دور التشريع الوطني في حماية توقعات المستثمر الأجنبي
الدكتور عبدالله فاضل حامد
عضو اللجنة القانونية في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
أستاذ القانون الدولي الخاص، كلية القانون/ جامعة دهوك
- العلاقة بين البيئة القانونية والإستثمار
تعتمد اقتصاديات الدول أجمع على التجارة الخارجية والتعامل مع الأجانب، حتى أن قطع العلاقات التجارية والاقتصادية مع دولة معينة باتت وسيلة فعالة لمعاقبتها متى ما كان سلوكها عدوانياً أو ليس بالمستوى الذي يريده المجتمع الدولي، وقد تنفرد دولة عظمى لها القدرة والإمكانية على فرض هكذا عقوبات كما هو الحال في علاقة الولايات المتحدة مع بعض الدول منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكوريا الشمالية وغيرها من الدول. وفي المقابل، تتوقف عملية النهوض بالبنية التحتية في الدول النامية على عقود الاستثمار مع الشركات الأجنبية، وتبدو العلاقة طردية بين التنمية الاقتصادية في هذه الدول والاستثمار الأجنبي، فكلما ازدهر النشاط الاستثماري مع الشركات الأجنبية كلما تعافت البنى التحتية في هذه الدول، وبالتالي ازدهار اقتصادها الوطني. ومن أجل ذلك تعمل الدول على الترويج لقطاعتها الاستثمارية في سبيل جذب الشركات الأجنبية للاستثمار في الدولة، اضافة إلى اصدار التشريعات الخاصة بالاستثمار والتي تحتوي مجموعة من السماحات الضريبية والجمركية وكذلك الأمتيازات والحقوق حتى يصل الأمر أحيانا إلى مخالفة القواعد القانونية العامة في الدولة، مثل تمليك العقار للمستثمر الأجنبي خلاف القاعدة العامة التي لا تجيز تملك الأجنبي للعقار أو منحه امتيازات خاصة تجعل مركزه أفضل من مركز المواطن. ومع ذلك، يبدو أنه من دون وجود منظومة تشريعية واضحة الأهداف ومستقرة الأحكام لا تتبدد الخشية لدى المستثمر الأجنبي مما يعني احجامه عن الإستثمار في الدولة، ونقصد بالمنظومة التشريعية مجمل التشريعات النافذة في الدولة بشأن موضوع معين مثل الإستثمار الأجنبي، وبذلك تشمل المنظومة التشريعية بشأن الإستثمار الأجنبي قوانين الإستثمار وإقامة الأجانب وتحويل النقد والرسوم الكمركية والقواعد المتصلة بتملك الأجانب للأموال العقارية والمنقولة داخل الدولة، وكذلك القوانين الإجرائية المتعلقة بتسوية منازعات الإستثمار وغير ذلك من القوانين التي لها صلة بشكل أو بآخر بالمركز القانوني للمستثمر الأجنبي داخل الدولة المضيفة للإستثمار، كما يقصد بوضوح المنظومة النشريعية اتساقها وعدم تعارضها مع بعضها البعض، أما استقرار الأحكام فيقصد به تجنب التعديلات المتلاحقة التي تتسبب في ضبابية موقف المشرع بشأن المركز القانوني للمستثمر الأجنبي، فالأخير ينشد الإستقرار في الأحكام القانونية ووضوح الرؤية الإستثمارية داخل الدولة. والنتيجة النهائية لعدم وضوح المنظومة التشريعية هو تعثر عجلة التنمية الإقتصادية في الدولة التي هي بحاجة ملحة لرأس المال الأجنبي. فالمعروف أن رأس المال يخشى البيئات المضطربة من الناحية السياسية والقانونية، فقد قيل بحق أن “رأس المال جبان”، فهو غير مستعد لمواجهة الاضطرابات السياسية والقانونية، فإن كان موجوداً في الدول خرج وهرب، وهو ما حدث في تركيا في السنوات الأخيرة نتيجة انخراطها في النزاعات السياسية والمسلحة في الشرق الأوسط، وإن كان رأس المال ناوياً الدخول إلى الدول أحجم وتراجع متى ما وجد أن النظام القانوني في الدول غير واضح المعالم وغير