لجنة التربية و التعليم العالي و البحث العلمي

التعليم في الدولة الفتية: أسرى معركة بدر نموذجًا فريدًا

بقلم الاستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري

عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

      إن أروع الأمثلة التي تجسّد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم التعليمية والاستراتيجية، موقفه مع أسرى قريش بعد معركة بدر.

فالدولة الإسلامية آنذاك كانت فتية، لم يتجاوز عمرها السنتين، وكانت في أمسِّ الحاجة إلى المال لتعزيز كيانها الناشئ. وكان من الممكن أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي الأسرى بالمال، كما كانت عادة العرب، لتقوية بيت المال وإنعاش موارد الدولة الجديدة.

لكن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز النظرة المادية، وبصيرة النبوة أوحت إليه أن مستقبل الأمة لا يبنى بالأموال وحدها، بل بالعلم والمعرفة.

فقرّر أن يكون فداء كل أسير متعلم: أن يعلّم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.

وقد كان عدد الأسرى نحو سبعين رجلًا، فترتب على هذا القرار أن سبعمائة مسلم تقريبًا تعلموا القراءة والكتابة في زمن وجيز!

وهكذا، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤسس نواة مجتمع قارئ واعٍ، متسلح بالعلم، مما شكّل قفزة نوعية في بناء الدولة الإسلامية.

كان هذا القرار الاستراتيجي سابقًا لعصره بمئات السنين، إذ جعل النبي العلم مقدمًا على المال، والتعليم أساسًا للنهضة، رغم الظروف الصعبة التي كانت تمر بها الدولة.

إن هذا الموقف النبوي العظيم يؤكد أن التعليم كان من أولويات بناء الأمة، ولم يكن ترفًا، بل كان سلاحًا أقوى من السيوف، وأمضى من الذهب.

اما تفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الموروث اليهودي وفهم علم الحرف والرقم وفي سياق اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالمعرفة والعلم، نلمح كذلك موقفًا عجيبًا يكشف عن عبقريته في التعامل مع علوم أهل الكتاب.

فقد ورد أن أحد علماء اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ملمًّا بعلم الحروف والأرقام (الجُمّل) كما هو في تراث بني إسرائيل، وتأمل في أوائل سورة البقرة:

﴿الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ (البقرة: 1-2)

ففهم من أسرار الحروف المقطعة أن عمر أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيكون إحدى وسبعين سنة، وفقًا لحساباتهم القديمة.

وقد تردد اليهودي في الدخول في الإسلام بدايةً لهذا السبب، إذ ظن أن أمة لا تعيش طويلًا لا تستحق التضحية.

ولكن بعد حوار عقلاني وحكيم مع النبي صلى الله عليه وسلم، أدرك أن الإسلام هو امتداد لهداية الأنبياء، وأن القرآن محفوظ لا تحريف فيه، فأسلم.

وهذا الحادث يدلّ على أمرين عظيمين:

  • أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطّلعًا على علوم الأمم الأخرى دون أن يغتر بها أو يتبناها بدون تمحيص.
  • وأن الإسلام منذ فجره تعامل مع المعارف والعلوم بعقلانية حكيمة، ميزت الحق من الباطل، وأعطت كل علم وزنه الحقيقي تحت نور الوحي.

واخيراً ان هذه القيم النبوية وللربط بروح العصر لقد أثبت التاريخ أن الأمة التي تُبنى على أساس العلم والمعرفة لا تغلبها خطوب الزمان، ولا تعصف بها الأزمات.

وإنما تنهض وتشرق، كما نهضت دولة النبي صلى الله عليه وسلم من صحراء قاحلة إلى أعظم حضارة عرفتها البشرية. وفي عصرنا الحالي، حيث تتسابق الأمم إلى امتلاك المعرفة، يبقى لنا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم درس خالد:

أن الأمة التي تجعل التعليم أول همّها، وتقدّم بناء العقول على جمع الأموال، هي الأمة التي تكتب لنفسها الخلود في صفحات التاريخ فالتعليم، ثم التعليم ثم التعليم يا أمة أقرأ هداني وهداكم الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى