لا عزاء للمستثمرين في أراضي مصفى الدورة

الاستاذ سعد الله الفتحي
العضو المؤسس في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
لجنة الصناعة والطاقة
(رئيس المؤسسة العامة لتصفية النفط وصناعة الغاز سابقا)
يذكر القراء مقالتي قبل ايام عن «مصفى الدورة: آن للفارس ان يستريح» التي بينت فيها وجهة نظري فيما يسمى «نقل» مصفى الدورة الى جرف الصخر. ولا أخفي عليكم انني اصبت بإحباط لأنني على سعة انتشار المقالة وتوزيعها فأنني لم استلم من اي من اصدقائي المختصين او من القائمين على وزارة النفط حاليا ما يفيد الى رأي مهني مؤيد او مخالف لما جاء في المقال او من اضافة جديدة تتوسع في شرح هذا الموضوع المهم. لذا عزمت على عدم العودة اليه فقد قلت ما فيه الكفاية.
لكنني استلمت كثيرا من الرسائل التي تقول ان موضوع «نقل» مصفى الدورة ليس فنيا ولا اقتصاديا وانما لغرض الاستيلاء على الاراضي وبيعها بأسعار عالية او استثمارها بنشاطات تخدم بعض المتنفذين. واستفزني تعليق في الفيسبوك من أحد الاقتصاديين الذي ارفق خارطة لحدود اراضي المصفى قائلا: «الأرض المحددة في الصورة هي مصفى الدورة في قلب بغداد. الأرض المقام عليها مصفى الدورة سعرها بين (4-6) مليار دولار. اقترح على الدولة بيعها ومن خلال الأموال بناء مصفى أكبر وأحدث في مكان آخر وبالتالي:
مساحات جديدة
1-تخليص العاصمة من أكبر مصدر للتلوث.
2-اضافة مساحات جديدة للعاصمة من اجل التوسع الحضري.
3-بناء مصفى جديدة أكبر وأحدث بدون تكليف الدولة دينار واحد.»
والحقيقة ان مصفى الدورة مصدرا كبيرا للتلوث، ولكن الاكبر منه هو تدني مواصفات المنتجات النفطية في عموم العراق وخاصة في بغداد. فباستثناء منتجات مصفى كربلاء، فان بقية المصافي لا ترتقي بمواصفات منتجاتها الى الحد المطلوب بيئيا وصحيا. أما عن «اضافة مساحات جديدة للعاصمة من اجل التوسع الحضري» فأرجو ان لا يعني ذلك بناء المساكن والعمارات السكنية وغيرها لأن الغالبية الساحقة من اراضي مصفى الدورة مشبعة بالتلوث ولا يمكن استصلاحها لتلك الاغراض باستثناء المنطقة الادارية وحدائقها الغناء التي يجب عدم التلاعب بها في كل الأحوال.
وبرأيي واستنادا الى ما حدث في اماكن اخرى فان اراضي مصفى الدورة بعد ايقافه ونقل معداته الى خارج الموقع، فأنها لن تصلح الا لأن تكون حديقة عامة او غابة او ما شابه ذلك بتقرير مختصين بمثل هذه الاعمال مستعينين بخبرة عالمية ومسترشدين بما حدث في مواقع مشابهة في دول اخرى.
دعوني اضرب مثلا: فمصفى نفط (امباير) في تكساس الذي يشغل مساحة 800 ألف متر مربع تقريبا كان يعمل بين سنة 1916 وحتى الثلاثينات من القرن الماضي. وترك كذلك حتى سنة 2000 حين فرضت الادارات الفدرالية استصلاح الموقع بعد تسلمها شكاوى بموت الطيور المهاجرة وبعض الحيوانات البرية نتيجة للتلوث النفطي في اماكن مختلفة من الموقع وبدرجات مختلفة ايضا. واتفق في 2008 على تحويل ما يقرب من 538 ألف متر مربع الى اراض رطبة او مروية واخرى مزروعة بالحشائش كتعويض للعامة عما سببه انطلاق الملوثات النفطية وغيرها من الموقع اذ تم الانتهاء من العمل في 2014 وانتقل الى مرحلة المراقبة.
وفي موقع آخر في تكساس (بيرو ودكسي للتكرير) والذي كانت تمارس فيه عمليات محدودة مثل استعادة وتدوير المنتجات النفطية وتنشيط العوامل المساعدة وتدوير منتجات بتروكيمياوية وانتاج وقود طائرات. كل ذلك بين 1957 و1982وعلى مساحة 235 ألف متر مربع تقريبا محاذية لأحد الجداول. لوحظ هناك موت عدد من الطيور عبر السنين واتفقت الجهات المعنية على انشاء منطقة ارض مروية محاذية للجدول المائي بمساحة 25 إلف متر مربع والمحافظة على مساحة 400 ألف متر مربع تقريبا للغابات وما تبقى ارض مراعي. وفي مقالة على موقع «الاتحاد الاوربي» هناك العديد من المواقع الصناعية المهجورة تقدر مساحتها بين 2 – 4 مليون هكتار (الهكتار 10 آلاف متر مربع) بما في ذلك عددا من مصافي النفط التي اغلقت منذ سبعينات القرن الماضي. لكن تطوير هذه المواقع صعبا للغاية بسبب تلوث تربتها وان الحفر وتبديل التربة لم يعد مثاليا بسبب نقل التربة وتلويث موقع جديد، حتى لو كان موقعا للطمر الصحي. وعليه تقترح المقالة زراعة هذه المواقع بمحاصيل يمكن استخدامها لتوليد الطاقة المتجددة حيث لها القابلية لامتصاص الملوثات على مرور الزمن اضافة الى توسع المناطق الخضراء وانتعاش اماكن الاحياء البرية وتحسن البيئة المحلية. وعلى الرغم من نجاح المشاريع التجريبية فليس من الواضح مدى تطبيق هذه الطريقة الواعدة بالاستصلاح.
