لجنة العلوم السياسية

المفاوضات الأمريكية – الإيرانية الأبعاد الإقليمية والخيارات الممكنة

بقلم أ.د هاني الياس خضر الحديثي

استاذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والخبير في شؤون الباكستان واسيا

عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات – لجنة العلم السياسية

يشكل موقع إيران الجيواستراتيجي الرابط بين جنوب وجنوب غرب ووسط آسيا فضلاً عن مساحتها الواسعة ومواردها الاقتصادية وخاصة في مجال الطاقة متغيرا مهما جدا ترك تأثيره دائما في الاهتمام الدولي بإيران في ظل استمرار التنافس بين الغرب والشرق على الموارد وطرق الملاحة والسيطرة على البر الجيوبولتيكي  الاوروأسيوي  (أوراسيا).

شهدت العلاقات الأمريكية -الإيرانية اثر سقوط نظام شاه ايران  مراحل مختلفة بين شد وجذب بعد 1978 اثر إعلان قيام نظام ايران( الإسلامي ) بزعامة الخميني رغم التنسيق  عالي المستوى بينهما أثناء الحرب العراقية -الإيرانية (فضيحة أيران غيت)التي رافقها تنسيق وتعاون إيراني -اسرائيلي في مجال التسلح وتدمير مفاعل تموز النووي في  بغداد عام 1981 و الذي شكل مصدر قلق بالغ للكيان الاسرائيلي  ، أضيف له التنسيق المتكامل في مواجهة العراق اثر غزو الكويت وما ترتب عن ذلك من عقوبات شاملة انتهت بإسقاط النظام السياسي في العراق بتعاون إيراني كامل عبر عنه الرؤساء وزعماء ايران من بينهم تصريحات الرئيس خاتمي و غيره من قادة الحرس الثوري الإيراني بانه لولا ايران لما استطاعت الولايات المتحدة من احتلال العراق عام 2003 م حيث كان الاحتلال الامريكي للعراق بداية عهد جديد لإيران في العراق عبر إقامة حكومات موالية لإيران  استطاعت عبر تركزها فيه الانطلاق نحو بلدان المشرق العربي لتصبح سوريا ولبنان  وفلسطين (غزة) ساحة نفوذ فعالة لمشروع ايران الاقليمي  حتى تم إسقاط نظام بشار الاسد في سوريا  وطرد المليشيات الموالية لإيران منه على يد ثوار تحرير الشام والمترافق مع تحييد حزب الله في لبنان اثر الضربات الاسرائيلية له ثم تتابع الضربات الأمريكية -الاسرائيلية لقوات الحوثيين في اليمن بعد تقويض قدرات حماس في غزة ليتم نزع فتيل التنافس الإيراني -الإسرائيلي على منطقة المشرق العربي لصالح اسرائيل نسبيا ،و ليبقى العمود الأساسي للنفوذ الإيراني متركزا في العراق ورقة تلعبها ايران في الضغط على المفاوض الأمريكي .

خلال هذه الفترة نجحت إيران في توظيف تعاطف إدارة اوباما معها لإنجاز الاتفاق النووي بينهما عام 2015 لكن شهدنا بعد عام 2019 في ظل إدارة ترامب الأولى والإدارات الأمريكية اللاحقة بنسب أضعف (عهد جوبايدن) وكذلك الحكومات الاسرائيلية وهي تهدد وتبرمج وتؤكد أنها ستوجه ضربات مدمرة لبرامج إيران النووية ومنشآتها العسكرية بسبب التطور النوعي للبرنامج وبروز النزعة الإيرانية بتحويله لإنتاج الأسلحة النووية خاصة بعد النجاح الإيراني في رفع نسب التخصيب لليورانيوم إلى 60./. وهو امر يقلق طموح اسرائيل في الانفراد بامتلاك أسلحة الردع الاستراتيجية في العالم العربي والشرق أوسطي كخطوة استراتيجية نحو مقاصدها التاريخية الاستراتيجية، لكن كل هذه التهديدات اختزلت بضربات مبرمجة طيلة السنة والنصف الماضية لم يقتل فيها شخص ولم يتم إصابة حافلة عسكرية.

