الضربة الاستباقية: إسرائيل وإيران في مفترق طرق

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي
المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، شنت إسرائيل ضربة جوية موسّعة ضد أهداف عسكرية ونووية إيرانية في عشر محافظات، من أصل 31 محافظة إيرانية. هذا الهجوم، الذي استهدف قادة من الحرس الثوري وعلماء في المجال النووي، لم يكن مجرد مناورة عسكرية، بل إعلان سياسي وعقيدة أمن قومي إسرائيلية مفادها: “لن ننتظر حتى تهاجمنا إيران”.
في ظل هذه الأحداث، تتقاطع الحسابات العسكرية مع الملفات النووية، وتُعاد صياغة المعادلات الجيوسياسية في المنطقة. ومن خلف المشهد، تلوّح الولايات المتحدة بدبلوماسية مشروطة، وتحاول في الوقت ذاته حرف الأنظار عن أزماتها الداخلية الممتدة من لوس أنجلوس إلى فلوريدا.
الدوافع الإسرائيلية: ضربة استباقية أم سياسة الأرض المحروقة؟
ترى إسرائيل في البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا. ومع اقتراب إيران من العتبة النووية، وتعثّر المفاوضات الأمريكية الإيرانية، اختارت تل أبيب توقيتًا مدروسًا لتنفيذ ضربة تُربك إيران وتعيدها للوراء سنوات.
أحد أبرز الدوافع كان احتمالية حصول إيران على منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، مما قد يجعل أي ضربة جوية مستقبلية باهظة الثمن وغير مضمونة النتائج. كذلك، تعتبر إسرائيل أن التصعيد مع إيران هو السبيل لخلط الأوراق في الميدان اللبناني والغزي، وإضعاف “محور المقاومة” ككل.
إسرائيل تريد فرض معادلة جديدة: لا أمن نووي لإيران، ولا هدوء استراتيجي إذا استمرت بتمويل وتوجيه الوكلاء في لبنان وسوريا وغزة.
الرد الإيراني المحتمل: الصمت التكتيكي أم الرد المتعدد الجبهات؟
حتى الآن، تميل إيران إلى الصبر الاستراتيجي، لكنها أرسلت إشارات واضحة بأن الرد قادم، وفي الوقت والمكان المناسبين. لدى إيران خيارات عديدة، منها:
- استخدام فصائلها في العراق واليمن لضرب المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
- تحريك الجبهة اللبنانية عبر حزب الله.
- استهداف السفن التجارية أو إغلاق مضيق هرمز في تصعيد نوعي.
لكن هناك حسابات دقيقة: إيران لا تريد حربًا شاملة الآن، خاصة وهي تُعاني داخليًا من أزمة اقتصادية واحتقان شعبي، وضغط غربي متزايد. ولذلك، فإن أي رد سيكون مدروسًا، وغير مباشر غالبًا، لكنه سيحمل رسائل استراتيجية.
العراق بين مطرقة الجغرافيا وسندان النفوذ الإيراني
العراق لا يملك رفاهية الحياد. فهو جغرافيًا متصل بإيران، وسياسيًا لا يزال تحت تأثير محور طهران. هذا الوضع يجعل العراق مرشحًا لأن يكون ساحة تصفية حسابات لا إرادية، حيث يمكن:
- استهداف القواعد الأمريكية في عين الأسد أو أربيل كرد على الهجوم الإسرائيلي.
- استخدام الفصائل المسلحة الموالية لإيران في أعمال “تخريب محسوب”.
- تأثر سوق الطاقة العراقي بفعل تقلب أسعار النفط أو تضرر خطوط الإمداد.
وفي حال تطور الصراع إلى مواجهة مفتوحة، فإن العراق قد يواجه سيناريو شبيهًا بالعراق 2019” حين اشتعلت الاحتجاجات بفعل التدهور الأمني والاقتصادي، وقد يتكرر ذلك بشكل أشد إن أصبح العراق “ساحة” لا “دولة فاعلة”.
الخليج العربي: أمن الطاقة في عين العاصفة
دول الخليج العربي تجد نفسها أمام تحديات دقيقة، بسبب قربها الجغرافي من إيران وارتباطها الحيوي بأسواق الطاقة العالمية:
- أي تهديد لمضيق هرمز من شأنه أن يؤثر على استقرار حركة تصدير النفط والغاز عالميًا.
- القواعد الأجنبية المنتشرة في بعض دول الخليج، وخصوصًا الأمريكية، قد تكون معرضة للاستهداف في حال تصاعد التوتر.
- الاستثمار والتجارة والطيران قد تتأثر في حال تحول المشهد إلى صراع مفتوح.
- دول الخليج تنظر إلى استقرارها على أنه خط أحمر، وهي تبذل جهودًا دبلوماسية متعددة للتهدئة وتفادي أي انجرار نحو صراع مباشر.
الخليج العربي اليوم لا يسعى للتصعيد، بل يعوّل على الحكمة السياسية والمبادرات الإقليمية والدولية لاحتواء الأزمة قبل أن تصبح مواجهة شاملة.
السيناريو الليبي: هل يُراد لإيران أن تسلك الطريق نفسه؟
بدأت بعض المراكز الغربية تتحدث عن “تكرار النموذج الليبي” مع إيران: تقويض القوة النووية، ثم إسقاط النظام لاحقًا. لكن إيران ليست ليبيا، فلديها:
- عمق استراتيجي جغرافي وسكاني.
- بنية عسكرية متماسكة وغير تقليدية.
- حلفاء إقليميون قادرون على إرباك أي تحالف دولي مضاد.
ومع ذلك، فإن الغرب – وتحديدًا واشنطن وتل أبيب – يراهن على إنهاك إيران سياسيًا واقتصاديًا، تمهيدًا لانهيار داخلي يسبق أي مواجهة مفتوحة.
إعادة تشكيل التوازنات: شرق أوسط ما بعد الغارات
ما بعد هذه الغارات لن يشبه ما قبلها. نحن أمام شرق أوسط جديد:
- سوريا أصبحت حلبة للطائرات الإسرائيلية ولصواريخ إيران.
- لبنان على حافة الانفجار، سياسيًا وأمنيًا.
- العراق في منطقة ضغط مرتفعة.
- الخليج العربي يترقب ويوازن بين الاستعداد الأمني والتهدئة السياسية.
في هذا السياق، قد تتحرك الصين وروسيا لتثبيت حضور بديل عن الغرب، مما يُنذر بتحول المنطقة إلى ساحة حرب باردة بين أقطاب القوى الدولية.
وفي الختام من لا يملك أوراق القوة، يصبح وقودًا للحرب
إن المشهد الذي نشهده اليوم، رغم عنفه، ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة عقود من صراع الاستراتيجيات وتوازنات الردع. وفي هذا السياق، تبدو الدول التي فقدت سيادتها السياسية أو اكتفت بدور المتفرج، مرشحة لتكون وقود المرحلة القادمة.
إيران لن تركع بسهولة، وإسرائيل لن تنتظر لتُضرب، وأمريكا لن تدافع عن أحد مجانًا.
والسؤال الأخطر يبقى:
هل نملك نحن العرب، لا سيما العراق والخليج، مشروعًا وطنيًا وإقليميًا يمنعنا من التحول إلى أدوات في حرب غيرنا؟