ما بعد القصف: التلوث النووي بين التهويل الإعلامي والحقائق الفيزيائية

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي
المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
(تحليل لمقال الدكتور بشار عبد الجبار عبد الرحمن، نائب الأمين العام للمنتدى العراقي للنخب والكفاءات، بتاريخ 17 حزيران 2025)
في خضم القلق العالمي المتزايد من اندلاع مواجهة عسكرية تشمل استهداف المنشآت النووية الإيرانية، يُعيدنا الدكتور بشار عبد الجبار عبد الرحمن إلى أرض الواقع بتشخيص علمي وواقعي لحقيقة ما يُعرف إعلاميًا بـ”التلوث النووي الناتج عن قصف المنشآت الإيرانية”.
في مقاله الذي يحمل بصمة الخبرة والموضوعية، يفكك الكاتب الخرافات الشائعة عن الانفجارات النووية ويضعها تحت المجهر العلمي، مانحًا القارئ فرصة لفهم الفرق الجوهري بين:
- الانفجار النووي الناتج عن تفاعل انشطاري
- والتلوث الإشعاعي الناتج عن تفجير تقليدي لمواد نووية غير فعالة نوويًا
الواقع العلمي: لا تفجير نووي من قصف تقليدي
أوضح الدكتور بشار أن التفاعل النووي الانشطاري لا يمكن أن يحدث عبر قصف تقليدي، بل يتطلب شروطًا دقيقة ومعقدة تتعلق بـ:
- الكتلة الحرجة
- درجة التخصيب (أكثر من 90%)
- ترتيب هندسي دقيق
- تفجير متماثل عالي الانضغاط
وهذا يجعل سيناريو “تحول الضربة إلى انفجار نووي عرضي” مستحيلًا عمليًا.
أين يبدأ التلوث إذًا؟
يشير المقال إلى أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الانفجار النووي، بل في:
1- نثر مواد كيميائية ونووية مثل:
- اليورانيوم المنضب
- سادس فلوريد اليورانيوم (UF6) – مادة خطيرة جدًا إذا تسربت
2- اتجاه الرياح السائدة سيحدد مدى الانتشار. وهنا يُشير المقال إلى أن الرياح شمالية إلى شمالية شرقية، أي أن التأثير سيبقى محليًا أو محدود الانتشار.
3- التلوث المائي هو الأخطر على المدى البعيد، خصوصًا في حال تسرب المواد إلى طبقات المياه الجوفية أو الأنهار.
الأمثلة التاريخية: دروس من البلقان والخليج
ساق المقال أمثلة من:
- حرب الخليج الثانية (العراق 1991)
- حرب كوسوفو
- حرب البوسنة
- أفغانستان
حيث استُخدم اليورانيوم المنضب في الذخائر الخارقة، ما أدى إلى آثار بيئية وصحية خطيرة، خصوصًا في المناطق الزراعية والمأهولة.
هذه التجارب تشكّل مرآة واقعية لما قد يحدث لو استُهدفت منشآت إيرانية تحتوي على مواد مشعة.
تشيرنوبل ليس نموذجًا للمقارنة
صوابٌ ما أشار إليه الدكتور بشار: كارثة تشيرنوبل ليست نموذجًا لمقارنة قصف منشأة تخصيب، لأن المفاعل حينها كان نشطًا ومفتوحًا على سلسلة تفاعلات حرارية وإشعاعية متسلسلة.
أما مواقع التخصيب الإيرانية فليست مفاعلات، بل منشآت هندسية وصناعية مغلقة غالبًا، مما يغيّر نوع وحجم الخطر.
السلاح النووي الحقيقي: احتمال بعيد لا يمكن استبعاده
ينهي الدكتور مقاله بواقعية مؤلمة: أن استخدام السلاح النووي التكتيكي يبقى احتمالًا “بعيدًا لكنه ليس مستحيلًا”، وأنه سيكون “الكيّ الأخير”، وهو تشخيص سياسي وفلسفي يحمل تحذيرًا أخلاقيًا واضحًا لكل من تسول له نفسه اللعب بهذا النوع من السلاح.
كلمة أخيرة
لقد استطاع الدكتور بشار عبد الجبار أن يجمع في مقاله بين:
- التحليل الفيزيائي
- المقارنة التاريخية
- الرؤية الإنسانية
ليصيغ مقاربة علمية شجاعة، تُفند التهويل وتُحذر من الخطر الحقيقي بهدوء المسؤول لا صخب الإعلام.
وربما هذا هو النموذج الذي نحتاجه اليوم: لا نبالغ في الخوف، ولا نقلل من التهديد… بل نفهمه كما هو، ونتعامل معه بما يستحق من وعي لا هستيريا. فشكرا للدكتور بشار على مجهوده العلمي فمقاله وضعت الاصبع على الجرح والنقاط على الحروف كما يقال.