الان في ظل العودة للمحادثات الأمريكية -الإيرانية وبعد خمس جولات من المفاوضات حتى الان وجولات أخرى متوقعة وانتهاء فترة الإنذار التي حددها الرئيس ترامب فان سيناريوهات عملية يمكن ان تطرح وكالاتي:

المشهد الاول نجاح المفاوضات بما يحقق نسبة تخصيب مقبولة تمكن إيران من توظيف الأموال التي ستردها نتيجة رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها وتوظيفها لتعزيز نفوذها في محيطها الاقليمي بشكل او بآخر.

لا يشمل هذا المشهد تأثر برامج إيران الصاروخية او إنهاء أذرعها في محيط إيران الاقليمي وخاصة في بلدان المشرق العربي، وهنا يمكن ان يشمل المشهد تنسيقا أمريكيا -ايرانيا في توزيع مناطق النفوذ لصالح الطرفين وخاصة في العراق.

كما يشمل ايضا إمكانية تحييد إيران في الشراكات الاستراتيجية لها مع الصين وروسيا وهو المقصد الرئيسي للإدارة الأمريكية التي تركز في استراتيجيتها على مسألتين أساسيتين:

الأولى: ضمان هيمنتها المطلقة على عموم الشرق الأوسط وخاصة العالم العربي بعيدا عن مشروع الصين الاستراتيجي (الطوق والطريق) .

الثاني: إنجاز التصدي لمشاريع الصين في الشرق الآسيوي بما يؤخر الصعود الصيني نحو هرم النظام الدولي.

المشهد الثاني: فشل التوصل الى مشتركات في المفاوضات للأسباب الواردة في المشهد الاول وبالتالي انهيار المفاوضات وتصعيد الموقف بين الطرفين وشركائهما.

يتحمل هذا المشهد تصعيد في العمليات العسكرية ضد حلفاء إيران في العالم العربي ويمكن هذه المرة ان يشمل الأذرع الإيرانية في العراق المرشح أصلا لضربات فاعلة ضد القواعد الإيرانية التي تضم قوات للحرس الثوري والمليشيات الموالية لإيران في مناطق استراتيجية في أنحاء العراق ومنها تلك القواعد المنشأة تحت الارض في صحراء الانبار والسماوة وعلى امتداد تواجدها داخل حدود العراق مع محيطه العربي، فضلا عن مرتكزات مهمة داخل بغداد ومحيطها.

من تداعيات هذا الفعل العسكري ان ترد القوى الولائية على القواعد والمنشئات الأمريكية ليس في العراق حسب انما في محيط العراق الاقليمي وخاصة بلدان الخليج العربي.

المشهد الثالث:

بقاء الوضع على ما هو عليه من توترات في الموقف دون استخدام القوة العسكرية بشكل واسع وربما الاكتفاء بعمليات جراحية تشمل الأشخاص الموالية لإيران مترافق ذلك مع مزيد من الضغط على الأذرع الإيرانية او الحليفة لها في قطاع غزة ولبنان وغيرها.

كل من هذه المشاهد تملك دلائل ومؤشرات عليها لكن الأهم من وجهة نظري ما يأتي:

اصرار إدارة ترامب على حسم الموقف في العالم العربي والشرق أوسطي لصالحها ضد تصاعد النفوذ الروسي -الصيني فيها.

ان هذا التحرك الاستراتيجي للولايات المتحدة هو جزء من استراتيجية التحرك نحو الشرق. وإذا كانت روسيا يمكن تطويق دورها عبر الضغط باتجاه تسوية تفاوضية بين روسيا واوكرانيا مقابل تنازل الروس عن بعض مناطق تواجدهم كما هو الحال في سوريا مثلا، فان الموقف مع الصين مختلف ذلك ان للصين مشروعها العالمي الذي يخترق الشرق الأوسط نحو العالم وفق ما هو معروف في مشروع الطوق والطريق والذي تحاول الولايات المتحدة تحطيم عقده الاستراتيجية بعقد وطرق بديلة تشمل طريق نيودلهي – موانئ فلسطين نحو العالم.

