التقويم والنقد بين العقل والعاطفة

أ . د إسماعيل خليل إبراهيم
نائب رئيس لجنة الرياضة والشباب
المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
المعنى اللغوي لكلمة تقويم: تَقْويم السُلوكِ: تَعْديلهُ … ومن معانيه: التعديل والتحسين التطوير . ويتضمن إصدار الأحكام مقترنة بخطط تعديل المسار وتصويب الاتجاه في ضوء ما يتوفر من معلومات.
والتقويم عملية مَنهجية مُنظّمة تهدف إلى جمع وتحليل البيانات لغرض معرفة مدى تحقق الأهداف ومن ثم اتخاذ القرارات بشأنها من أجل معالجة جوانب القصور ، لذا فإن للتقويم دور أساس ومهم في العمل المزمع القيام به ، ويُعَد الأداة الضابطة والموجهة له ، ويكون قبل البدء بالعمل بغية التأكد من سلامة وصلاحية الاجراءات التي اتُفِقَ عليها وتوفر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة للبدء بالعمل ، وفي أثنائه من خلال مراجعة ما تم انجازه من مراحل على وفق الخطة الموضوعة مسبقاً وتدارك الاخطاء أو العقبات إن وجدت ، وبعد الانتهاء من العمل بغية تزويد العاملين بمعلومات عن مستوى الأداء ومعرفة مدى استيعابهم للتوجيهات ، ومعرفة مَواطن قوتهم وضعفهم ومدى تحقيقهم للأهداف المرسومة ودرجة ملاءمتها لهم وصولاً لما هو أفضل في المرحلة القادمة . مما تقدم يتبين لنا أن التقويم أمر لا غنى عنه في كل عمل يراد له النجاح و التطور حاضراً و مستقبلاً.
وعلى الرغم من اختلاف علماء الإدارة في تحديد عدد الوظائف الإدارية فمنهم من يحددها بخمس ومنهم من يحددها بأربع فقط إلا أن كليهما وَضَعَ وظيفة ( الرقابة ) في نهاية سلم الوظائف الإدارية ، وهذه الوظيفة هي المعنية بمتابعة جميع الوظائف ( لتقويم ) أداء منظومة العمل تجاه تحقيق اهدافها ، وفي ضوء نتائجها توضع المعايير الخاصة بالأداء التي سوف تُستَخدم لقياس التقدّم نحو الأهداف .
لذلك فإن على من يسعى لتقويم عمل أي منظومة أو هيأة أو مجموعة تقويماً علمياً و موضوعياً أن يكون على معرفة تامة بأهدافها و خططها وهيكلها التنظيمي وأسلوب الرقابة المتبع فيها وبخلاف ذلك يَفقد التقويم أهميته ويصبح كلاماً انشائياً ليس إلا . والتقويم يتطلب منا أن نرى المشهد من الداخل بجميع تفاصيله لا أن نكتفي بالنظر له من الخارج فقط.
ولكي يأخذ التقويم مداه ويحقق أهدافه فلابد أن يستند إلى العقل و المنطق و الحياد والصراحة والشجاعة بعيداً عن العاطفة كي نرى الصورة على حقيقتها بايجابياتها التي يجب الإشادة بها وتعزيزها ، وسلبياتها التي علينا الوقوف عندها وتشخيصها وبيان مدى خطورة استمرارها واقتراح الحلول لتجاوزها وليس كما نراها بعاطفتنا التي تفقدنا الحياد في النظر إلى الأمور وتقود التقويم إلى الإنحراف عن مساره والخروج بنتائج لا علاقة لها بالواقع ، وتجعل من حرصنا على العلاقة بطرف أو أكثر ضمن منظومة العمل يتقدم على حرصنا على نجاح المنظومة فيبقى الحال على ما هو عليه إن لم تزد الأمور سوءاً بسبب تراكم الأخطاء وغياب المعالجات ، فوضيفة التقويم لن تؤدي دورها إن استندت إلى العاطفة والمجاملات وليس إلى العقل و المعايير الموضوعية .
الخلاصة أن التقويم ليس بالمهمة السهلة التي قد يتصور البعض أن بامكانهم القيام بها وهم جالسون في مكاتبهم بل هو مهمة ومسؤولية صعبة يتطلب النجاح فيها معايشة الحدث ومتابعته ، وتوفر الخبرات اللازمة و المتراكمة ، والحياد ، والنظرة الموضوعية ، والثقافة ، و القدرة على تحليل الأحداث والوقائع وربط بعضها ببعض ، والشجاعة في عرض الواقع كما هو في حقيقته وصولاً إلى الاستنتاجات التي توضع الحلول في ضوئها وتتسق مع الأهداف الموضوعة .
بعد كل ما تقدم نتساءل: كم من الهيئات الرياضية – التي نحن بصدد الحديث عنها – تَعمَد إلى تقويم مسيرتها بين الحين والآخر كي تتعرف على ما حققته لتعزز مسيرتها باتجاهه، وما لم تحققه لتتعرف على أسبابه وتضع الحلول لتجاوزه ؟ وإن عَمَدَت إلى التقويم فهل يستند من يقوم به إلى العاطفة أم إلى العقل ؟ وكم من الذين يتصدون لتقويم مسيرة الأخرين ينتهجون المسار الذي تطرقنا له في أعلاه أم أن الأمر ليس سوى مجرد اجتهادات لا علاقة لها بجوهر التقويم؟
أما النقد فهو تعبير مكتوب أو منطوق من متخصّص يُسَمَّى ناقدًا، عن الجَيِّد والرديء في أفعال أو إبداعات أو قرارات يتخذها الإنسان أو مجموعة من البشر في مُخْتَلِفِ المجالات من وجهةِ نظر الناقد، كما يَذكُر مكامن القوة والضعف فيها، وقد يقترح الحلول لها ، والنقد قاسم مشترك في جميع مجالات الحياة وميادينها .
والنقد في اللغة: نقَدَ الشّيءَ: بيَّنَ حَسِنَهُ ورَديئُه، أظهر عيوبه ومحاسنه. من هنا يتبين لنا أن للنقد وجهان لابد من التطرق لهما معا أحدهما لذكر الايجابيات أو المزايا والمحاسن ومكامن القوة والآخر لذكر السلبيات والعيوب ونقاط الضعف وجوانب الخلل وليس كما تتصوره الغالبية العظمى منا وتتعامل به من خلال التركيز على ذكر السلبيات والعيوب فقط وهو ما يُفقِد النقد دوره وقيمته ومكانته والغاية المرجوة منه . كما إن النقد بطريقة التعميم والخطاب الإنشائي الذي يُحَوِل الانطباعات إلى آراء قاطعة أسلوب يفتقد الموضوعية ولا يسهم في إحداث التطوير والتغيير المطلوبين إذ ليس بإمكان أي منا الجزم بأن ما يقوله أو يكتبه هو الصواب وما سواه لا يُعتَد به .
العاملون في الميدان الرياضي على اختلاف مهامهم و مسؤولياتهم عرضة للنقد ليس لأشخاصهم وإنما لادائهم لكونهم ينتمون أو يرتبطون بكيانات رياضية بغض النظر عن حجمها و تأثيرها وإن كان حجم النقد ونوعه للعاملين في الكيانات الكبيرة يأخذ مدى أوسع ، فمسيرتهم تقع تحت مجهر النقد والتحليل دائما في حالتي النجاح والفشل . ومن المهم جداً الانتباه إلى أن النجاح مهما كان حجمه ونوعه لا يخلو من العيوب ومواطن الضعف والخلل التي يجب التطرق لها وتشخيصها لتجاوزها أسوة بنقاط القوة التي يجب ذكرها والإشادة بها من أجل تعزيزها ، وإن الفشل لا يخلو من نقاط إيجابية لابد من التوقف عندها وتحديدها أسوة بمواطن الضعف والخلل التي يجب تشخيصها واقتراح الحلول من أجل تجاوزها .
ولكي يكون الناقد نافعاً و مؤثراً فإنه مطالب بالحياد والموضوعية والأمانة والالتزام واحترام الأخرين والابتعاد عن شخصنة الأمور وتصفية الحسابات والابتعاد عن الأهواء ، والسعي من أجل الإصلاح وتقديم النصح والمشورة فضلاً عن أهمية توفر الموهبة والثقافة والجرأة والخبرة وسعة الأفق والشجاعة والإستفادة من التجارب الشخصية وتجارب الأخرين ، والتيقن من أن كل شيء في حياتنا خاضع للنقد وبضمنهم الناقد نفسه . بالمناسبة ليس كل من مارس لعبة أو عمل في مجال من مجالاتها أو حقل من حقولها أو اهتم بمتابعتها وكان يجيد الكتابة بات ناقداً ، فالنقد مهنة وما دامت كذلك فهي بحاجة إلى موهبة و دراسة و مواصفات و مؤهلات وخبرات حالها حال المهن الأخرى .
ما دور العقل والعاطفة في النقد ؟ الجواب يعتمد على فهمنا للنقد والهدف منه ، فإن كنا نعلم أن للنقد وجهان ، وأن هدفنا منه الوصول إلى الحقيقة بتجرد وتحديد الايجابيات ومكامن القوة وبيان سبل تعزيزها وتطويرها ، وتشخيص الأخطاء واقتراح الحلول بغية تجاوزها وصولاً إلى الأفضل ، وإن جودة ومتانة وطبيعة علاقتنا بالأخرين لا تأثير لها البتة في النقد الذي نقدمه ، وأن المصلحة العامة تتقدم دائماً على مصالحنا وعلاقاتنا الشخصية فإن العقل وليس سواه هو الذي يوصلنا لما نريد . عن طريق العقل نرى الأشياء بصورتها الحقيقية دون رتوش ونتعامل معها بحيادية تامة فَنَذكُر الايجابيات ونثمنها ونبين العوامل التي ساهمت في تحقيقها وكيفية الحفاظ عليها وتعزيزها وتطويرها ، وأن نعطي كل ذي حق حقه وبما يتناسب واسهاماته فيها .
كذلك نذكر السلبيات وانعكاساتها على مفاصل الأداء والأسباب التي قادت لها والمسؤولين عنها وننبه إلى خطورتها ونقترح المعالجات والحلول الكفيلة بتجاوزها وضمان عدم الوقوع بها مستقبلاً وصولاً لتحقيق النجاح المنشود.
أما العاطفة فتضع ميول واهواء الناقد وعلاقاته الشخصية في المقدمة وتجعله لا يرى إلا ما يريد رؤيته ويحرص في نقده على إبراز أي حالة إيجابية مهما صغر حجمها و تضاءل دورها والإشادة بها وبمن يقف وراءها ، والتغطية على المشكلات و المعوقات والسلبيات مهما بلغ حجمها وتعاظم دورها وتجاهل أسبابها وإغفال ذكر من كان له دور فيها كي يحافظ على علاقاته الشخصية ومكانته لدى الأخرين ويرسم صورة غير حقيقية عن اولئك الأشخاص أو الجهة التي يميل أو ينتمي لها وهو ما يُفقِد النقد جوهره ويبعده عن أهدافه ، ويُفقِد الناقد الموضوعية والحياد . وقد تقود العاطفة الناقد إلى السعي خلف الإثارة من خلال أحداث يَعمَدُ إلى تضخيم حجمها أو صناعتها والتعليق عليها أو دفع الاخرين لاتخاذ مواقف سلبية أو ايجابية من بعض الاشخاص أو الهيئات دون وجه حق وفي ذلك كله استخدام غير مسؤول ولا واعٍ للنقد يؤدي إلى تشتيت الرأي العام وانقسامه وتزويده بمعلومات غير صحيحة فضلاً عن طمس الحقائق واستمرار السلبيات والبقاء في دائرة الفشل . ولعل بيت الشعر الآتي يعبر بليغ عن ما ذهبنا إليه ( وعين الرضا عن كل عيب كليلة … ولكن عين السخط تبدي المساوئا ) .
إن التزام الناقد بأخلاقيات و ضوابط و مبادئ النقد هو السبيل الوحيد لتحقيق الفائدة المرجوة منه، وعلى العاملين في الوسط الرياضي تقبل النقد الهادف والاستفادة منه ، وعليهم إدراك أنهم وعلى اختلاف مسؤولياتهم و أدوارهم و مهامهم عرضة للنقد وهذه هي ضريبة العمل في الوسط الرياضي .