لجنة العلوم الاجتماعية و الانسانية

انبثاق المعنى

الدكتورة ربا رباعي / دكتوراه لغة عربية – نقد وبلاغة

أستاذة جامعية / الاردن

في لحظة الكتابة، لا ينفصل المبدع عن ماضيه، ولا يتحرر تماماً من ظلال من سبقوه. لكنه، في كل مرة يضع فيها نقطة على ورق، يتقدّم خطوة في الزمن، حاملاً شعلته الخاصة. فالنص ليس وليد لحظته فقط، بل هو ابن حوارٍ خفيّ يدور بين الأزمنة، بين ما قيل وما يمكن أن يُقال، بين صدى بعيد وصوتٍ يولد الآن.

الكاتب الحق لا يهرب من التراث، بل يشتبك معه. لا يطأ الماضي بإجلالٍ ميت، بل يحرّكه، يزعجه، يعيد تشكيله بيدٍ ترتجف أحياناً، وتشتعل في أحيان أخرى. وهنا نستحضر التناصّ الخلّاق الذي نجده حتى في أقدس النصوص؛ فالقرآن الكريم ذاته، وهو النص المعجز، يخاطب الوعي الإنساني من خلال إحياء المعنى في المألوف، مثل قوله تعالى:

{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24]

فهذا النداء يُعيد تفعيل النص من خلال المتلقي، ويُحيله إلى تجربة وجودية لا تُفصل عن الزمن والسياق.

وفي الشعر، تتجلى روح التناص في قصيدة المتنبي الشهيرة:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صممُ

هذا البيت لم يأتِ من فراغ، بل كان صدى واعياً لبلاغة الجاحظ وفصاحة السابقين، لكن المتنبي ضمّن فيه ذاته المتفردة، فجاء النص وكأنه يُولد من جديد.

أما في الرواية، فيتجلى التناصّ في روايات مثل “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، حيث يتفاعل النص مع الإرث الاستعماري من جهة، ومع نصوص غربية وعربية سابقة من جهة أخرى، لكن النتيجة ليست تكراراً، بل مساءلة ثقافية ومعرفية عميقة للهوية.

 

فالكتابة الحقيقية لا تبدأ من فراغ، لكنها أيضاً لا ترضى بأن تكون صدى. إنها محاولة جادة لتوسيع المعنى، لا لتقليصه، ولتفجير الأسئلة، لا لإغلاقها. وفي هذا التوتر الخلّاق، يولد النص الذي لا يشبه إلا نفسه، وإن كان يمدّ جذوره عميقاً في تربة الذاكرة.

الكاتب، إذن، لا يرث اللغة فقط، بل يعيد كتابتها وفق رؤيته. لا يسكن النصوص السابقة، بل يعبرها ليصل إلى نصه هو. وهنا تحديداً، يصبح التناصّ فعلاً إبداعياً، لا مجرّد صدى ثقافي.

في النهاية، التناصّ ليس قيداً على حرية الكتابة، بل هو أفقٌ لها. هو قدرة على رؤية ما لا يُرى، وسماع ما لا يُقال، إلا لمن أرهف السمع والبصيرة. هو فن الإصغاء قبل أن يكون فن القول.

المراجع والمصادر:

  1. القرآن الكريم – تفسير الآية (محمد: 24)
  2. الجاحظ، البيان والتبيين، دار الفكر العربي.
  3. المتنبي، ديوان المتنبي، تحقيق عبد الواحد وافي.
  4. الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة.
  5. جوليا كريستيفا، نظرية التناص، ترجمة: فريد الزاهي، المركز الثقافي العربي.
  6. باختين، جماليات التلقي والتناص، دار الحوار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى