أعطاب المصارف إسلامية التسمية

“دراسة حالة”
شوان زنگنه
اللجنة الاقتصادية في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
خبير سياسي واقتصادي، مُحكَّم ومستشار شرعي، مستشار حكومي سابق
22/01/2025
تُعاني المصارفُ والبنوك التي يحلو للبعض أنْ يسمّيها تشاركية أو إسلامية، العديدَ من الأعطاب القانونية والشرعية، فخدماتها المصرفية، بجانبيها الإيداع والتمويل، لا تتوافق مع القوانين والأنظمة الضابطة للأنشطة المَصرِفية، من جهة، ولا تنسجم مع مقتضيات ومتطلّبات الأحكام الشرعية ومقاصد الشريعة الإسلامية، من جهة أخرى.
ففي جانب الإيداع، وأقصد به: إيداع المواطن مبلغا من المال لدى المَصرِف (الإسلامي!) بهدف الاستثمار، فإن المصرف يدّعي أنه يقوم باستثمار هذا المبلغ على أساس الغُنْمِ والغُرْمِ (الربح والخسارة)، وليس على أساس القرض بفائدة، وهذا يعني أن المصرف يقوم بتوظيف هذا المبلغ لصالح المُودِعِ (صاحب المال) ضمن أنشطته وخدماته المصرفية، وفي هذه الحالة لا بدّ من تكييف العلاقة بين المُودِعِ (صاحب المال) والمصرف، ويأتي التكييف الشرعي لهذه الحالة بصيغةٍ من الصيغ الثلاثة التالية:
الصيغة الأولى: صيغةُ الشَّراكة، وهي تعني أن المُودِعَ يصبح شريكا في رأسمال المصرف المُعَدِّ للاستثمار بالمبلغ الذي قام بإيداعه، وهذا يقتضي، شرعا وقانونا، ابرام عقد شراكةٍ بين المُودِعِ والمصرف، ينظّمُ طبيعةَ ومهمّاتِ كل طرف، ويحدِّدُ نسبة الشراكة في الربح والخسارة بين الطرفين من صافي أرباح المصرف، بعد تحديد نسبة حجم المبلغ المُودَعِ إلى حجم رأسمال المصرف الاستثماري.
الصيغة الثانية: صيغةُ المُضارَبة، وهي تعني أنّ المصرف يقوم باستثمار مال المُودِع كمُضارِبٍ، وهذا يقتضي، شرعًا وقانونًا، ابرام عقد مضاربة، يكون المُودِع فيه ربًّا للمال والمصرفُ مُضارِبّا، ويتشاركان الربحَ بحصة شائعة لكل منها، وحسب الاتفاق بينهما، ويتحملان الخسارة، في المال من قبل المُودِع، وفي العمل من قبل المُضارِب (المصرف).
الصيغة الثالثة: صيغةُ الوُكالَةِ بالاستثمار، وهي تعني أن المُودِع يُوكِلُ المصرفَ باستثمار أمواله، لقاء حصة معينة من الربح أو بمبلغ مقطوع أو بأجر شهري، وهذا يقتضي ابرام عقد وكالةٍ بالاستثمار، يوكل فيه المُودعُ المصرفَ لتوظيف واستثمار ماله، وفي هذه الحالة يكون المُودِع هو الذي يدفع أجر الوكالة إلى المصرف، وليس العكس، في حين يحصل هو على صافي الأرباح الناجمة عن استثماره.
والعَطَبُ في الإيداع لدى المصارف هو أنّ كافّةَ هذه المصارف تستلم الأموال من المُودِعين وتفتح لهم حسابات استثمار من دون إبرامِ عقودٍ بصيغةٍ من الصّيَغ المُوضَّحة أعلاه، وهذا يعني أنّ العلاقة بين المُودع والمصرف يَعتريها الغَرَرُ، إذ لم تنضَبطْ بقيدٍ شرعيٍّ، ولم يتمّ تكييفُها تكييفًا شرعيًّا، وبالتالي لا يمكن اعتبارُ هذا الإيداع استثمارًا، وإنما هو دَيْنٌ بذمّة المصرف لصالح المُودِع، وما يحصلُ عليه المُودِعُ من زيادةٍ على ماله عند حُلول الأجًل إنما هي فائدةٌ مصرفيةٌ على الدَّينِ، وإنْ سمّاها المصرفُ ربحًا.
وفي هذا الربح الذي يدّعيه المصرفُ عطبٌ شرعيٌّ آخر، ليس أقلّ من العطب الشرعي في الإيداع، ففي تحديده، وحسابه، وتوزيعه مآخذ شرعية عديدة، إذ يقوم المصرف بخلط مال المودع مع أموال المؤسّسينَ والمساهمِينَ وبقيةِ المُودِعِينَ، من غير أن يكون هناك عقدُ شراكةٍ بين المصرف والمودعِينَ، يضبط مهام الطرفين وحصصهم في الشراكة، ثم يلجأ المصرفُ إلى التَّنْضِيضِ الحُكْمِيِّ، والقَبْضِ الحُكْمِيِّ، وطريقةِ النُّمَرِ في حساب صافي الأرباح، وهو ما لا تُمارسه إلا المصارفُ التي تُسمّي نفسَها “إسلامية”.
ولتوضيح هذا العَطَبِ، لا بُدَّ من شرحٍ مُختصَرٍ للمصطلحاتِ المذكورة فيه:
التنضيضُ الحكميُّ: التنضيضُ، يعني التَّصفِيةُ والإنْهاءِ، وهو نوعان، حقيقي وحكمي، فالتنضيضُ الحقيقي، يعني تصفية وإنهاء معاملة مالية أو مشروع اقتصادي تصفيةً نهائيةً، من خلال حَصْرِ الأصول والأموال والممتلكات، وتَسْيِيلِها وتحويلها إلى نقودٍ حاضِرةٍ، ثم توزيعها على الشركاء، كلّ حسب حصته، وإنهاء المعاملة أو المشروع نهائيا.. وأما التنضيضُ الحكمي، فإنه لا يتمُّ حقيقةً، وإنما حُكْمًا، من دون إنهاء أو غلقِ المشروع، وذلك من خلال حصرِ وتقديرِ أقيامِ الأصول والممتلكات والأموال، بما يعادلها من نقود، حسب أسعار السوق في يوم التنضيض، وتثبيتِ حجم النقود، ثم إجراء الموازنة المالية وتحديد الأرباح الصافية، من دون غلق المشروع، وهو ما تقوم به هذه المصارفُ في كلّ شهر، حاليا.
حسابُ الأرباح الصافية بطريقة النُّمَر: بسبب قيام المُودِعِينَ بإيداع أموالٍ مختلفةِ الكمياتِ، في أزمانٍ مختلفةٍ، ولكي يكون توزيع الأرباح أقرب للحقيقة والواقع، تم إيجاد طريقة خاصة لتوزيع الأرباح في المصارف، وهي “طريقة النمر”، إذ يتمُّ فيها حسابُ كمية المبلغ المُودَعِ، ويُؤخَذُ فترةُ الإيداع بنظر الاعتبار، وعلى ضوء ذلك يتمُّ توزيعُ الأرباح وحسب حصة كلِّ مودِع، وهذا الحسابُ غيرُ دقيق، لأن حساب الأرباح قائم، في الأساس على التنضيض الحكمي التقريبي، غير الدقيق، وطريقة التوزيع غير الدقيق.
القبضُ الحكميُّ: القبضُ من مُقتضَيات البيع، فلا يتمُّ إلا به، وهو نوعان، حقيقي وحكمي، فالقبضُ الحقيقيُّ هو القبض باليد، كشراء سلعةٍ واستلامها وقبضها باليد، والقبضُ الحكميُّ هو البديلُ، عُرْفًا، للقبض الحقيقي، أو ما يمكن فهمُه وقبولُه على أنه بديلٌ للقبض الحقيقي، كاستلام مفاتيح منزلٍ تمَّ افراغُه للمشتري، إذ يستحيل قبضُ المنزل باليد، فيتمُّ الاستعاضةُ عنه بما يدلُّ عليه عرفًا.
يقوم المصرفُ بتوزيع الأرباح التقريبية المَحسوبَة على أساس التنضيض الحكمي، بطريقة النُّمَر، توزيعًا تقريبيًّا، على حساب المُودِعِينَ والمساهمِينَ والمُؤسّسِينَ، والناتجةِ عن كافة العمليات المصرفية، وهي في الحقيقة والواقع ليست أرباحًا حقيقيةً، وبالتالي تَتولَّدُ زيادةٌ أو نقصانٌ، حتمًا، في حسابات كافة المؤسسين والمساهمين والمودعين، وهذا يعني أن الزيادة التي تدخل حساب المودِع في نهاية الأجل ليس هو الربح الحقيقي الذي وعده المصرفُ بإعطائه، وإنما قد يكون أكثر من ذلك، أو اقلّ، لذلك تمّتْ تسميةُ قبضِ هذا الربح بالقَبْضِ الحُكْمِيِّ، وليس الحقيقيِّ، وهذا الفرقُ هو عَطَبٌ شرعيٌّ، تُعاني منه هذه المصارفُ، ولعلاجه افتى بعضُ علماء الفقه المصرفي المعاصر، باعتبار الزيادة تبرّعًا من الطرفين لبعضهما البعض، وهذا إن صحّ فلا بدّ من عقدٍ مُسبقٍ في يوم الإيداع، وحصولِ رضا الطرفين، ورغم ذلك، يبقى هذا العطبُ قائمًا، لأن التبرّعَ جَبْريٌّ، في هذه الحالةِ، وليس اختياريًّا.
وهناك أعطابٌ أخرى في جانب الإيداع، تركتُ الخوضَ فيها مخافةَ الإطالةِ، كخلط أموال المؤسسين والمساهمين والمودعين، واحتمالية التّمايُزِ بينها في عمليات الاستثمار والتمويل، وصيغة الرقابة الشرعية والقانونية على هذه العمليات، وكيفية حساب النفقات والمصاريف، وعدالة توزيعها على أصحاب رؤوس الأموال، وتداخُل واردات ونفقات العمليات المصرفية في حساب موازنة المُودِع المالية، وشمول واردات الخدمات المصرفية لحسابات أرباح المُودِعِينَ، باعتبار المال المُودَعِ جزء من رأسمال المصرف، وخدماته تعتمد على هذا الرأسمال.
وبناءً على ما سبق، فإن الإيداع في هذه المصارف، من تأريخ تسليم المُودِع لماله إلى المصرف ولغاية تَخارُجِهِ، إي: سحبه للمال مع الربح من المصرف، هو معاملةُ غَرَرٍ وغَبْنٍ فاحشٍ، وقد نَهى الرَّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم عن الغَرَرِ والغَبْنِ، وعَدَّهُما من الرِّبَا المُحرَّمِ.
أما في جانب التَّموِيل، فقد انْبنَى التمويلُ في هذه المصارف على صِيغِ المُعاوضَاتِ والمُشاركاتِ والإجاراتِ، عمومًا، وتُعتبر المرابحةُ المصرفيةُ التي هي شكلٌ من أشكال المُعاوَضاتِ (البيع والشراء)، من أشهرِ وأوسعِ الأنشطة المصرفية في هذه المصارف، إذ تَحتلُّ، لوحدها، ما يقرب من 85% من أنشطتها التمويلية.
أعْطابُ هذا الجانب عديدةٌ، ومُتشعّبةٌ، شرعيةٌ وقانونيةٌ، ويمكنُ إيجازُها بالآتي:
العطبُ الأوّلُ: قيامُ المصارفِ بالاِتِّجَارِ، ومُمارَسةِ عملّيات البيع والشراء، والشراكات والإيجارات
لا يَحقُّ للبنوك كافّةً، التقليدية وما يُسمَّى بالإسلامية، مُمارَسةُ أنشطةِ البيع والشراء، والمشاركات والإيجارات، حسب قوانين البنوك المركزية في العالم، باعتبار أنّ هذه المؤسسات هي مؤسسات تَمويلية، لا تدخلُ في نظامِها مُمارسةُ الأنشطةِ التجاريةِ.
لذلك، ولكي تتمكّنَ هذه المصارفُ من مُمارسة عملها وَفْقَ مُقتضيات ومُبرّرات تأسيسها، تقومُ بإجراء بُيوعِ صُورِيَّةِ، فاقدةِ لأركان عقدِ البيع الشرعيِّ، كتَحقُّقِ التَّملُّكِ والحِيازةِ والتَّصرُّفِ، والقَبضِ، وإنْ كان حكمًا، إذ يقومُ المصرفُ بالموافقة على طلب العميلِ شراءَ سلعةٍ ما، واِطْلاعِه على نسبةِ المُرابَحة التي يتقاضاها مع قائمة سَدادِ الأقساط، ثم يقومُ بتحويلِ قيمةِ السلعةِ التي طلبَها العميلُ إلى البائعِ الأوّلِ، من غير إبرامِ عقدِ شراءٍ معه، ويقومُ البائعُ الأوّلُ بتسليم السلعة للعميل مباشرةً، من دون استلامها وقَبْضِها من قِبَلِ المصرف، بعد أنْ يكونَ العميلُ قد أبرم عقدًا بتقسيط الدَّينِ (سعر الشراء مع مقدار المرابحة) الذي بذمّته، مع تقديم الضّمانة أو الرّهن القانوني لصالح المصرف.
في حين، ولكي تكونَ المرابحةُ شرعيةً، لا بُدَّ من إبرامِ عقدٍ تحريريٍّ، حقيقيٍّ، بين المصرفِ والبائعِ الأوّلِ، ودُخولِ السِّلعةِ، شرعًا، في حِيازة وتملّك المصرفِ، وقبضِها من قبله حقيقةً أو حُكْمًا، ثم يقومُ المصرفُ بإبرام عقدِ بيعٍ جديدٍ، وبتأريخٍ لاحقٍ للعقدِ الأوّلِ، مع العميل (الآمر بالشراء) بسعر الكُلفة إضافةً إلى الربح الذي يضعُه المصرفُ، ويقبلُه العميلُ، يتضمّنُ مقدارَ الدَّينِ، وعددَ الأقساطِ، وتأريخَ الدُّفوعاتِ، ومواصفاتِ السِّلعةِ وغيرَها، وبعد ذلك، يقومُ المصرفُ بتسليم السِّلعةِ للعميل، الآمر بالشراء.
لا تمارسُ المصارفُ إسلاميةُ التسميةِ، اليومَ، عملياتِ المرابحةِ المصرفيةِ بهذه الطريقةِ الشرعيةِ المُبيَّنةِ أعلاه، والتي وردتْ في المِعْيارِ (8) من المَعايير الشرعية التي تمَّ اعتمادُها من قِبَلِ “هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية” “الآيوفي” بتأريخ يناير 2022م، بل تقومُ بإجراء عملياتِ بيعٍ وشراءٍ صُورِيَّةٍ بينها وبين الطرفَين الآخرَين، البائع الأول والعميل الآمر بالشراء، لأنّ مراعاةَ الأحكامِ الشرعيةِ في عمليّات المُرابَحة المصرفية مَحظورَةٌ قانونًا، وصعبةُ التنفيذِ، ناهيك عن إضافةِ كُلَفٍ والتزاماتٍ ماليةٍ على المصارفِ وعملائِها، وقد نَهى الرَّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم عن البُيوعِ الصُّورِيَّةِ، ونَهى عن بَيعِ ما لا يملكه البائعُ، ونَهى عن بَيع السِّلعةِ قبل قبضِه واستيفائِه، ونَهى، كذلك، عن الغَرَرِ في البُيوعِ، واعتبرَ الشَّرعُ كلَّ هذه المعاملاتِ، معاملاتٍ رِبويّةً، غيرَ شرعيّةٍ.
العطبُ الثّاني: اشتراطُ الاِلْزامِ في الوَعْدِ على العَميلِ الآمرِ بالشّراءِ في عَقْدِ المُرابَحةِ
أجازَ الامامُ الشافعيُّ مُرابحةَ الآمرِ بالشّراءِ، التي تُمارسُها المصارفُ إسلاميةُ التّسميةِ، اليومَ، بشرطِ تواجُدِ السّلعة أثناء العقد، وإجراءِ عقودِ بيعٍ حقيقيةٍ، وتحقّقِ القبضِ الشرعيِّ، وعدمِ إلزامِ العميلِ الآمرِ بالشّراءِ بِوَعْدٍ مُلْزِمٍ، وقد بَنَتِ المصارفُ عملياتِ المُرابَحةِ التي تمارسُها على هذا الفتوى، ولكن من غيرِ اِلتِزامٍ بالأحكامِ الشرعيةِ التي اشترطَها الشافعيُّ لِصحّتِها، فهي تُلزِمُ العميلَ بعدم الرُّجوع عن وَعدِه للمصرفِ بشراءِ السّلعة التي أمرَ بشرائِها لصالحِه، وهذا خلافُ الشَّرْعِ، لأنّ الوعدَ المُلزِمَ يُعتبَر عقدًا، في المَفهومِ الشَّرْعيّ، والوعدُ المُلزِمُ مع عقدِ البَيعِ، في آنٍ واحدٍ، يَصبحان عَقدَينِ في عقدٍ واحدٍ، وقد نصّتِ الرِّواياتُ المَأثورةُ على اعتبارِ هذه المعاملة من المعاملاتِ الرِّبَويَّةِ المُحرَّمَةِ.
العطبُ الثّالثُ: صيغُ التَّمويلِ المَصرِفيِّ
يدّعي مُؤسّسو المصارفِ التي تُسمّى “إسلامية” أنّ الهدفَ من تأسيسها هو مُمارسةُ نشاطٍ تَشارُكيٍّ، قائمٍ على الرّبح والخَسارة، كبديلٍ للبنوك التقليدية التي تتعاملُ بالفائدة في أنشطتها المصرفية، والتي تحلو لهم تسميتُها، ظلمًا وجهلًا وعنادًا، بالرِّبَويّةِ، وقد صاغُوا العديدَ من صِيغ المُعاملاتِ الماليةِ المَصرِفيةِ لهذا الغَرض، وتَفنَّنوا في تَخريجها، من الناحية النّظرية، إلّا أنّهم انصدَمُوا بعدم واقِعيّةِ هذه الصِّيَغِ، وصُعوبةِ تطبيقِها من خلال المَصارِفِ، ناهيكَ عن العوائقِ القانونيّةِ التي تَحْظُرُ أنشطةَ المُشارَكاتِ والاِتِّجارِ في البنوكِ والمصارفِ، وأَبرزُ هذه الصّيَغِ هي الشراكةُ والمُضارَبةُ والإجارةُ التي تَؤُولُ إلى التَّمليكِ.
لذلك، لم تأخذْ هذه الصّيغُ إلّا حيّزًا ضئيلًا في أنشطةِ المصارفِ التّمويليةِ، إذ فشلَ الكثيرُ من التمويلات التّشارُكية أثناء تطبيقِها، لأسبابٍ كثيرة، وأهمُّها، عدمُ واقعيةِ هذه الصّيغِ، وعدمُ قدرةِ المصارفِ على مُتابعتِها ومُراقبتِها وتقديم المَشْوَرةِ إليها، وتعرّضتِ المصارفُ، وأموالُ المُودِعِينَ فيها، لِخسائِرَ ماليةٍ جمّةٍ.
العطبُ الرَّابعُ: التَّوَرُّقُ المُنَظَّمُ
وهو مُعامَلةٌ مصرفيةٌ تمارسُها هذه المصارفُ بُغيةَ توفير سيولةٍ نقديّةٍ للعَميلِ، بدلَ شراء السّلعة له، إذ يقوم المصرفُ بشراء سِلعةٍ، وتكونُ، عَادةً، أداةً استثماريةً في بُورصة الأوراقِ الماليةِ، كالأسْهُم، مثلًا، فيقوم المصرفُ، وبالاتّفاق مع العميل، بشراء كميةٍ من الأسهم تُعادلُ المبلغَ الذي يطلبُه العميلُ، لصالحِ المصرفِ، على أنْ يبيعَها للعميل بنسبةِ مُرابَحةٍ مُحدَّدةٍ، فيكونُ العميلُ، صُورِيًّا، صاحبَ الأسهم، ويكونُ مَدينًا للمصرف بمبلغ الأسهم مع نسبة المُرابَحةِ، حيث يقومُ بتسديدهِ وفقَ الأقساط المُتعاقَدِ عليها، ثم يقوم المصرفُ، في نفس الوقت، ببيعِ تلك الأسهم لصالحِ العميلِ في بُورصة الأوراق المالية، ويستلمُ العميلُ مبلغًا من المال نقدًا، ويكونُ مَدِينًا بمبلغٍ أعلى إلى أجلٍ مُحدَّدٍ، ولم تَلجأْ هذه المصارفُ إلى التّورّقِ المُنظّمِ إلّا بسبب عدمِ واقعيةِ صِيَغِ التّمويلِ المَصرِفيةِ، وعدمِ قُدرةِ المصارفِ على تَغطية حاجاتِ العميلِ الماليةِ.
هذه المُعامَلةُ مُحرَّمَةٌ شرعًا، لأنّها بُيوعٌ صُوريّةٌ، ليس الهدفُ منها الحِيازةَ والتّملُّكَ، بل الهدفُ هو الحصولُ على السّيولَةِ النقديّةِ بطُرقٍ مُلتويَةٍ، وسمّاها الامامُ مالكُ بـ(العِينَةِ) وأفتى بحُرْمَتِها.
وبناءً على ما سبقَ، فإنّ تَمويلاتِ هذه المصارفِ، في مُعظمِها، هي معاملاتٌ نَهى الشّارِعُ عنها، وبُيوعٌ تَعْترِيها الغَرَرُ والغَبْنُ، وأنشطةٌ رِبَويّةٌ حَرَّمَها الشَّرعُ.
الخاتمة
الخطأُ في تشخيص مَفهومَي الفائِدة والرِّبا، وعدمُ الرُّكونِ إلى مصادر التَّشريع الأولى، الكتاب والسنة، لِفَهْمٍ أَدقٍّ وأَعمقٍ، بما يَتوافقُ مع مُقتضيات الشريعة الإسلامية ومُتطلّبات ومَفاهيم الاقتصاد المعاصر، دفعَ بالبعض إلى البحث عن بديلِ البنوك التقليدية، وعلى عَجَلٍ، اِستَصنَعُوا مُعامَلةَ المُرابَحةِ، وأسَّسُوا على مَفهومِها المَعطوبِ شرعًا، مصارفَ مَعطوبةً، تمارسُ أنشطةً رِبويّةً باسمِ الإسلامِ والمسلمينَ.
وبعد خمسين سنة من هذا التطبيق المُعْوَجِّ والمَعْطوبِ شرعًا، بَدا واضحًا أنّ هناك خَلَلًا يحتاجُ إلى إصلاحٍ، وبَدأتِ الكتاباتُ الناقِدةُ لهذه الظاهرة الاقتصادية الدَّخيلةِ تظهرُ، وستستمرُّ في بيان عيوبِها، والمآخذِ الشرعيةِ عليها، حتى تسقطَ نهائيًّا، وأُوصِي بغلقِ هذه المصارفِ كلِّها، وتأسيسِ شركاتٍ تجاريةٍ مُساهِمَةٍ تقومُ بأنشطةِ التّمويلِ، من خلال الاِتِّجارِ للغيرِ وتَجهيزهِ بصِيَغِ الشّراكةِ أو المُضارَبةِ، أو المُرابَحة الفِقهيّةِ، وغيرِها.
ولِيَعلمْ كلُّ المسلمين في العالم، أنّ الإيداعَ في هذه المصارفِ بهدفِ الاستثمارِ رِبًا مُحرَّمٌ، وأنّ المُرابَحةَ المَصرِفيّةَ رِبًا مُحرَّمٌ، وأنّ التَّوَرُّقَ المُنَظَّمَ رِبًا مُحرَّمٌ، وأنّ التَّمويلاتِ المَصرِفيّةَ عقودٌ صُوريّةٌ نَهى الشّارِعُ عنها، وهي عقودٌ رِبَويّةٌ مُحَرَّمَةٌ.. ألا هل بلّغتُ، اللهمُ فاشهدْ