مقارنة الأسپشل دولار والدولار الرقمي: العملة والهيمنة في عصر ما بعد الدولار الورقي”

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي
المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
نظرًا لأهمية التحولات النقدية الجارية عالميًا، وتعقيد ما يُخطط له خلف الكواليس في النظام المالي الدولي، كان لا بدّ من الوقوف بتأنٍّ عند المفاهيم التي بدأت تطرق الأذهان بقوة في المرحلة الراهنة. وقد تناولتُ في مقال سابق الدولار الرقمي باعتباره المشروع المُعلن للبنك الفيدرالي الأمريكي، ثم أفردتُ مقالًا آخر لتحليل ما يُعرف بـ”الأسپشل دولار” كمفهوم جديد مثير للجدل، يحمل في طياته بُعدًا سياسيًا وأمنيًا يتجاوز الظاهر الاقتصادي.
أما هذا المقال، فيأتي تتويجًا للمقالين السابقين، ليجمع بين التحليل المقارن والتفسير الاستراتيجي، كاشفًا أوجه التشابه والتباين بين الدولار الرقمي والأسپشل دولار، وراسمًا صورة أوضح لملامح المعركة القادمة في عالم المال، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الهيمنة الرقمية.
أولًا: الدولار الرقمي – العملة الرسمية الجديدة في الطريق
الدولار الرقمي هو مشروع رسمي يعمل عليه البنك الفيدرالي الأمريكي منذ سنوات، ويُدرج ضمن إطار ما يُعرف بـ”العملات الرقمية للبنوك المركزية” (CBDC). يهدف هذا المشروع إلى إصدار نسخة رقمية من الدولار تُدار من قبل الدولة وتُستخدم في المعاملات اليومية، عبر محافظ إلكترونية وتطبيقات مالية خاضعة للرقابة الرسمية.
الغرض المعلن من الدولار الرقمي هو:
- تحديث البنية المالية الأمريكية،
- تعزيز الشمول المالي،
- خفض كلفة التحويلات،
- تسريع المعاملات،
- مكافحة الفساد المالي وغسل الأموال.
يُطرح هذا المشروع كجزء من مواكبة العالم للتحول الرقمي الشامل، خاصة بعد تفوق الصين في هذا المجال من خلال “اليوان الرقمي”. ومع ذلك، لا يخلو المشروع من تحديات خطيرة تتعلق بالخصوصية، والرقابة المطلقة، وإمكانية استخدام هذه العملة في التحكم بسلوك الأفراد والمؤسسات.
ثانيًا: الأسپشل دولار – الهيمنة السرية بإخراج رقمي
في المقابل، فإن “الأسپشل دولار” ليس مشروعًا معلنًا، بل هو تصور تحليلي بدأ يتردد في الأوساط الاقتصادية الاستراتيجية، ويفترض وجود نسخة رقمية خاصة من الدولار يتم تطويرها في دوائر مغلقة، وربما تُستخدم مستقبلًا كسلاح جيوسياسي في معركة النفوذ المالي.
الأسپشل دولار – بحسب هذا الطرح – ليس موجهًا لعامة الناس أو السوق الداخلي الأمريكي، بل يُخطط له ليكون عملة رقمية مشروطة تُستخدم في التعاملات بين الدول الكبرى، المؤسسات الاستراتيجية، أو المشاريع العابرة للقارات.
ما يميز هذه النسخة أنها ليست فقط رقمية، بل ذكية ومشفرة ومرتبطة بأنظمة مراقبة وتحكم تسمح بتجميد أو حجب الأموال عن بُعد، استنادًا إلى المواقف السياسية للدول أو الشركات.
أي أنها، باختصار، عملة نفوذ لا نقد، وسلاح رقمي أشد فتكًا من العقوبات الاقتصادية التقليدية.
ثالثًا: الفروقات الجوهرية بين الدولار الرقمي والأسپشل دولار
- الدولار الرقمي هو مشروع رسمي وعلني يهدف إلى تطوير البنية التحتية المالية الأمريكية.
- الأسپشل دولار هو تصور خاص وسري، يُفترض استخدامه كأداة سياسية وأمنية في العلاقات الدولية.
- الأول يُطرح باسم الابتكار، والثاني يُستخدم لأغراض الهيمنة.
- الأول يستهدف الجمهور العام، والثاني يُوجه إلى النخب والأنظمة.
- الدولار الرقمي يخضع لقواعد مصرفية واضحة، أما الأسپشل دولار فيفترض أنه يُدار من خارج نطاق الشفافية.
رابعًا: تداعيات محتملة على الدولار الورقي، والدول التي تملكه
مع ظهور هاتين النسختين – أو إحداهما – سيكون هناك أثر مباشر على الدولار الورقي التقليدي، الذي قد يتراجع استخدامه تدريجيًا، خصوصًا في المعاملات الدولية.
الدول التي تملك احتياطيات ضخمة من الدولار (مثل الصين، اليابان، ودول الخليج) قد تُجبر على الدخول في أنظمة رقمية جديدة، ما يُفقدها جزءًا من حرية التصرف بتلك الاحتياطيات، وقد تُفرض عليها برمجيات رقمية تلزمها بشروط سياسية واقتصادية.
هذا يُهدد السيادة المالية لكثير من الدول، ويفرض واقعًا جديدًا يعيد رسم موازين القوى النقدية عالميًا.
خامسًا: مستقبل الذهب والفضة في ظل العملات الرقمية
مع هذا التوسع في الرقمنة، وتزايد الخوف من فقدان السيطرة على الأموال، سيتجه كثير من الأفراد والدول إلى الذهب والفضة كملاذات آمنة، لا تخضع للرقابة الرقمية أو الإلغاء المفاجئ.
قد يشهد الذهب عودة قوية كأداة تحفظ القوة الشرائية، وتضمن الاستقلال النقدي للأفراد والدول. كما قد تعود الدعوات إلى ربط العملات جزئيًا بالذهب لتقليل مخاطر التضخم الرقمي والانهيارات المفاجئة.
الخلاصة: نحن أمام معركة جديدة في عالم النقد
لم تعد الحروب تُخاض بالأسلحة وحدها، بل بالرموز الرقمية والشيفرات السرية. ومع دخول الدولار الرقمي والأسپشل دولار إلى المشهد، فإن النظام المالي العالمي يتهيأ لانعطافة حادة، ستغير شكل التعاملات، وتعيد تعريف مفاهيم مثل “العملة”، و”التحكم”، و”الاستقلال المالي”.
إنّ من واجب الدول النامية، لا سيما التي تعتمد على الدولار، أن تعيد التفكير بسياساتها النقدية، وتحسم خياراتها قبل أن تُفرض عليها قواعد جديدة في لعبة لم تشارك في وضع قوانينها.