مستقر من حيث الزمان، كما هو الحال في العراق وإقليم كوردستان، إذ لا يستطيع المستثمر الأجنبي تقدير تنبؤات اقتصادية حقيقية بعيدة المدى أو حتى متوسطة المدى بحكم عدم الاستقرار السياسي وانعدام التخطيط الحكومي الإستراتيجي. عليه، يجب على الدول النامية -منها العراق وإقليم كوردستان- أن تعمل جاهدة على وضع تشريعات قانونية جديدة، وتحديث القديمة منها، بحيث يتشكل لديها ما يمكن تسميته بـ (البنى التحتية التشريعية) الجاذبة للإستثمارات الأجنبية، أي نظام تشريعي موجه نحو تعزيز نشاط معين في الدولة، عليه تتكون البنية التحتية لتشريعات الإستثمار من جميع القوانين والأنظمة والتعليمات التي تتصل بمركز المستثمر الأجنبي داخل الدولة والتي يفترض فيها الوضوح والإستقرار على النحو الذي ذكرناه آنفاً. وبكل تأكيد لا يمكن الوصول إلى نظام تشريعي مستقر من دون وجود نظام سياسي مستقر يعمل على التخطيط لنظامه القانوني الجاذب للأجانب واستثماراتهم. والأمثلة على ما نقول واضحة في الواقع، فدول مثل الأمارات العربية المتحدة وسنغافورة وكوريا الجنوبية هي في مقدمة الأمثلة التي استطاعت جذب استثمارات أجنبية هائلة، من خلالها ازدهرت مجتمعاتها في مختلف النواحي، وهي دول تحقق فيها ما ندعيه وهو الاستقرارين السياسي والتشريعي اللذان يحميان المستثمر الأجنبي وتوقعاته المشروعة.
- حاجة العراق وإقليم كوردستان-العراق للإستثمار الأجنبي
لا يخفى أن الإستثمار الأجنبي في العراق وإقليم كوردستان-العراق له أهمية كبيرة، فهما لا يمتلكان الإمكانيات المالية الوطنية للنهوض بواقعهما الإقتصادي وتحقيق التنمية المنشودة، وندعي أن اولى المسائل التي يأخذها المستثمر الأجنبي في نظر الإعتبار هي المخاطر غير التجارية الناشئة عن تغيير الأنظمة السياسية في الدولة المضيفة وتعديل التشريع لاحقاً بعد مباشرة المشروع الإستثماري في الدولة؛ لذلك عادة ما توجد علاقة وثيقة بين البنية التحتية الشريعية في الدولة وحجم الإستثمارات الأجنبية فيها. من ناحية ثانية يبدو أن العراق وإقليم كوردستان-العراق حاجتهما واضحة وماسة للإستثمار الأجنبي، وهي حاجة ملحة في مختلف قطاعات الطاقة والإعمار والبنى التحتية الإقتصادية والتنموية وغيرها، وقد نجمت هذه الحاجة عن الظروف السياسية والإقتصادية التي مر بها العراق والإقليم بعد العام 2003، وهو العام الذي شهد تحولاً سياسياً وإقتصادياً جذرياً، فأقل ما يمكن أن يقال عن هذا التحول هو تبني الدستور الديمقراطية والفدرالية في الحكم، وكذلك سياسية السوق المفتوحة في الإقتصاد. فالعراق ومعه الإقليم خاضا حروب وظروف إقتصادية صعبة للغاية قبل هذا التحول المشار إليه، بحيث أثرت في مختلف قطاعاتهما الإقتصادية على نحو أصبحا منهكين ولا يمتلكان من رأس المال الوطني ما يمكن بواسطته إعادة الإعمار ولا إدامة المشاريع الموجود أصلاً، وهو ما فرض في النهاية الإستعانة بالإستثمار الأجنبي من أجل إعادة بناء القطاعات الإقتصادية المختلفة، ولعل أحد أهم عوامل جذب الإستثمارات الأجنبية هو تهيئة بيئة تشريعية جاذبة للأستثمارات الأجنبية تبدد الخشية لدى المستثمر الأجنبي في الإقدام على الإستثمار في الدولة وتحمي توقعاته المشروعة، مما يعني في النهاية ضرورة مراجعة المنظومة التشريعية الوطنية في مجال الإستثمار من خلال مراجعة القديمة منها وسن ما يجب سنه في هذا السبيل، لتكون متكاملة تتسم بالوضوح في الرؤية والإستقرار في الإحكام.
- الثقة عماد العلاقات الإنسانية الصحية
تكمن حيوية المجتمعات الإنسانية في كم العلاقات الإقتصادية والإجتماعية المتبادلة بين الأشخاص، إضافة إلى درجة متانتها، ولا يمكن لهذه العلاقات أن تنشأ بوتيرة عالية وأسس صحية دون ثقة متبادلة تدعمها وتقوي وشائجها. فالشخص إما يدخل في علاقات اجتماعية أو تجارية، جميعها تبنى على الثقة بالآخر. ففي الإعمال التجارية، تعد الثقة والأمان أمور أساسية في ممارستها وديمومتها، وأحد جوانب الثقة والأمان هو الثقة بالنظام التشريعي السائد في المجتمع، فهذه الأعمال والتصرفات أكثر حساسية من غيرها تجاه البيئة التشريعية، بحيث تنشد الأمان في حكم قواعدها دائماً، وأن أي نقص أو خلل فيها يؤدي إلى نتائج خطيرة تمس درجة الإقبال على النشاط التجاري، مما يجعلها عاملاً مساهماً في إنخفاض وتيرة ممارسة الأعمال التجارية، وتكون النتيجة النهائية خسائر فادحة في التجارة والإقتصاد، لهذا السبب تبتغي جميع الدول تهيئة بيئة تشريعية تجارية مناسبة تساعد على نمو الإعمال التجارية وزيادة وتيرة ممارستها. ومن صور الأمان التشريعي في إطار القانون التجاري هو حماية التوقعات المشروعة للأشخاص الذين يتعاطون الأعمال التجارية، فهؤلاء يتوقعون دائماً الإنصاف في الحكم والثبات والإستقرار في المراكز القانونية، وأن أي شك يراودهم في هذا الشأن يؤثر على حماسهم مما يعني الفتور في العمل التجاري، ومن ثم دخول المجتمع في دائرة الركود والأخطار الإقتصادية. وقد يحصل الإخلال بالتوقعات المشروعة نتيجة الأزمات الإقتصادية، بحيث أن التشريع لا يملك القدرة على إدامة العمل التجاري مما قد يعرض الكثيرين للإفلاس وإدخال الإقتصاد في دائرة الركود الحاد. عليه، تنعكس هذه الأهمية التشريعية للأعمال التجارية على مبادئ وقواعد القانون الدولي الخاص، وبذلك كان إنشاد الأمان القانوني في إطار العقود التجارية الدولية من إهتمام فقه تنازع القوانين منذ وقت طويل، وقد تمخض هذا الإهتمام عن إقرار مبدأ سلطان الإرادة في إطار العقود الدولية، بحيث تعطى الحرية للمتعاقدين في إختيار القانون الواجب التطبيق على العقد، وأولى مبررات قاعدة قانون الإرادة هي أنها تحقق الأمان القانوني للمتعاقدين على المستوى الدولي وتحمي توقعاتهم المشروعة.
