لجنة الاسكان و البنى التحتية

الممرات وسلاسل الإمداد: مستقبل الهيمنة العالمية في ظل الفوضى الخلاقة والاحتواء المزدوج

أ.د. طه أحمد عليوي

تخصص هندسة الذكاء الاصطناعي والاتصالات الحديثة

عضو لجنة الإسكان والبنى التحتية

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

  • مقدمة

في خضم التحولات المتسارعة التي يعيشها النظام الدولي، برزت نظريات جديدة في إدارة النفوذ والصراع، من أبرزها “الاحتواء المزدوج” و”الفوضى الخلاقة”. إذ لم تعد الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تمارس هيمنتها المباشرة كما في القرن العشرين، بل أصبحت تعتمد على أدوات التفويض والشرعية الدولية، مستعينةً بحلفائها الإقليميين لتثبيت النفوذ وكبح الصعود الجيوسياسي للمنافسين، وفي مقدمتهم الصين. في هذا السياق، تُطرح شبكة الممرات وسلاسل الإمداد كعنصر محوري في هندسة الصراع الجيو-اقتصادي بين الشرق والغرب، حيث تلعب مبادرات مثل “الحزام والطريق” و”تحالف حارس الازدهار” أدوارًا رئيسية في إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية للنفوذ، وتحديد هوية المنطقة الممتدة من آسيا إلى أوروبا.

 

  • الاحتواء المزدوج: إدارة غير مباشرة للصراع

تعني نظرية “الاحتواء المزدوج” أن القوى الكبرى باتت غير قادرة (أو غير راغبة) على خوض الحروب المباشرة، فتلجأ إلى أدوات التفويض عبر الحلفاء، باستخدام غطاء الشرعية الدولية والتدخلات المقننة تحت مبررات “الحرب الوقائية” أو “حماية الأمن الإقليمي”. ويُطبق هذا النموذج غالبًا عبر ما يُعرف بـ”اضربني حتى أضربك” – أي افتعال تصعيد محدود يوفر الذريعة لتدخل أوسع. وقد شهدنا أنماطًا من هذا في عدة بؤر توتر في الشرق الأوسط، حيث تُستخدم الأزمات المحلية كوسيلة لتغيير البوصلة الدولية بعيدًا عن التحديات الهيكلية الكبرى. بكلمة أخرى، تُعد نظرية “الاحتواء المزدوج” أحد أبرز الأساليب الجيوسياسية التي تعتمدها القوى الكبرى في إدارة الصراعات المعقدة دون الانخراط المباشر فيها. فمع تصاعد التكاليف السياسية والاقتصادية للحروب التقليدية، باتت هذه القوى – مثل الولايات المتحدة أو الصين – تميل إلى تفويض حلفائها الإقليميين أو وكلائها المحليين للقيام بالأدوار القتالية أو السياسية نيابة عنها، ضمن ما يُعرف بـ”إدارة غير مباشرة للصراع”. هذا النمط يتم غالبًا تحت مظلة شرعية دولية، باستخدام مبررات مثل “الحرب الوقائية” أو “حماية الأمن الإقليمي” أو “الدفاع عن حقوق الإنسان”، وهي مسوغات تتيح التدخل دون تحمل التبعات الكاملة. ويُستخدم نموذج “اضربني حتى أضربك” كأداة لتنفيذ هذا النهج، حيث يتم افتعال تصعيد محدود – كاستهداف قاعدة أو ممر بحري – مما يوفر الذريعة القانونية والسياسية لتوسيع التدخل لاحقًا. في الشرق الأوسط، ظهرت تطبيقات هذا النموذج في عدد من بؤر التوتر، مثال ذلك بعض دول المنطقة، حيث تُستخدم الأزمات المحلية كأداة لتحريك التوازنات، وتحويل أنظار المجتمع الدولي بعيدًا عن الصراعات البنيوية الكبرى، مثل التنافس الأمريكي-الصيني أو الصعود الروسي. بهذه الطريقة، تضمن القوى الكبرى استمرار نفوذها دون الدخول في مواجهة مباشرة، وتعيد رسم الخرائط الإقليمية من خلف الستار. فالاحتواء المزدوج ليس فقط استراتيجية أمنية، بل أداة لإعادة إنتاج النظام العالمي بمعايير جديدة، يتحول فيها الخصم إلى حليف مؤقت، والصراع إلى فرصة سياسية.

