قراءة في كتاب محمد حسنين هيكل الموسوم “الإمبراطورية الأمريكية و الإغارة على العراق”
لمناسبة الذكرى الخامسة عشر للغزو الامريكي واحتلال العراق
قراءة في كتاب محمد حسنين هيكل الموسوم
“الإمبراطورية الأمريكية و الإغارة على العراق“
أ.د.محمد مظفر الأدهمي
رئيس لجنة الثقافة والاعلام والفنون في المنتدى العراقي للنخب و الكفاءات
يعتبر الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل من ابرز الباحثين في توثيق الإحداث العربية وتدوينها، وهو الذي عرفناه منذ ستينات القرن العشرين بمقالاته الأسبوعية الشهيرة في جريدة الأهرام المصرية. وصدرت له من الكتب و المؤلفات ما غطى تاريخ العرب السياسي المعاصر بإحداثه الجسام وتحولاته و حروبه و انقلاباته وتقلباته.
ومن بين هذه المؤلفات كتابه الموسوم( الإمبراطورية الأمريكية والاغارة على العراق ) والمتعلق بالسياسة المستقبلية للولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين و علاقتها بغزو العراق و احتلاله. وقد آثرنا أن نختار من هذا الكتاب القيم ماله علاقة بأسرار سياسة البيت الأبيض في التخطيط و التنفيذ لغزو العراق واحتلاله و الدور الذي لعبه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في دفع الادارة الامريكيه و الحزب الجمهوري لاحتلال العراق .
يخصص محمد حسنين هيكل في كتابه حجماً كبيراً لتوضيح الأبعاد التاريخية و المستقبلية للإمبراطورية الأمريكية في خطط ساسة البيت الأبيض، ويركز على مفهوم ( الحرب ) في أذهان الرؤساء الأمريكان فيقول أن كل رئيس أمريكي يعرف إن مكانته بين ساسة بلاده وفي تاريخها الطويل لا تكتمل إلا بأن تكون له ( حربه الخاصة ) ليثبت فيها رجولته. ولذلك يقول جورج بوش الأب: ” أن الحرب هي الوسيلة التي تكتشف بها الأمم موارد قوتها الداخلية قبل قوتها الخارجية ” … ويعزز هذا القول نظرية الدكتور هارلان اولمان، وهو احد المستشارين المسموعين في البيت الأبيض، وأستاذ العلوم السياسية في كلية الدفاع الوطني الأمريكية، والذي شرحها بمنهج كامل لكبار القادة السياسيين و العسكريين الأمريكيين في دورات هذه الكلية، وتنعكس هذه النظرية بشكل واضح في مذكرة ( الصدمة والرعب ) ” إن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستعمل أقوى شحنة من القوة المكثفة والمركزة و الكاسحة، بحيث تنهار أعصاب أي عدو يقف أمامها، وتخور عزيمته قبل أن تنقض عليه الصواعق من أول ثانية في الحرب إلى آخر ثانية منها ويتم تقطيع أوصاله و تكسير عظامه و تمزيق لحمه دون فرصة يستوعب فيها ما يجري له “. ويضيف اولمان في مقابلة تلفزيونية مع قناة CBSالأمريكية أن استعمال أقصى درجات العنف من أول لحظة كفيل بتوليد أحساس بالعجز لدى العدو.
ثم ينتقل محمد حسنين هيكل في بداية كتابه الى وصف شخصية الرئيس الأمريكي بوش الابن فيقول أن أحداً في عائلته لم يكن يعتقد أنه يصلح مرشحاً للرئاسة بما فيهم والدته ( بربا ره بوش ). وقد اعترف بوش الابن نفسه بالقول أنه كان شاباً لاهياً، عابثاً كسولاً، عازفاً عن العلم حتى تجاوز سن الخامسة والثلاثين وقد حصل بالكاد على شهادته الجامعية… وكان شديد الإدمان على شرب الخمر ليلاً ونهاراً مما كان يضايق زوجته لورا ويسبب لها حرجاً شديداً داخل بيت الزوجية وخارجه، فلم يكن يمر أسبوع إلا ودورية بوليس تستوقفه و تسحب رخصة قيادته لأنه يقود سيارته مسرعاً مخموراً, (( ووصل الحال ببعض النوادي في تكساس إلى حد منعه من دخولها لأنه في كل مرة يدخلها يثير ( خناقة ) لا داعي لها ))…وفجأة وبعد ليلة خمر ثقيلة أصبح الصباح ليتحول بوش إلى متعصب ديني للكنيسة، بحيث أن زوجته لم تصدق في بادئ الأمر تحوله هذا. ولابد لنا هنا أن نضيف إلى وصف محمد حسنين هيكل، من أن مذهب بوش الابن الديني كان ( أنجيليا ـيعقوبياً ) أي بروتستانتي متطرف يؤمن بأن عودة المسيح لن تحصل قبل أن يتم أعاده بناء هيكل سليمان وأن تصبح القدس عاصمة لإسرائيل الكبرى.