وهنا يدخل الصراع التقليدي بين الهند وباكستان مرحلة جديدة بسبب التحالف الصيني-الباكستاني ضمن مشروع الصين العظيم برا وبحرا ليكون جزءا من الصراع في منطقة الشرق الأوسط ليصب في تأثيراته على الحوار الأمريكي-الإيراني بسبب تشابك المصالح والعقد الجيواستراتيجية بين جنوب اسيا وغربها وشمالها حيث مصادر الطاقة في اسيا الوسطى.

تأسيسا على ما تقدم فان المستقبل يحمل ويتحمل هذه المشاهد الثلاث ، ولكن المرجح عندي ان ايران تستطيع ان تخرج من مجمل هذه المشاهد بالحد الادنى أو المقبول استراتيجيا من الخسائر  خاصة أنها تدخل المواجهات مع الولايات المتحدة واسرائيل بالنيابة من خلال اذرعها العسكرية في المنطقة العربية دون ان تدخل حربا مباشرة  ليست مستعدة لان تجعلها ترتفع إلى مستويات مواجهة مباشرة على اراضيها وهو الأرجح في مستقبل الصراع او التنافس  ، وهي بالتالي تقدم الآخرين  من الأذرع مصدات ومقدمات تحقق من خلالهم ردع فاعل مسنود باستمرار فعالياتها الداخلية باتجاه تطوير برنامجها النووي دون استعداد لخسارة هذا المنجز الاستراتيجي خاصة بعد نجاحها في رفع مستوى التخصيب لليورانيوم الممكن تحويله الى برنامج نووي عسكري الى نسبة تزيد على 60./..كما اسلفنا  في اي وقت تشاء .

ان ما تقدم حقق لها فعاليات إقليمية مهمة مع بلدان جنوب اسيا حيث التعاون مع الهند في تدريب الجماعات المتطرفة   المضادة للباكستان في اقليم بلوجستان الباكستاني وهو الأمر الذي خلق مؤشرات ومشتركات إيرانية -هندية تتعارض مع استقرار الباكستان الأمر الذي عبرت عنه باكستان سابقا بضربات جوية لمعسكرات التدريب في اقليم بلوجستان تحت السيطرة الايرانية  رغم تعدد أوجه التعاون الاقليمي لإيران مع باكستان ولكنه بذات الوقت يثير تساؤلات عن إمكانية تحقيق تنسيق إيراني -هندي مستقبلا يتعارض مع التعاون الصيني الباكستاني،  وهو بحد ذاته يخلق فرص لتنسيق إيراني -أمريكي -هندي اتجاه جنوب اسيا والمحيط الهندي يمكن توظيفه امريكياً في مواجهة الامتداد الصيني في شرق اسيا والمحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي وعموم الشرق الاوسط الامر الذي يعزز أوراق التعاون و يرجح فرص نجاح المفاوضات الأمريكية -الايرانية مستقبلا.

خلاصة القول ان مساحات النفوذ الإيرانية في محيطها الاقليمي يمكن ان تشهد تصعيد في العمليات العسكرية، ويمكن ايضا ان تتحول إلى ساحة تنازلات تقدمها إيران على طاولة المفاوضات لقاء الحفاظ على ديمومة برامجها الداخلية ضمنها البرنامج النووي بنسب تخصيب مقبولة او متفق غليها بضمانات دولية لتعود إيران لاحقا شريك استراتيجي وخاصة في البعد الاقتصادي مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

اما سيناريوهات تدمير برامجها النووية بالقوة العسكرية فانه خيال علمي لم يعد جائزا التفكير به بعد عجز الضربات الأمريكية عن تدمير مواقع استراتيجية محصنة لدى الحوثيين في اليمن، فكيف الحال لمواقع اشد أهمية وأكثر تحصينا كالمواقع النووية في إيران، ليبقى موضوع تغيير النظام السياسي في إيران امراً متروكا لتفاعل متغيرات داخلية في إيران بالدرجة الأولى وربما يكون مدعوما خارجيا في المستقبل في حالة فشل التوصل لاتفاق شامل عبر المفاوضات التي يبدو أنها ستأخذ وقتا اطول مما هو متوقع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى