اتركوا درب المتنبي وحاله …
اتركوا درب المتنبي وحاله …
صرخة من صميم القلب إلى امين بغداد!
لا يكاد يمر يوم الا ونصدم بمفاجأة “غير سارة” عن نية احد المسؤولين في ” تجديد واعادة تأهيل” هذا الموقع الاثري، او هذا المبنى التاريخي، او ذاك الجامع التاريخي. ان اي موقع تاريخي او تراثي في العالم، حتى لو كان دربا مفتوحا، او باحة، او ميدان حضري، او شارع تراثي، او مبنى تراثي، يحتاج الى صيانة مستمرة وترميم وعناية متواصلة. ذلك لان الهدف الاساس من الحفاظ على معالم المدن التاريخية وصيانتها هو ضمان بقائها كما هي دون اي تغييرات تفقدها اصالتها التاريخية.
وفي الحقيقة، انا اتخوف كثيرا جدا عندما اسمع ان هناك نية لتجديد او اعادة تأهيل لأي معلم تاريخي في العراق….لماذا؟ الجواب بكل بساطة ان هذه العملية، وهي تترجم عادة الى مشروع يحال الى مقاول ما، تنتهي بتخريب هذا المعلم وتحويله الى شيء جديد لا يمت باي صلة بالقديم. هذا هو الذي حصل تماما مع دوائر الاوقاف، بكل انواعها، اذ غيرت كليا الاغلبية الساحقة من الجوامع التاريخية الرائعة والاضرحة وهدمتها وحولتها الى مبان حديثة هزيلة تفتقر لأي قيمة معمارية او تاريخية. وبمعنى اخر، اصبحت هذه المؤسسات الرسمية عنصرا اساسيا في تدمير التراث العراقي بدلا من ان تكون امينا حريصا عليه.
التاريخ يا سيدي فيه عبق جميل…والعَتق فيه قيمة الاصالة ويردد صدى الاجداد… اما عفوية المكان العتيق فلا يمكن اعادة صنعها ابدا من مصمم غريب قابع في صومعة معمارية مفعمة بجوها الافتراضي وبرمجياتها الرقمية المقرصنة، وينتج لنا فلما مغريا ومبهرا للمغفلين وللناس البسطاء ! وحتى لو كانت النوايا حسنة، فان هذه التصاميم ستكون مفتعلة ومختلقة وجديدة…خالية من الروح… ان درب المتنبي (افضل تسميته بالدرب على الشارع) ترجع اصوله الى اجدادنا العباسيين…وهو امتداد لسوق الوراقين، وكان يوازي درب دينار الصغير عند العباسيين الذي اصبح شارع المأمون بعد الحكم الوطني، وبعد ذلك اصبح جزءا هاما من محلة (الدنكجية)، ثم جزءا حيويا من محلة (جديد حسن باشا) حيث عرفه البغاددة بدرب (الاكمك خانة) وهي كلمة تركية تشير الى المخبز العسكري الذي شيده الوالي مدحت باشا في بدايته الجنوبية الغربية. وتحول هذا الدرب القصير الذي لا يتجاوز طوله اكثر من 250 متر، تدريجيا الى دور للطباعة ومكتبات شهيرة منذ العشرينات كمكتبة المثنى لصاحبها قاسم محمد الرجب، والمكتبة العربية لنعمان الاعظمي، والعصرية لمحمود حلمي، ومطبعة الشابندر لموسى الشابندر التي تأسست في 1907 وتحولت الى مقهى الشابندر الشهير بعد الاحتلال البريطاني في 1917، ويديرها منذ فترة طويلة البغدادي الاصيل محمد الخشالي الذي فقد خمسة من ابناءه جراء التفجير الارهابي في 2007.
ان درب المتنبي اصبح منذ عقدين من الزمن احد ابرز واجذب الاماكن الثقافية في بغداد والعراق على الاطلاق، وهو يعمل الان بشكل رائع، ويحبه الجميع، وتتواجد حواليه مجموعة من البنايات البغدادية الاجرية الجميلة، ويتميز بالعفوية والتنوع البصري، وفيه المكتبات المختلفة والباعة والحيوية والديناميكية الثقافية الاجتماعية…وهو بذلك يضاهي اماكن بيع الكتب المفتوحة في باريس ولندن وغيرها…ولعله حتى اجمل منها . لذلك، فان اي محاولة لإعادة تنظيمه، وتوحيد محلاته تحت مظلات مثبتة بمئات من المساند الحديدية وعليها حروفا عربية متناثرة، ستحجب تماما الطوابق العليا للأبنية التراثية على الجانبين، وهي بمثابة اطلاق رصاصة مميتة على درب المتنبي لأنها ستحوله الى مكان مسخ جديد، مرتب بشكل عسكري ممل، وتقتل روحه الفريدة كما فعلت امانة العاصمة عندما ” اعادت تأهيل” سوق الصفارين الرائع وانهت اصالته كليا.
ارجوك..ارجوك… ثم أرجوك… ياامين بغداد وانت المؤتمن على تراثها العظيم…ان تعدل عن تنفيذ هذا المشروع…وتنقله الى مكان اخر في بغداد الحديثة…لأنك الان امام امتحان تاريخي ومفترق طرق…اما ان تنقذ درب المتنبي العظيم وتتركه لحاله…او ان تطلق عليه رصاصة الموت!
الاستاذ الدكتور احسان فتحي
معماري وخبير دولي في الحفاظ على التراث المعماري الحضري
مؤسس قسم التراث في امانة بغداد 1982