ينتقل محمد حسنين هيكل بعد ذلك إلى مرحلة انتخاب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية والذي يصفه ب( الإمبراطورـ القيصر) فيقول انه لم يكن مقنعاً في أساس شرعيته، وشعر العالم أن الولايات المتحدة الأمريكية قد سلمت مقاليد السلطة فيها لرجل لا يستحق، وفي أحسن الظروف لا يعرف أن وصوله إلى السلطة هو مشروع له أصحاب لديهم جدول إعمال جاهز يريدون طرحه. وفي مقدمتهم ديك شيني ودونالد رامسفيلد وكولن بأول وهذا المشروع متفق عليه سلفاً ويمكن تلخيصه بالنقاط الثلاث الآتية:ـ
- إمبراطورية أمريكية لا تقبل شراكة أو منافسة احد.
- سيطرة كاملة على موارد البترول و (مواقعه) و ألإشراف على إدارته والتحكم في توزيع حصصه.
- حملة عالمية ضد الإرهاب تواجه خطراً يعلن عن نفسه وفي الوقت ذاته يوفر غطاءاً أخلاقيا للإمبراطورية الأمريكية.
أن الاتفاق على المشروع الإمبراطوري لم يمنع الخلافات والمشاكل في ترتيب الاولويات لدى إدارة بوش الابن عندما كانوا يجلسون على مائدة مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أواخر كانون الثاني و أوائل شباط 2001م. فقد توزعت و انقسمت الآراء و المناقشات وفقاً للاتجاهات التالية:
- كان وزير الخارجية كولن بأول يرى أن بند مكافحة الإرهاب هو الذي يصح أن يتصدر قائمة الأولويات لأنه هو القادر قبل غيره على اجتذاب أوروبا واسيا و الصين… ومن خلاله تكسب الولايات المتحدة أوروبا وتصل إلى تسويه للصراع العربي الإسرائيلي.
- بينما رأى نائب الرئيس ديك شيني إن الرئيس الجديد لا يصح أن يقتفي خطوات سلفه السابق ( كلينتون ) ويهدر وقته في مشكلة الشرق الأوسط دبلوماسيا. وإنما يدخل إليها من خلال قضية مقاومة الإرهاب وليس عن طريق قضية فلسطين، لأن الأصدقاء العرب لا تهمهم فلسطين بقدر ما يهمهم ( حماية نظمهم ) وهم ينسبون إلى الارهاب وحده أسباب قلقهم كله. وأن الولايات المتحدة تستطيع آن تنفذ من خلال هذا القلق إلى مواقع البترول مباشرة دون تضييع الوقت في الصراع العربي الإسرائيلي.
- أما وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومساعده وولفوتيز ومدير التخطيط الإستراتيجي في وزارته ( ريتشارد بيرل ) فقد طرحوا ولأول مرة موضوع ( العراق ) كوسيلة لتحقيق أهداف الإمبراطورية الأمريكية. وهي أن الوقت مناسب لتوجيه ضربة مباشرة للعراق كمدخل لسيطرة كاملة على البترول بدلاً من ضياع الوقت في قضايا مستعصية الحل مثل الصراع العربي الإسرائيلي. وأن ( تصفية ) الحساب مع العراق يفتح مداخل إلى ( تسوية )الحسابات القديمة مع إيران مما يمهد لخروج شرق أوسط جديد تحت قوة النيران الأمريكية في منطقة لاتفهم غير لغة ( الخوف ) رغم استغراقها في الكلام عن السلام.