 

  • التحول نحو آسيا: الصين والتهديد الجيو-اقتصادي

تمثل الصين اليوم التحدي الأكبر للنظام العالمي التقليدي، عبر صعودها المتسارع اقتصاديًا، تقنيًا، وعسكريًا، وقد أحرزت تقدمًا نوعيًا في توسيع نفوذها داخل الشرق الأوسط من خلال مشروعات البنية التحتية، والاتفاقيات الثنائية طويلة الأمد، خاصة ضمن إطار “مبادرة الحزام والطريق”. لكن في المقابل، بدأت الولايات المتحدة – ومعها أوروبا – في تقوية تحالفاتها مع الهند بوصفها:

  • بديلًا استراتيجيًا للصين.
  • شريكًا يتمتع بكتلة سكانية هائلة وقوى عاملة مؤهلة.
  • نقطة ارتكاز قريبة جغرافيًا من أسواق الخليج وأوروبا.
  • طرفًا مندمجًا في ترتيبات إقليمية كـ”الرباعية الأمنية QUAD”.

الهند هنا ليست مجرد حليف، بل عنصر موازن يُعاد تأهيله لمواجهة النفوذ الصيني دون الاصطدام المباشر.

 

  • صراع الممرات وسلاسل الإمداد: الجغرافيا كأداة للهيمنة

تحولت الممرات البرية والبحرية حول العالم إلى ساحات استراتيجية حاسمة للصراع بين مشروعين عالميين متنافسين، يعكسان رؤية مختلفة لمستقبل النظام الدولي والاقتصاد العالمي. من جهة، يقود مشروع “الحزام والطريق” الصيني طموحًا ضخمًا لربط شرق آسيا بأوروبا وأفريقيا عبر شبكة واسعة من الممرات البحرية والبرية، تشمل سكك حديد، طرق بحرية، وموانئ استراتيجية، بهدف تعزيز النفوذ الصيني الاقتصادي والجيوسياسي عالميًا. ومن جهة أخرى، تسعى الولايات المتحدة بقيادة تحالف حارس الازدهار” (IMEC) إلى تقديم بدائل تنافسية تُمكنها من تطويق النفوذ الصيني المتزايد، عبر بناء تحالفات إقليمية وتقوية سلاسل الإمداد الخاصة بها. هذا الصراع الجيوسياسي يترافق مع تحولات جيو-اقتصادية عميقة، أبرزها ارتفاع ملحوظ في تكاليف الشحن العالمي، ما أدى إلى اختناقات مزمنة في سلاسل الإمداد، أثرّت سلبًا على اقتصادات متعددة. كما شهدت المنطقة العربية والشرق أوسطية حالة من التهميش المتعمد، إذ لم تعد تشكل مركزًا أساسيًا في هذه المعادلات الجديدة، بل تحولت إلى مناطق عبور أو منافذ خدمية تابعة لمصالح القوى الكبرى. إلى جانب ذلك، نشهد تحوّلًا في الهوية الإقليمية، من هويات دينية أو قومية تقليدية (مثل “الإسلامية” أو “العربية”) إلى هوية “شرق أوسطية” مدجنة، تصاغ لتتماشى مع النظام الاقتصادي العالمي الجديد، مما يسهل التحكم بالمنطقة وتقليل قوة فاعليتها السياسية. بهذا الشكل، تُستخدم الجغرافيا، عبر التحكم بالممرات الحيوية، كأداة أساسية للهيمنة والاستمرار في صراع النفوذ الدولي، الذي لن يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل سيمتد ليشمل أبعادًا سياسية وأمنية واستراتيجية. الممرات البرية والبحرية تحولت إلى ساحة حقيقية للصراع بين مشروعين متضادين:

  • الحزام والطريق الصيني: يربط شرق آسيا بأوروبا وأفريقيا عبر ممرات بحرية وبرية ضخمة.
  • تحالف حارس الازدهار / IMEC بقيادة الولايات المتحدة: يحاول تقديم بدائل قابلة للمنافسة وتطويق نفوذ بكين.

وترافق هذا الصراع مع ظواهر جيو-اقتصادية كبرى:

  • ارتفاع كبير في تكاليف الشحن.
  • اختناق في سلاسل الإمداد.
  • تهميش ممنهج لدول عربية وشرق أوسطية.
  • تعويم الهوية الإقليمية وتحويلها من “إسلامية/عربية” إلى “شرق أوسطية” مدجنة تخدم النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

 

  • الدولار والبترودولار: سلاح النقد في ميزان الهيمنة

يُعتبر الدولار الأمريكي حجر الزاوية في الهيمنة الاقتصادية الغربية والعالمية، حيث يقوم نظام مالي عالمي مبني على هيمنة الدولار في التبادل التجاري، خصوصًا في أسواق الطاقة. ومع ذلك، يواجه هذا النظام تحديات متزايدة تهدد استقراره وأدوات نفوذه. فمن الناحية الجوهرية، أقل من 10% فقط من قيمة الدولار الأمريكي مدعومة بالذهب، مما يجعله عملة تعتمد بشكل أساسي على الثقة والهيمنة السياسية وليس على أصول مادية ملموسة. يرتكز نظام “البترودولار” على تسعير النفط بالدولار، مما يضمن طلبًا مستمرًا للعملة الأمريكية، ويدعم مكانتها كعملة احتياطية عالمية. لكن هذا النظام بدأ يفقد احتكاره تدريجيًا، حيث شهدنا خطوات متسارعة من دول كبرى مثل الصين وروسيا تجري معاملات تجارية خارج نطاق الدولار، باستخدام اليوان والروبل وحتى الذهب، في محاولة لكسر الهيمنة الأمريكية على أسواق النفط والطاقة. في حال انهيار هذا النظام، ستتحول الديون الأمريكية المليارية إلى مجرد أوراق بلا قيمة حقيقية، مما يضعف نفوذ واشنطن على الأسواق الناشئة ويهدد قدرتها على فرض شروط اقتصادية وسياسية على شركائها. هذا التحول سيؤدي إلى ظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب اقتصادياً، حيث تتشارك عدة عملات ومراكز قوة في تحديد مسارات التجارة والتمويل. وبالتالي، فإن “الاحتواء المزدوج” لا يقتصر على الأبعاد الجغرافية والسياسية فقط، بل يمتد ليشمل أداة النقد، التي باتت ساحة حاسمة في الصراع الدولي من أجل الهيمنة والسيطرة على الاقتصاد العالمي. بملخص شديد، يشكل الدولار الأمريكي الركن الأساسي في بنية الهيمنة الغربية، لكنه يواجه تهديدات متعددة:

  • أقل من 10% من قيمة الدولار مغطاة بالذهب.
  • “نظام البترودولار” – أي تسعير النفط بالدولار – بدأ يفقد احتكاره.
  • العديد من الدول (منها الصين وروسيا) بدأت تُجري معاملات ثنائية خارج الدولار (باليوان، الروبل، الذهب).

وفي حال سقوط هذا النظام:

  • تصبح الديون الأمريكية عبارة عن أوراق بلا قيمة.
  • تضعف السيطرة الأمريكية على الأسواق الناشئة.
  • يتبلور شكل جديد من الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب.

الاحتواء المزدوج هنا لا يقتصر على الجغرافيا بل يمتد إلى الاقتصاد والنقد. وبذلك تنعكس خطورة انهيار الدولار ذو وطئة عالية على الصين كونها الدول الأكبر التي تمتلك حصة عالية من الدين مما يجعلها امام معضلة كبير وتحت رحمة الولايات المتحدة في خال رغبت الأخيرة الى الانتقال الى العملة المشفرة الرقمية.

 

  • الصين: بين فخ التحالفات وهوس الدولار

تمتلك الصين احتياطيًا ضخمًا من الدولار الأمريكي يتجاوز ثلاثة تريليونات دولار، وهو ما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في النظام المالي العالمي، ولكن هذا الاحتياطي الضخم يضعها في معضلة معقدة. من جهة، تسعى الصين جاهدة لتعزيز مكانة عملتها المحلية، اليوان، وتحقيق استقلال نقدي عن الدولار، خصوصًا عبر مبادرات مثل مشروع “الحزام والطريق” وتعزيز التجارة باليوان مع شركائها. من جهة أخرى، لا تزال الصين مرتبطة ماليًا بنظام الدولار العالمي، حيث تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على التجارة الدولية والأسواق التي تُهيمن عليها قواعد الدولار والتجارة الغربية. هذه العلاقة المالية المعقدة تجعل الصين مكبلة بتحالفات سياسية هشة وغير مستقرة، مثل تحالفها مع إيران وباكستان، حيث تلعب المصالح الاستراتيجية دورًا أكبر من الثقة المتبادلة أو الاستقرار السياسي. وفي ظل هذه التحالفات، تواجه الصين ضغوطًا غربية مستمرة تهدف إلى تقييد نفوذها الاقتصادي والسياسي. وتتمثل هذه الضغوط في معادلة قاسية: إما الخضوع لقواعد السوق العالمية التي صممت أصلاً لتقييد توسعها ونفوذها، أو محاولة فك الارتباط بالدولار تدريجيًا، وهو خيار محفوف بالمخاطر. فك الارتباط المفاجئ قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي داخلي في الصين، نتيجة الاعتماد الكبير على النظام المالي العالمي القائم على الدولار. بهذا، تبقى الصين في موقف حرج، حيث يجب أن توازن بين طموحاتها في الاستقلال الاقتصادي وحاجة السوق إلى الاستقرار المالي، مما يجعلها هدفًا رئيسيًا في لعبة الهيمنة الاقتصادية العالمية. رغم أن الصين تمتلك احتياطيًا ضخمًا من الدولار (تتجاوز 3 تريليونات دولار)، إلا أنها:

  • مرتبطة ماليًا بالدولار رغم سعيها لتعزيز اليوان.
  • مكبّلة بتحالفات سياسية غير مستقرة (مثل إيران وباكستان).
  • تعتمد على أسواق تُهيمن عليها قواعد الدولار والتجارة الغربية.

هذا يجعل الصين عرضة للضغط الغربي:

  • إمّا الخضوع لمعادلة السوق المصممة أصلاً لتحجيمها.
  • أو محاولة فك الارتباط بالدولار تدريجيًا وهو ما قد يجر انهيارًا اقتصاديًا داخليًا.

 

  • خاتمة: إلى أين تتجه بوصلة الهيمنة؟

تشكل الفترة الراهنة مرحلة حرجة في إعادة تشكيل النظام الدولي، حيث تدير القوى الكبرى صراعات متعددة الأبعاد بآليات ذكية كـ”الاحتواء المزدوج” وتحالفات إقليمية وتوظيف الممرات وسلاسل الإمداد. تصعد الصين والهند كقوتين جيوسياسيتين مؤثرتين، في حين يحاول الغرب الحفاظ على نفوذه الاقتصادي والسياسي. يبقى السؤال الأبرز: هل سينجح النظام الدولي الجديد في بناء قواعد متعددة الأقطاب عادلة ومرنة، أم أن الهيمنة الغربية التقليدية ستُعاد صياغتها بأوجه جديدة؟ مع تعقيد الصراعات الاقتصادية والنقدية، فإن مستقبل الهيمنة العالمية سيعتمد على كيفية إدارة هذه التحديات عبر استراتيجيات تتسم بالذكاء والمرونة.باختصار العالم يشهد صراعًا متعدد الأبعاد:

  • الغرب يحاول إدارة الانحدار عبر أدوات ذكية: الاحتواء المزدوج، الحلفاء، العقوبات، والممرات.
  • الصين تناور لتحرير نفسها من فخ الدولار دون أن تخسر ثرواتها.
  • الهند تصعد كقوة جيوسياسية مرشحة للعب دور المحور في المرحلة القادمة.

ويبقى السؤال الحاسم:

هل ستنجح الصين في التخلص من قيود الهيمنة النقدية الغربية؟ أم أن النظام الدولي الجديد سيُعاد تشكيله تحت نفس القواعد القديمة ولكن بوجوه جديدة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى