اللجنة الاقتصادية

أهمية تحول الاقتصاد العراقي من الريعي الى الإنتاجي

أهمية تحول الاقتصاد العراقي من الريعي الى الإنتاجي

إعداد: إسماعيل الدليمي
مقرر اللجنة الاقتصادية
2021/16/5

  • لم يعتمد سكان العراق في بداية نشأته الحديثة على الثروة النفطية التي ابتلى بها دون أن يستثمرها بالشكل الملائم خاصة خلال العقدين الأخيرين، وإنما كان اعتماده بالدرجة الأولى على الثروة الزراعية بمكوناتها النباتية والحيوانية، حيث تتوفر الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة والبشر المعطاء الطيب الذي إمتهن العمل الزراعي والخدمات المتصلة به بما يحقق العيش الكريم للمواطن والتقدم والاستقرار للمجتمع.

كما أنه بالرغم من قلة عدد السكان في أوائل الخمسينات من القرن الماضي فأن اقتصاد العراق كان مستقراً ومعتمداً على الذات في توفير متطلبات الحياة لسكان العراق الذي كان بحدود ستة ملايين نسمة، بل ويصدر من المنتجات الزراعية كميات غير قليلة من الحنطة والشعير والرز والقطن والتمور… إلخ، وذلك تحت مظلة نظام إنتاجي زراعي محكم يضمن مصلحة جميع الأطراف.

  • وبعد العام 1958 تحول نمط الإنتاج الزراعي من نظام إقطاعي الى نظام جديد يعتمد على الملكيات الزراعية الصغيرة وذلك نتيجة لصدور قانون الإصلاح الزراعي الذي فكك الملكيات الزراعية الإنتاجية الكبيرة التي كانت تساهم في توريد معظم المحاصيل الزراعية من الحبوب خاصة، الناتجة عن توزيع تلك الأراضي على الفلاحين بقطع صغيرة لا تزيد عن عشرين دونماً لكل مزارع بعقود طويلة الأمد، غير أنه بتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية في بداية العهد الجمهوري حصل تغير شامل في المفاهيم والقيم الاقتصادية والاجتماعية، ممثلة بتحول أنماط الحياة بالنسبة الى معظم فئات الشعب العراقي من حيث توجههم للأعمال التي يرغبون الالتحاق بها، مما أدى الى عزوف الكثير من المزارعين عن مواصلة العمل الزراعي والتوجه الى أعمال الخدمات بأنواعها نتيجة عن هجرة أعداد كبيرة من سكان الريف الى المدن للعمل في الإدارات الحكومية بما في ذلك الالتحاق بالجيش والشرطة إضافة للعمل بالخدمات الأخرى.
  • كما أن توسع التعليم بمستوياته المختلفة الذي شمل المدن الكبيرة والصغيرة وكذلك القرى الكبيرة، والتحاق أبناء القادمين من الأرياف وغيرهم بالمدارس والمعاهد والكليات بأعداد كبيرة قد أدى الى ضعف التوجه للعمل الزراعي وانخفاض كميات الإنتاج الزراعي بأنواعه، وبعد تزايد أعداد السكان وزيادة الموارد النفطية والتوسع في المشاريع الإنمائية تم التوجه الى استيراد العديد من المنتجات الزراعية التي تكلف العراق مبالغ طائلة من العملات الصعبة والتي تؤثر سلباً على ميزان المدفوعات في العراق.
  • في الخمسينات من القرن الماضي أيضاً بدأت عوائد إنتاج النفط تزداد لتشكل فوائض مالية تم توجيه جزء كبير منها نحو الأعمار، فاقتضى البدء بتنفيذ العديد من المشاريع الإنتاجية والخدمية التي استقطبت أعداد كبيرة من القوى العاملة الزراعية بعد تدريبها وتأهيلها مما أثر على توفر القوى العاملة اللازمة لإدامة الإنتاج الزراعي وتطويره.
  • وفي العقود اللاحقة أصبح سكان المدن في العراق يمثل الجزء الأكبر من السكان نتيجة النمو السكاني المرتفع والهجرة من الريف الى المدن، الأمر الذي أدى الى تحول المجتمع العراقي الى مجتمع استهلاكي بالدرجة الأولى.
  • في السنوات الأخيرة وخلال الظروف الصعبة التي يمر بها العراق، واعتمادا على الدراسات السابقة أصبح اعتماد الموازنات السنوية على موارد النفط لا يقل عن نسبة 90% وهي نسبة عالية جداً، وأن نسبة التخصيصات للنفقات التشغيلية في الموازنة تصل الى 75% ولم يبقى للاستثمار بالمشاريع الإنمائية سوى نسبة لا تتجاوز 25%، وأن مساهمة كل من القطاعين الزراعي والصناعي كانت ضئيلة في الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي جعل العراق معتمداً على موارد النفط في تلبية احتياجاته.
  • نعم توجد احتياطات كبيرة من النفط والغاز في العراق ولكن هل تستمر عوائد النفط الى ما لا نهاية في تغطية احتياجات البلاد من الموارد المطلوبة وخاصة الاستثمارية منها، وكيف سيكون الحال عندما يتضاعف عدد السكان خلال العقدين أو الثلاثة القادمة، والدلائل تشير الى أن موارد النفط لن تبقى على معدلاتها الحالية، بسبب تناقص أسعار النفط عالمياً لما يشهده العالم من توسع في إنتاج الطاقة المتجددة بما فيها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الذرية والمصادر الأخرى، إذ أن النفط لم يعد عنصر الطاقة الأول عالمياً كما كان في السابق ولا السلعة الأولى اقتصاديا، وإنما ستكون سلسلة المعادن الفلزية وغير الفلزية إستخراجاً وتصنيعاَ وكذلك المنتجات الزراعية اللازمة لتأمين الغذاء بأنواعها والصناعات التحويلية وتكاملها هي التي تتصدر الطلب العالمي على تلك المنتجات وتكون مجدية اقتصاديا على المستوى القطري والعالمي في المستقبل.
  • كما أن ازدياد استخدام الطاقة الكهربائية في تأمين حركة وسائل النقل المختلفة الناتج عن التقدم العلمي والتكنولوجي سيكون العنصر الحاسم باستخدام الطاقة الكهربائية بنطاق واسع بالسيارات الهجينة والكهربائية والقطارات المعتمدة على الطاقة الكهربائية، إضافة الى استخدام الطاقة الذرية في السفن والناقلات البحرية الأخرى، هذا ما نراه اليوم، كيف سيكون الحال بعد عشرين أو ثلاثين عاماً عندما تمنع الدول ومنها بعض الدول الأوربية استخدام المركبات المعتمدة على المنتجات النفطية في مدنها، مما سيؤدي الى انخفاض الطلب على هذه المنتجات، مع الأخذ بالاعتبار إمكانات التوسع في استخدام النفط في إنتاج الصناعات البتروكيماوية والأسمدة والصناعات الإنشائية والصناعات الأخرى الخاصة بالاستخدامات المنزلية أو التي تدخل مع المواد الأخرى لإنتاج سلع متنوعة لمختلف الاستخدامات، وهذا ما يساعد على استمرار المحافظة على مستويات مقبولة من أسعار وموارد النفط في العالم.
  • إن قرار التوسع في استخدام النفط في الصناعات البتروكيماوية والأسمدة والاستخدامات الأخرى لم يكن غائباً لدى المسؤولين عن برامج التخطيط لأجل التنمية في العراق سابقاً من أجل التقليل من آثار مشكلة الاعتماد على الحالة الريعية للاقتصاد العراقي بل كان ذلك هدفاً إستراتيجياً في جميع الخطط الخمسية التي تم تنفيذها خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إذ احتوت تلك الخطط على مشاريع عملاقة في البتروكيماويات والأسمدة ومصافي النفط وغيرها من المشاريع ذات الصلة بالمنتجات النفطية، وذلك من أجل تحويل النفط الخام المنتج من الحقول النفطية الى منتجات صناعية وسيطة أو نهائية تصلح للاستخدامات المختلفة محلياً ولأغراض التصدير بدلاً من تصدير النفط الخام الذي يعتمد العراق عليه كمورد أساس للعملة الصعبة التي يحتاجها في سد احتياجاته المدنية وحتى الدفاعية.
  • في الحقبة السابقة عندما كان العراق يتجه للتوسع في استخدام النفط الخام في صناعاته المختلفة لم يكن أي بلد مجاور أو في المنطقة العربية بما في ذلك دول الجوار مثل السعودية والأمارات وسوريا وإيران قد عرفت شيئاً عن هذه الصناعة الاستراتيجية والتي حققت بالوقت الحاضر تقدماً كبيراً في تحويل النفط الخام لديها الى صناعات نفطية وبتروكيماوية وسلع غطت احتياجات أسواق المنطقة بكاملها ويستورد العراق الكثير منها لاستخدامها في المجالات المختلفة.
  • إن الأسباب التي حالت دون تصدر العراق الريادة في المنطقة بتحويل النفط العراقي الخام الى منتجات نفطية وبتروكيماوية وصناعات أخرى تعتمد على النفط لم تعد خافية على أحد بل كانت الأسباب ومراميها معروفة ومدبرة شاركت بتنفيذها دول إقليمية ودولية من أجل إيقاف نهضة العراق وتقدمه في المجالات المختلفة، ليصل به الحال الى الوضع المتردي الحالي، والذي يأسف له الجميع.
  • كما أن الدوافع للتحولات في الدول النفطية ومنها العراق من اقتصادات ريعية معتمدة على تصدير النفط الخام الى اقتصادات إنتاجية لها ما يبررها ليس اليوم فقط وإنما منذ أكثر من نصف قرن كما ذكر في أعلاه، الأمر الذي يستوجب بالنسبة للعراق التوجه فوراً لاستخدام الدراسات السابقة التي تعطي الأولوية للصناعات البتروكيماوية والمنتجات النفطية والغاز والالتحاق بركب الدول التي تحوّل النفط الخام الخاص بها الى منتجات صناعية تكسب من وراءها موارد طائلة تفوق الموارد من النفط الخام، وتكون قد نجحت في تحويل واقعها الاقتصادي من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد الإنتاجي وهو المطلوب والمعول عليه في إعادة نهضة العراق وذلك بعد تحرره من الأوضاع والظروف الاستثنائية التي رافقته منذ الاحتلال في العام 2003 وحتى الوقت الحاضر.
  • أما الصناعات الأخرى التي تعتمد على المعادن الفلزية واللافلزية التي ينبغي التركيز عليها خاصة في المنطقتين الشمالية والغربية من العراق فأنها تُكوّن ثروة مستقبلية لا تقل أهميتها عن الصناعات النفطية، فضلاً عن الالتزام بالصناعات الخفيفة بمنتجاتها المتنوعة ونشرها في عموم البلاد، وكذلك تعزيز نشاط القطاع الزراعي ودعمه مادياً وإرشاداً بما يضمن تمكينه من تأمين الغذاء لأبناء الشعب وتوفير المواد الأولية للصناعات الغذائية، إضافة الى دعم وتنشيط القطاع الخاص، وأن هذه النشاطات لا تقل أهمية عن الصناعات الثقيلة في مردودها الاقتصادي بما في ذلك تشغيل القوى العاملة وتقليل مستوى البطالة وزيادة نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي بما يتناسب مع الأهداف المحددة في الخطط والبرامج الأنمائية التي يتطلب وضعها إبتداءً في تلك الخطط، والتي يتم بموجبها رسم صورة تطور ونهوض العراق من جديد، والله المستعان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى