التحول من الاقتصاد النقدي إلى الاقتصاد الحقيقي: بداية النهاية لاتفاقية بريتون وودز؟

✍ بقلم: البروفيسور الدكتور سعد محمد عثمان
أستاذ الاستراتيجيات والسياسات الاقتصادية
الأمين العام للمنتدى العراقي للنخب والكفاءات
في عالم يموج بالتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية، يبدو أن العالم يقترب من نقطة تحول تاريخية في البنية الاقتصادية العالمية. لسنوات، استند النظام المالي العالمي على الاقتصاد النقدي، حيث تلعب العملات الورقية دورًا محوريًا في التجارة والاستثمار. غير أن هناك دلائل متزايدة تشير إلى أننا نعيش لحظة تحول من الاقتصاد النقدي إلى الاقتصاد الحقيقي، وهو تحول قد يعيد تشكيل معالم الاقتصاد العالمي كما نعرفه.
تآكل دعائم اتفاقية بريتون وودز
منذ توقيع اتفاقية بريتون وودز قبل أكثر من نصف قرن، والتي تم بموجبها ربط العملات بالدولار بدلاً من الذهب، شهد الاقتصاد العالمي استقرارًا ظاهريًا في البنية المالية، ولكن بثمن باهظ: طباعة الأموال دون غطاء حقيقي، مما أدى إلى تفاقم الدين العام والتضخم، وخلق اقتصاد غير مستدام على المدى الطويل.
وقد بدأت تظهر اليوم علامات ضعف هذه الاتفاقية، خاصة بعد أن أزالت حكومة جونسون في السبعينات الغطاء الذهبي عن الدولار. الآن، ومع تفاقم الديون السيادية، والتقلبات الجيوسياسية، بدأت الثقة في الدولار تهتز، ما يفتح الباب لعودة الاقتصاد الحقيقي الذي يقوم على الأصول الفعلية كالذهب والطاقة والمعادن.
الذهب يعود إلى الواجهة
من أبرز مؤشرات هذا التحول هو الاندفاع العالمي نحو الذهب. فالمستثمرون يعتبرونه الملاذ الآمن في أوقات الأزمات، ومع ازدياد التوترات الاقتصادية والجيوسياسية، ازدادت الثقة بأن الذهب سيواصل ارتفاعه. تشير التقديرات إلى أن الذهب ارتفع بنسبة 27% هذا العام ليصل إلى 3425 دولار للأونصة، وهناك توقعات أن يتجاوز 4000 دولار في نهاية عام 2025، حتى في حال تباطؤ وتيرة الصعود.
الرابحون في زمن الأزمة
من سيكون الرابح في هذه المرحلة؟ الجواب بسيط: من استشرف الأزمة واستعد لها. أولئك الذين خزّنوا الذهب، أو الأفضل من ذلك، من سيطر على مناجمه في إفريقيا سيكونون في موقع القوة. والأذكى هو من أعاد ترتيب علاقاته التجارية بعيدًا عن الاعتماد الكامل على الدولار، كما تفعل دول الخليج والصين والهند، التي بدأت بالفعل بالتبادل التجاري عبر العملات المحلية.
روسيا، التي تملك احتياطيات ضخمة من الذهب وتنتج كميات كبيرة منه، ستكون أيضًا من بين المستفيدين الرئيسيين، خاصة مع تصاعد أسعار الذهب في السوق العالمية.
التحديات الأمريكية والأوروبية
في المقابل، تواجه الولايات المتحدة تحديات كبيرة، أبرزها الدين العام الذي تجاوز 140% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، تملك أمريكا ما نسبته 25% من ذهب العالم، بالإضافة إلى ثروات طبيعية هائلة قد تعيد التوازن لاقتصادها على المدى الطويل. لكن الأثر الفوري سيكون سلبيًا، في حين أن أوروبا – باعتمادها على نماذج إنتاجية غير متوازنة – قد تكون المتضرر الأكبر، لا سيما تلك الدول التي تعتمد على النفط كمصدر رئيسي للتمويل.
مؤشرات اقتصادية يجب مراقبتها:
- أسعار الذهب: في طريقها إلى مواصلة الارتفاع، بزيادة متوقعة لا تقل عن 20% إضافية.
- الدولار الأمريكي: قد يشهد انخفاضًا في قيمته بنسبة 10% بنهاية 2025.
- أسعار النفط: مرشحة للتراجع بفعل ارتفاع الذهب وتباطؤ النمو العالمي.
- تكاليف الاستيراد: سترتفع بسبب الحروب التجارية والتعريفات الجمركية المتبادلة، ما سينعكس مباشرة على أسعار السلع.
- العقارات: سترتفع أسعارها بنسبة قد تصل إلى 25%، مع زيادة موازية في كلفة الإيجار رغم تباطؤ السوق العقاري.
- يحب ان لا نعتبر انخفاض قيمة الدولار ازاء العملات الاخرى ضعفا، بل هو خطوة استباقية للترغيب في الاستيراد من امريكا اقتصاديا معروف الدول المنتجة تخفض قيمة عملتها لتزيد صادراتها ويبدو امريكا أدركت اللعبة الصينية مع قيمة اليوان المنخفضة التي كانت عاملا مهما في دمار الصادرات الامريكية من المنتجات المختلفة واغراق الاسواق بالسلع والمنتجات الصينية.
- من المحتمل ان يقوم ترامب بتخفيض الضرائب على الشركات المنتجة الامريكية لفترة من الزمن والسبب اعادة توطينها في امريكا مع رفع الضرائب على السلع المستوردة من الدول الاخرى.
٠8يسعى ترامب الى تخفيض سعرا الفائدة ضمن منطق الاقتصاد الكلي الطلب الفعال هو الذي ينعش وليس الادخار كما ان العرض هو الذي يخلق الطلب عليه.
نهاية 2025: ملامح أزمة عالمية؟
النصف الثاني من عام 2025 قد يحمل في طياته مخاطر اقتصادية كبيرة، لن تكون أسبابها اقتصادية بحتة، بل سياسية في المقام الأول. صراعات النفوذ، تحولات الطاقة، والتحالفات الجديدة، كلها عوامل ستشكل الاقتصاد العالمي القادم.
وخُلاصة القول نحن أمام مشهد اقتصادي عالمي جديد يتشكل بهدوء، ولكن بسرعة، في خلفية المشهد العالمي المضطرب. العودة إلى الاقتصاد الحقيقي ليست مجرد خيار، بل ضرورة. ومن يدرك هذه الحقيقة الآن، ويعيد تشكيل أدواته واستثماراته، سيكون في موقع الفائز في معركة اقتصادية كبرى قد بدأت بالفعل. فكل ذلك كتبته وذكرته وقلته قبل سنوات.