وكان مصفى (فيليبس 66) في ولاية اوكلاهوما قد عمل بين سنتي 1921 و1983 بطاقة بلغت في اقصاها 51 ألف برميل باليوم. واحتوت اراضي الموقع مساحات خصصت لسكن العاملين. وفي سنة 2003 اتفقت شركة (فيليبس 66) وادارة البيئة في الولاية على خطوات تنظيف الموقع التي تضمنت ازالة المواد الخطرة ورفع الاجهزة والمعدات القديمة بما في ذلك شبكات الانابيب المدفونة والخزانات وتطهير الارض والتربة واعادتها الى ما كانت عليه بموجب القوانين والانظمة السائدة حيث تصبح ممكنة كمواقع صناعية. وقد انتهت هذه المرحلة السطحية في 2006 وبدأت مرحلة استكشاف مدى تلوث تحت الارض حيث تم حفر وتنظيف واعادة الطمر بتربة نظيفة لبعض المناطق اعتماد على مدى تلوثها. وكانت نوعية الهواء تراقب في المنطقة باستمرار. ولم يعلن رسميا انتهاء هذه الاعمال لحد الان الا ان الموقع خصص لأغراض تجارية وصناعية وليس لأي نشاطات سكنية او ترفيهية وكذلك منع حفر ابار المياه في الموقع.
وفي مدينة كالغاري في كندا توقف مصفى نفط (امبريال) عن العمل في 1975 وبقي معظم الموقع بعيدا عن دخول العامة. وكلفت المدينة ادارة الحدائق لإعداد خطة لتحويل الموقع الى حديقة عامة بتخصيص 170 ألف دولار للخطة التي يعتقد انها ستكلف في النهاية 60 مليون دولار. كما نظفت المنطقة السكنية القريبة بحفر وتنظيف التربة حول المساكن بأعماق تصل الى ثلاثة أمتار وأحيانا أكثر.
هذه بعض الأمثلة التي حصلت عليها على عجالة لكي اضع امام من يريد الاستحواذ على اراضي مصفى الدورة ما سيواجهه من اخطار وكلف عالية ليست بالحسبان الآن. واود ان اشير هنا الى ان كل المواقع المشار اليها اعلاه صغيرة بالنسبة لمصفى الدورة الذي يحتوي على مصفى للوقود وثلاثة مصافي لزيوت التزييت وان مساحة اراضيه قد تصل الى اضعاف أكبر المصافي المشار اليها اعلاه.
والآن دعوني اعود الى ماورد في مقولة الاقتصادي من حيث قال «بناء مصفى جديدة أكبر وأحدث بدون تكليف الدولة دينار واحد.» وسآخذ هنا مثالا واحدا لتنظيف جزء من مصفى للأغراض الصناعية فقط دون الحاجة الى كلف المسائل البيئية. فقد قامت شركة مصافي الرويس في الامارات العربية المتحدة بتنظيف موقع قديم فيه وحدتين انتاجيتين صغيرتي الحجم نسبيا في الجزء الغربي من المصفى بقصد انشاء توسيعات جديدة فيه. وقد تم ازالة ما يقرب من ستة آلاف طن من تراكيب الحديد والمعدات وأكثر من 53 كم من شبكات الانابيب وجميع توصيلات الكهرباء واجهزة السيطرة وأكثر من ستة الاف متر مكعب من الكونكريت واخيرا 122 ألف متر مكعب من التربة و600 متر مكعب من الاسفلت ليصبح الموقع جاهزا لإنشاء وحدات انتاجية جديدة. وقد استغرق العمل ستة أشهر وكلف ما يقرب من 24 مليون دولار وقامت به شركة متخصصة.
فاذا علمنا ان مصفى الدورة فيه ثلاثون وحدة انتاجية كبيرة ومتوسطة وصغيرة فتصوروا كم ستكون كلفة استعادة الموقع بالمقارنة علما باننا يجب ان نضيف الى ذلك كلفة التخلص من عدد كبير من الخزانات ايضا. سأغامر واقول ان كلفة استعادة اراضي مصفى الدورة لن تقل عن مليار دولار وان الموقع المستعاد لن يكون صالحا الا للزرع والتشجير. وبخبرتي المتواضعة لو وضعت مفردات العمل المطلوب وتوقيتاته فربما ستكون بمئات الصفحات.
لكن اولا لنبني المصفى المعوض ونشغله ونفكر في نفس الوقت بخطة تتضمن الاستفادة من بعض المعدات وتوزيعها على المصافي القائمة وساحات خزن تعد لهذا الغرض بالتعاون مع مصاهر الحديد القريبة.
وختاما، لا داعي اطلاقا للتخلص كليا مما على ارض مصفى الدورة. فالخزانات الكبيرة قد يكون بالإمكان الحاقها بمنشأة خطوط الانابيب الملاصقة للمصفى وبعضها مرتبط اصلا وهناك تبادل بالمنتجات. وهناك مئة استعمال ممكنة لبنايات المنطقة الادارية وخاصة المبنى الرئيسي التاريخي وكذلك مبنى المطاعم والطبابة وبعض الورش والمخازن وغيرها ويمكن لمعهد تدريب متخصص الاستفادة من كل ذلك على مدى عقود من الزمن اوحتى ضم كل ذلك الى شركة المعدات النفطية الملاصقة ايضا. وينطبق ذلك على وحدات تعاملات المياه فالموقع سيحتاجها بالتأكيد لكل الاغراض المستقبلية.
منقول من جريدة الزمان بتاريخ 29 تموز 2024