ويضيف محمد حسنين هيكل. أنه في أجواء هذه المناقشات ذهب ( كولن باول ) بنفسه في آذار 2001م إلى منطقة الشرق الأوسط ليقابل حكامها برسالة من الإدارة الجديدة مؤداها أن ( العراق هو الأزمة، وفلسطين هي المشكلة، والأزمة أولى بالعلاج قبل المشكلة ). ولم يستطع باول إقناع احد بمنطق هذه الرسالة، وفي ا لحقيقة فانه هو نفسه لم يكن مقتنعاً بها، وكان رأيه ـ ومن تجربته السابقة في حرب الخليج الثانية أن فلسطين هي ( أم الأزمات ) في المنطقة.
كان الرئيس الأمريكي الجديد بوش الابن حائراً بين هذه الأفكار ولذلك فان النصف الأول من سنة 2001م قد شهد تخبطاً في السياسة الداخلية و الخارجية وكان كل مسؤول يحاول أن يجعل وزارته محمية محرمة على غيره. وظهر تشيني نائب الرئيس و كأنه الرجل الأول في الإدارة الجمهورية أمام الرئيس الجديد الذي مازال ( عوده أخضر ) وصورته مهزوزة أمام الرأي العام في الداخل والخارج.
وفجأة وفي صباح يوم 11 أيلول 2001م وقعت الواقعة: هجوم بالطائرات المدنية على عدة أهداف في نيويورك وواشنطن وسقوط برجي التجارة العالمي هشيماً تذروهما الرياح مع مقتل آلاف العاملين و الموجودين فيه. وكذلك تدمير احد أجنحة وزارة الدفاع الأمريكية… فقامت الدنيا ولم تقعد… وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب الفعلية على الارهاب؟
وهنا يتساءل محمد حسنين هيكل:
” كيف تحول المشروع الإمبراطوري الأمريكي من الحرب ضد الارهاب إلى حرب ضد العراق…. وكيف انتقلت بؤرة الحوادث من نيويورك إلى كابول ثم من كابول إلى بغداد ؟ وكيف وقع استبدال الأقنعة من ملامح الشيخ أسامه بن لادن إلى ملامح الرئيس صدام حسين بهذه السرعة ؟ ”
للإجابة على هذه الأسئلة يستعرض محمد حسنين هيكل محاضر اجتماعات مجلس الأمن القومي في البيت البيض فيقول أنه:
_ بعد ظهر يوم 11 أيلول استمع الرئيس الأمريكي بوش إلى رأي رئيس جهاز المخابرات ( تينت ) الذي ابلغه أن أسامة بن لادن و القاعدة وراء هذه العملية.
_ في 12 أيلول دعا بوش مجلس الأمن القومي للاجتماع، وعرض وزير الدفاع رامسفيلد أسئلة حول خطة الهجوم على أفغانستان وتنظيم القاعدة.
_ ثم تعددت الاجتماعات لمناقشة موضوع توجيه ضربة عسكرية لتنظيم القاعدة في أفغانستان ولم يرد مطلقاً ذكر العراق في هذه المناقشات.
_ ولكن وبعد أربعة أيام فقط من أحداث 11 أيلول، أي في اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 15 أيلول طرح الرئيس الأمريكي جورج بوش على تشيني وباول ورامسفيلد سؤالاً محدداً وهو:
(هل حربنا هي ضد القاعدة أم ضد الإرهاب عموما؟ )
وبدأ وزير الدفاع رامسفيلد الإجابة’ بالقول ” لا نستطيع أن نقيم تحالفاً مستمراً لمجرد ضرب القاعدة أنه محدود ويمكن أن يتلاشى ” واكد نائب الرئيس تشيني هذا الرأي بشكل أوضح حين قال ” إن الجماعات الإرهابية مجرد ( أشباح ) وسننجح أكثر في العمل ضد ( جسد ) بمعنى أن نركز على الدول التي ترعى الإرهاب ” وكأنه كان يمهد لما طرحه بعد ذلك رامسفيلد وبشكل مفاجئ حين قال:-
” أليس من الضروري أن نضرب العراق أيضا وليس القاعدة فقط؟ العراق يمكن أن يكون هدفاً متجسداً أمامنا وقابلاً للضرب على أساس انه من رعاة الارهاب….. صدام حسين ليس شبحاً وإنما بلد ”
ونقل رامسفيلد رأي مجموعة البنتاغون العاملة معه من أن صدام حسين هو خطر شديد لأنه مصمم على حيازة أسلحة دمار شامل يمكن ان تصل إلى الجماعات الإرهابية و عليه فإن:-
” ضرب العراق يمكن أن يبدأ بسرعة و الخطط لدينا جاهزة “ ولا حظ باول أن خطط ضرب أفغانستان لم تكن جاهزة و أنما طرح رامسفيلد في الاجتماعات السابقة مجموعة أسئلة لأعداد خطة لضرب أفغانستان بينما خطة ضرب العراق جاهزة !
يقول محمد حسنين هيكل أن بوش كان قد دعا إلى اجتماع غير رسمي يوم 15/ أيلول لمناقشة أكثر هدوءاً في منتجع كامب ديفيد وقد استفاض في الكلام فقال:-
((الشعب الأمريكي يريد عملا كبيرا، مهولاً،انفجارا عظيماً)) ” أستعمل بوش تعبير يستعمله علماء الطبيعة لوصف الإنفجارات الهائلة التي أنفجر معها خلق الكون”
_(( لا أريد معركة واحدة ولكن أريد حربا ممتدة يشعر بها الشعب الأمريكي ويتأكد أننا نواصل الدفاع عنه حتى أقاصي الأرض.
لا يهمني اعتقال رجل واحد و لا اعتقال عدة رجال وإنما يهمني أن نتوصل إلى صيغة فعل تعطينا تفويضاً مفتوحاً للعمل حيث نشاء، لا يهمني أن يحاول احد منا ان يضع حدوداً وهمية على فعل ا لقوة الأمريكية، أو حدوداً مالية تقيد مجال عملها ….. ))
وقد روى وزير الخارجية كولن باول الى الكاتب الصحفي الأمريكي بوب وودوارد أنه (( في هذه اللحظة أحسست أن الرئيس يريد أن يقتل أحدا. رأيت أمامي رجلاً استيقظت لديه كل غرائز القتل من أحساسه بصدمة ما جرى في نيويورك ومن تحرقه للانتقام لها مهما كان الثمن ))
وخلال النقاش حول ما أورده الرئيس بوش بشان ( الانفجار العظيم ) قال نائب وزير الدفاع بول وولفويتز : ” أن ما يطلبه الرئيس لا يمكن أن يتحقق إلا في حالة واحدة، هي حالة أن نوجه ضرباتنا إلى الدول الراعية للإرهاب أو الدول الإرهابية والعراق أول القائمة بوجود صدام حسين على رأسه ! ”
ولقد أكد وجهة النظر هذه وزيره رامسفيلد في محضر اجتماع مجلس الأمن القومي ( 14-15/ أيلول 2001م ) بالقول:
” إننا كلما رفعنا منظار الغواصة فوق سطح الماء، وأدرنا البصر على عرض البحر حولنا لا نجد هدفاً أنسب من العراق “. وتأكيداً لرؤيته هذه قال رامسفيلد أن العراق منهك ومعزول و يسهل الاستفراد به و إسقاط نظامه وفيه أهداف كبيرة يمكن ضربها بعمليات مبهرة، كما إن في العراق جوائز هائلة يمكن الاستيلاء عليها بأقل تضحيات متصورة و ذريعة أسلحة الدمار الشامل تعطي المشروعية للحرب على العراق.