- آليات حماية التوقعات المشروعة للمستثمر الأجنبي
إضافة إلى المخاطر التجارية، يواجه المستثمر الأجنبي في الدول المضيفة مخاطر سياسية تتمثل في تغيير التشريع في الدولة المضيفة على نحو يمس مركزه القانوني في مقابل الدولة، لهذا يحرص المستثمر الأجنبي على تبيث تشريع الدولة المضيفة من حيث الزمان بحيث لا تسري عليه التعديلات التشريعية اللاحقة على ابرام عقد الإستثمار. لذلك، توجد علاقة وثيقة بين البيئة التشريعية في الدول المضيفة للإستثمار وتوافد الإستثمار الأجنبي اليها، وطبيعة هذه العلاقة هو أنه كلما تميّز تشريع الدولة بالوضوح والإستقرار كلما استقطب الإستثمار الأجنبي، والعكس صحيح تماماً. وفي سبيل حماية التوقعات المشروعة لأطراف عقود التجارة الدولية، تطورت قاعدة قانون الإرادة بحيث أصبحت كل شيء في مجال العقود الدولية، فهي التي تنشأ العقد وترتب الآثار وتحدد الإختصاصين التشريعي والقضائي، كما للإرادة افلات العقد من القواعد القانونية الرسمية وإخضاعه لقواعد القانون المرن، كما أن للإرادة تثبيت التشريع الواجب التطبيق من حيث الزمان وايضا لها إنزال القانون الواجب التطبيق منزلة الشروط التعاقدية. إن قيام الدولة بتهيئة تشريعات جيدة يعد آلية لحماية التوقعات المشروعة للمستثمر الأجنبي، وجودة التشريع من هذه الناحية تتمثل في تحقيق الإستقرار في العلاقة الإستثمارية من خلال وضوح التشريع وملاءمته لطبيعة الإستثمار الأجنبي. ومن مظاهر جودة التشريع أن يكمل بعضه بعضا وان لا يخالف الجديد منه قديمة دون أن يلغيه.
وقد تضطر الدولة المضيفة للإستثمار الأجنبي إلى النص في تشريعها الوطني على تثبيت التشريع من حيث الزمان، وأن ما يصدر لاحقاً من تشريعات لا يمس مركز المستثمر الأجنبي. لأن ذلك يعد من أهم آليات حماية التوقعات المشروعة للمستثمر الأجنبي حيث يتم تثبيت القانون الواجب التطبيق من خلال بند في عقد الإستثمار ذاته، رغم ما في هذا الشرط من مساس بسيادة الدولة التشريعية.
إستناداً على ما سبق، ومن أجل جذب الإستثمارات الأجنبية، يستحسن بالمشرع في العراق وإقليم كوردستان-العراق تبديد الخشية لدى المستثمر الأجنيي من خلال أقرار الثبات التشريعي الكلي في تشريع الإستثمار. ومن الأفضل الإستفادة من تجارب بعض الدول التي تقدمت كثيراً من ناحية التنمية الإقتصادية من خلال استفادتها من رأس المال الأجنبي المستثمر فيها. وكذلك اجازة شرط الثبات التشريعي بالنسبة للطرف الأجنبي المتعاقد مع الدولة. ونقترح أن يكون ذلك من خلال تعديل المادة 25 من القانون المدني العراقي التي تتناول القانون الواجب التطبيق على الإلتزامات التعاقدية، على نحو تتضمن المادة اطلاقات الإرادة الحاصلة في التوجهات الحديثة للفقه والقضاء والتشريع المقارن.
[1] أصل المقال بحث مقدم في المؤتمر الافتراضي الرابع لمركز البحوث القانونية في وزارة العدل بإقليم كوردستان العراق المنعقد في 7-1-2024، تحت شعار “ضمان جودة التشريع وسبل تدعيم الثقة العامة بالقانون في ضوء التوقع المشروع للأفراد، ركيزة المؤسساتية وتحقيق العدل في المجتمع“، منشور في عدد خاص لمجلة العقد الاجتماعي، السنة الرابعة، 2024.