراثية تشير بخجل الى مجدها الغابر… شناشيلها المذهلة بصناعتها الراقية متهاوية وتتساقط يوميا كأوراق الخريف… اين انتم يا أسطوات بغداد الراقدون؟ أين انت يا اسطة حمودي العزاوي ويا أسطة فليفل؟
غابات مخيفة من ملايين الاسلاك الكهربائية المتدلية والمتشابكة تزين دروبها وتمثل الاسلوب الوحشي لإيصال الطاقة الى البيوت من مولدات محلية تجارية بأسعار ظالمة …وتسمع البغداديين باستمرار…جاءت “الوطنية”… انقطعت “الوطنية”…وبقصد بها “الكهرباء الوطنية”… ولايزال العراقيون يتذكرون كيف وعدهم الوزير حسين الشهرستاني بحل مشكلة الكهرباء، بل أكد ان العراق سيصدر هذه الطاقة الى دول الجوار بحلول عام 2013! ولا تزال “دول الجوار” المسكينة هذه تنتظر وتشعر بالإحباط… اما الازبال والنفايات فهي متوطنة ومقبولة كجزء لا يتجزأ من جمالية أزقتها وشوارعها… لكن الحقيقة الخفية هي ان هذه المدينة الفاتنة والفاتكة بتبغددها التاريخي …اضحت تعاني من امراض الشيخوخة…هي اشبه بالعجوز الشمطاء التي لاتزال تشعر بانها فاتنة كما كانت قبل دهر من الزمن … فهي تأن حاليا من أزمات حضرية اساسية خانقة مما يقرب تصنيفها بالمدينة الكبيرة الفاشلة (Failed Mega City). والسبب هو الاخفاق الواضح، وشبه الدائم، لإداراتها المتلاحقة في تحقيق ابسط معايير العيش الكريم والمريح لساكنيها المقهورين … فهم الان مغلوبون على امرهم … لكنهم مواطنون نشطون ويتكاثرون بسرعة… يقدر عددهم بين 8 الى 10 مليون نسمة حاليا، ومن المتوقع ان يصل الى حوالي 13-15 مليون ساكن في عام 2035 (العراق سيصل الى حوالي 66 مليون نسمة) . وتعتبر بغداد ثاني اكبر مدينة عربية، بعد القاهرة، حيث تبلغ مساحتها حوالي 2000 كيلومتر مربع (القاهرة تصل الى 21 مليون نسمة صباحا ومساحتها 3000 كم مربع)، واسعار الاراضي في بعض مناطقها تعتبر الاغلى في العالم العربي.
تعود اسباب هذه الازمات المزمنة الى عوامل متعددة ومتشابكة اهمها سياسية لكنها متداخلة ايضا مع اسباب عديدة اخرى منها ادارية واقتصادية واجتماعية وبيئية وتخطيطية. ومن بين ابرز اسباب ومظاهر مشاكلها وأزماتها الحضرية الحالية الخانقة هي:
- غياب وجود رؤية حضرية استراتيجية وخطة منهجية واضحة ومدعمة قانونيا لمستقبل العاصمة والاقليم المحيط بها (اي مخطط لبغداد الكبرى 2050 والمدن الجديدة والتوابع لها، وتحقيق استقلاليتها الكاملة عن المحافظة).
- اخفاق امانة بغداد حتى الان في اعادة هيكلة جهازها الاداري، والقضاء على الفساد المتجذر فيه، وتطوير كادرها الفني بما يتلاءم مع المستجدات التقنية وقاعدتها المعلوماتية والارتقاء به الى مستويات ادائية عالية.
- عدم استقلالية موقع الامين بسبب تعيينه سياسيا وخضوعه بالضرورة الى تدخلات تفصيلية وضغوطات من قبل الاحزاب السياسية والميلشيات وغيرها من الكتل السياسية، ولأنه غير منتخب، ولا مجلسه منتخب، فيبقى موقعه ضعيفا وصوريا.
- الاهمال الواضح لمراكزها التاريخية الاربعة، وغياب وجود خطة فاعلة للحفاظ عليها، والاكتفاء بالتفرج على التأكل التدريجي السريع والخطير لتراث المدينة وهويتها، وتجد الكل يبكي، او يتباكى، عليه دون جدوى.
- ازمة النمو السكاني والكثافة السكانية المتزايدة (مع استمرار الهجرة الريفية)، وغياب خطة حقيقية جادة لبناء مدن جديدة محيطة في مناطق مثل (بني سعد، الثرثار، الحبانية، المحمودية، الصويرة، الزبيدية، الراشدية…).
- ازمة السكن والازدياد غير المنضبط في الكثافة الاسكانية ( 6 اضعاف على الاقل عن عام 2000 )، وتسارع العجز في الرصيد السكني، وبدأ انتشار وحدات سكنية عديدة جدا بمساحات تتراوح بين 50-100 متر مربع للعائلة الواحدة! (واحدة من اخطر المشاكل الانسانية في المدينة وستكون لها تبعات اجتماعية خطيرة قريبا).
- الانفلات في ضبط المناطق العشوائية والتجاوزات على استعمالات الارض (ضعف السيطرة العمرانية).
- الاختناقات المرورية في شبكات النقل (غياب: شبكة طرق متكاملة مع نظام قطارات سريعة (مترو) تحت الارض او فوقها (مونوريل) – النهوض في انظمة النقل العام ضرورة قصوى وأولية أولى).
- عدم الاستغلال الكافي لنهر دجلة كواسطة اساسية للنقل والسياحة، واهمال ضفتيه كمسارات ترفيهية واجتماعية، بل على العكس من ذلك، فالعديد من مساراته تستعمل الان كمواقف للسيارات و مكب للنفايات والملوثات.
- الاخفاق المزمن في توفير الطاقة الكهربائية اللازمة للعيش الحضاري والانتاج الاقتصادي، والاعتماد على توليد الكهرباء من القطاع الخاص والتشويه البصري الهائل، وغير المقبول، الذي تسببه غاباته من الاسلاك الموصلة.
- الاخفاق شبه الدائم في توفير الكم اللازم من الخدمات الحضرية (صحية، تعليمية، ثقافية، ترفيهية، الامن العام، الخ) والبنية التحتية المختلفة ( الماء، الكهرباء، شبكات الانترنت، الصرف الصحي، الخ) وتخلفها المزمن مع الزيادة السكانية.
- التآكل المتواصل للمناطق الخضراء داخل الاحياء السكنية وتجريف بساتين المدينة لأغراض الاستثمار التجاري الجشع، والتجاوز الرسمي وغير الرسمي على ما يسمى ب” الحزام الاخضر”.
- التلوث العام للبيئة الحضرية في مركز المدينة وتواجد العديد من الاستعمالات غير الملائمة فيه كالمناطق الصناعية (كمنطقة الشيخ عمر) واسواق الجملة، والورش الصناعية الملوثة والمنتشرة داخل المدينة.
ما العمل ازاء كل هذه الازمات الحضرية التي تعاني منها بغداد؟
بالتأكيد هي، والعراق كله، بحاجة ماسة لعملية اصلاح جذرية ومراجعة سياسية صادقة لمعالجة هذه المشاكل الخطيرة…فالعمليات التجميلية تبقى سطحية لا تجدي ولا تشفي الغليل…وتجربة النظام السياسي حتى الان تشير الى ان هذا الهدف يبقى بعيد المنال في المنظور القريب!
ستستمر بغداد في شيخوختها وتتدهور ولن تنفعها حفنات “البوتكس” الحضرية!