ومع ذلك كله لم يفلح رامسفيلد في إقناع الرئيس بوش ومجلس الأمن القومي بنقل المعركة من أفغانستان إلى العراق خصوصاً وان الرئيس كان يخشى أن البدء بالعراق قد يفسر على انه عداء شخصي انتقاما لوالده بعد أن أصبح العراق لا يهدد أحدا لضعفه . وكان الجميع يرون وجاهة ما يطرحه رامسفيلد ولكنهم كانوا يختلفون معه في التوقيت… وهكذا بدأت الحرب على أفغانستان في 11 أيلول 2001م وانتهت في 29 كانون الثاني 2002م لتبدآ مع نهايتها خطة احتلال العراق من اجل تحقيق هدفين هذه المرة وهما ألاستمرار في الحرب على الارهاب لإثبات اقتدار امريكا وسيطرتها على العالم و الثانية تامين فوز بوش الابن في انتخابات الرئاسة القادمة
في مطلع عام 2002م وقبيل انتهاء الحرب في أفغانستان وجد مستشار الرئيس للشؤون الداخلية ومسؤول حملته الانتخابية ( كارل روفي )أن أفغانستان لن تنفع الرئيس بوش الابن في الانتخابات الرئاسية القادمة، خصوصاً و أنه لا يتوقع مفاجآت سارة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الولايات المتحدة. ولذلك أجرى اتصالات ونقاشات مع رامسفيلد الذي أقنعه أن العراق هو المسرح المهيأ لتجاوز هذه الهواجس الانتخابية فقد رأى رامسفيلد أن أفغانستان ليس فيها هدف واحد يثير خيالاً أو يغري بجائزة. ففيها 9 أهداف تم ضربها و عادوا إليها مرات ومرات و أصبح التكرار أضحوكة و عليه لابد من ميدان آخر تثبت فيه أمريكا اقتدارها، والمكان هو العراق.وكان الرئيس بوش الأبن مستعداً لتبني خيار الحرب على العراق في هذه المرحلة ولذلك جاء خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس الأمريكي يوم 29 كانون الثاني 2002م وهو يوم انتهاء الحرب على أفغانستان ليطلق الرئيس بوش الأبن فيه شعار ( محور الشر ) موجهاً إصبع الأتهام بالتحديد إلى العراق وقائلاً بالنص:
” إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح للنظام الأشد خطورة في العالم أن يهددها بواسطة أسلحة الدمار الشامل التي يملكها ويطورها ويقدر على استخدامها ”
في الوقت نفسه رفعت من فوق الشاشات خارطة ( أفغانستان ) لتحل محلها خارطة (العراق ) وغابت صورة (أسامة ابن لادن ) ولمعت صورة ( صدام حسين ).
وفي اليوم التالي الجمعة الأول من شباط 2002م اجتمع وزير الدفاع رامسفيلد برؤساء أركان الحرب و على رأسهم رئيس الأركان الجديد الجنرال ريتشارد مايرز و بدا حديثه بالقول:
” أن اللعبة الآن في ساحة العراق و القوات المسلحة الأمريكية، وليس أي طرف غيرها، هي اللاعب الأساسي، وعليها أن تكسب المباراة هناك وتفوز بالجائزة “. وطلب الاستعداد لحملة عسكرية على العراق الذي هو عدو ضعيف لا يملك سلاحاً فعالاً لأن ما لديه من أسلحة وعتاد عمره مابين 15- 20 سنة.
أعدت هيئة الأركان برئاسة مايرز خطة الحرب على العراق. وفي يوم 8 نيسان 2002م دخل رامسفيلد إلى اجتماع مع هيئة الأركان وعدد من كبار مستشاريه وهو يحمل ملفاً كبيراً يضم مشروع خطة غزو العراق.…. وطرح رامسفيلد الخطة للنقاش معترضاً عليها كونها تتطلب قوات ومعدات كثيرة في حين أن العراق لا يمتلك سوى أسلحة ضعيفة وبلا طيران و لا يمتلك قوة بحرية.
كذلك فأن مناطق حضر الطيران الجوي حسب قوله قد أخرجت الجنوب من سلطة الجيش، وأصبح الشمال مستقلاً ولم يبق سوى الوسط الذي تسيطر عليه السلطة المركزية وهو منطقة فقيرة قياساً بنفط الشمال و جنوبه و الذي هو بيد الأمم المتحدة أصلاً.
و أضاف رامسفيلد: أن العراق سيكون في المعركة القادمة داخل صندوق مقفل لآن كل الدول المحيطة به هي ضده. وأستنتج قائلاً ” أذن نحن في حالة تفوق كامل بري وجوي وبحري و فضائي وسياسي… والعراقيون في حالة عجز وعزلة تامة سواء فيما عندهم أو فيما هو محيط بهم وهذه حقائق لا يصح أن تنسى…. كذلك فأن الأراضي العراقية مكشوفة و النفط العراقي مصادر و السيادة العراقية منزوعة ” وأضاف متسائلاً ” أذن لمن يحارب الجيش العراقي ولمن يضحي أنه لن يحارب إذا وجد إمامه قوة الولايات المتحدة “.
في ضوء هذا كله أقترح رامسفيلد خطة جديدة لحرب سريعة ذات تأثير نفسي ( الصدمة والرعب ) وأن يتم قطع راس النظام بشكل عنيف إلى درجة ترغم جنرالات الحرس الجمهوري والجيش العراقي على الاعتقاد انه لم تعد هناك فائدة للقتال… وأوضح رامسفيلد: ” وعليه فان المطلوب حرب ذكية ورشيقة لا تحتاج لأكثر من ثلاث فرق وليس ثلاثة عشر فرقة كما طرحت الخطة: فرقتان تزحفان من الخليج إلى جنوب العراق دون تهديد نخشاه وفرقة من الشمال مع فرقة إضافية من الجيش التركي ووحدات كافية من البشمركة الكردية للزحف على الموصل، بعد توجيه ضربة أولى لقطع الرأس، مع تكثيف صاروخي لا يترك للعراقيين وقتاً للتفكير بأي شيء أخر.
ويضيف محمد حسنين هيكل بان عواصم الدول الكبرى و كذلك الصغرى لم يكن خافياً عليها ما يجري ولكن التفاصيل كانت غائبة عنها…..فزادت الهواجس من المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي لن يكون العراق هدفه النهائي.
خلال هذه الفترة كانت بريطانيا تناقش موضوع المشاركة في غزو العراق، ولم يكن اتخاذ مثل هذا القرار سهلاً في مجتمع يجد في خطط السلاح و الغزو ثقيلة على الرأي العام البريطاني. بل أن وزير خارجية بريطانيا السابق وزعيم الأغلبية في مجلس ا لعموم روبن كوك قال لصديقه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ” أنه في دهشة من مقولة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وأن تجريده من هذه الأسلحة المدمرة هو المبرر القانوني و الأخلاقي للغزو”.
أستطلع بلير أراء عدد من الرجال والنساء المؤثرين على اتجاهات الرأي العام البريطاني وبينهم زعامات في الحركة النقابية، فلم يجد تأييدا واسعاً لحرب على العراق بالشراكة مع الولايات المتحدة…. ومع ذلك قرر بلير المشاركة في ا لحرب اعتقاداً منه أن غزو العراق سيقع حتى وأن لم تقتنع بريطانيا. وفي أوائل أيلول 2002م ابلغ توني بلير بوش أن بمكانه الاعتماد على بريطانيا.
وفي 12 أيلول 2002م ألقى الرئيس بوش الابن خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلن فيه أنه ” أما أن ينصاع العراق بلا قيد ولا شرط لنزع أسلحة الدمار الشامل… أو أنها الحرب لأن هذه الأسلحة جاهزة للتشغيل خلال 45 دقيقة بأمر من صدام حسين الذي هو أخطر رجل في العالم لأنه يهدد الجميع ولذلك فأنه يعطي الآخرين الحق في الدفاع عن النفس قبل أن يداهمهم.
وبعد أربعة أيام وافق العراق على استقبال المفتشين الدوليين دون قيد أو شرط. ولكن العالم أستغرب من ردة الفعل الأمريكية للقرار العراقي. فقد جاءت بمنطق جديد يقول: ” أن العراق لم يقبل بعودة فريق المفتشين إلا بعد أن تمكن من إخفاء ما لديه من أسلحة دمار شامل ”
وكان هذا يعني أن الولايات المتحدة لم يكن لديها الوقت لتسمع لأن اهتمامها كان من الأول للأخر محصوراً في الخطط العسكرية فالقضية بالنسبة لها لم تكن وجود أو عدم وجود أسلحة الدمار الشامل وإنما القضية هي الاستيلاء على العراق وإسقاط النظام فيه واحتلال البلد.
لذلك عقد مجلس الأمن القومي برئاسة بوش اجتماعاً في البيت الأبيض يوم الاثنين 23 أيلول 2002م بحضور هيئة أركان الحرب و المستشارين لعرض الخطة العسكرية ومناقشتها وقد تم تقسيم القوات المشاركة في الحرب على العراق على النحو الآتي:
- 9 قواعد في منطقة العمليات وحولها، منها سبعة قواعد في سبع دول عربية.
- 6 حاملات طائرات في ا لخليج و البحر الأحمر و المحيط الهادي.
- 4مناطق حشد للقوات المتقدمة على الأرض من ثلاث بلدان عربية.
أما حجم القوات المشاركة:-
- 7-8 فرق امريكية حوالي 150 ألف جندي.
- 4 الوية بريطانية 35-40 ألف جندي.
- فرقتان من الجيش التركي
- قوات خاصة غير نظامية تابعة لفرق عراقية معارضة.
- 15000 من قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البرزاني ).
- 10,000 من قوات الحزب الوطني الكردستاني.
- 6000 قوات شيعية تابعة لجماعات معارضة
5000 قوات تابعه لأحزاب عراقية في المنفى بعضها يتدرب في معسكر خاص في المجر.
كانت الصورة في مجلس الأمن فوضى عامة فالمعلومات الواردة من واشنطن إلى نيويورك تكشف للوفود جميعاً أنه برغم استعداد العراق لقبول عودة المفتشين إليه فإن الولايات لمتحدة وبريطانيا تقومان ألان بالتعطيل بادعاء عدم الجدوى لأن النظام في العراق لم يقبل بعودة المفتشين إلا بعد أن تمكن من أخفاء ما لديه من أسلحة دمار شامل. بينما وقفت وفود الدول الكبرى والأمانة العامة تطالب بإعطاء فرصة ،كما أن الرأي العام في أوربا و أمريكا يطالب بذلك. ولكن أقطاب الإمبراطورية الأمريكية الجدد كانوا صروحاً من الصخر لا تتأثر وتطل على ما ترى أمامها و تسمع دون استجابة وبدا أنه عناد تحكم في العقل وأنه غرور القوة اخذ بأصحابه إلى منتهاه. وكانت الإدارة في واشنطن تلح على امتلاكها معلومات سرية عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. من جانبه أصدر مكتب توني بلير بيان معلومات عما تمتلكه بريطانيا من أدلة على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ( بل ادعت أن العراق بإمكانه توجيه ضربة خلال 45 دقيقة ).
وفي 7 تشرين الأول 2002م أصدر بوش بيانا للأمة الأمريكية أعلن فيه ” أن صدام يستطيع مهاجمة الولايات المتحدة أو حلفاؤها الأقربين بأسلحة دمار شامل في أي يوم يختاره وان أدارته سوف تؤدي الواجب العاجل المفروض لمواجهة أسوأ الاحتمالات “.
وطلب بوش تفويضاً من الكونغرس باستخدام القوة المسلحة ” وحصل على التفويض يوم 11 تشرين الأول 2002م. و في ظرف ساعات كان وزير الدفاع رامسفيلد يطلب من هيئة أركان الحرب المشتركة أن تتحرك مجموعة من الجيش الخامس و فرقة جنود المارينز الأول إلى منطقة الخليج العربي.
كان وزير الخارجية كولن باول غير مرتاح للاندفاع العسكري بدون وجود غطاء شرعي له تقف معه أوروبا وغيرها ولذلك قابل الرئيس بوش يوم 16 أكتوبر لوحده. وأوضح له أنهم بتصميمهم على المضي في حرب ضد صدام حسين دون قرار من الأمم المتحدة وفي وجه معارضة بارزه في مجلس الأمن سوف يظهر الولايات المتحدة في حالة تحدٍ لمجلس الأمن وللميثاق مما يؤثر على مشروعية عملهم في العراق ويظهره وكأنه مسالة طمع إمبراطوري في ذلك البلد وموارده. كما أن الحرب بهذه الطريقة سوف تؤثر على ( أخلاقية ) التصرف الأمريكي و ( قانونيته )و سوف تغذي المعارضة الشعبية للسياسة الأمريكية و التي تزداد أتساعاً حتى في أقرب العواصم الأوروبية ومنها ( لندن ). أما من الجانب العسكري فأضاف باول أن أول درس تعلمه في الخدمة العسكرية ” أن القوة الأمريكية دائما في خدمة مبدأ وهذا المبدأ يلزمه غطاء قانوني و غطاء أخلاقي ” لأنه بدون هذا الغطاء سيتحول القتال إلى( مجرد قتل) لا يختلف فيه جنرال على كتفه أربعة نجوم عن مرتزق يمسك بيده بسكين. وهناك فرق كبير أن يكون المحارب قاتلاً وبين أن يكون مقاتلاً.
أقتنع بوش بكلام باول الذي قاد معركة سياسية في مجلس الأمن للحصول على قرار من مجلس الأمن صدر في 8 نوفمبر 2002م برقم 1441 ولم يكن هناك تفويض بالحرب لكنه كان قرارا بصيغة حازمة فهم منه أنه يراد تخويف العراق لكي تمر ألازمة بسلام. لكن إدارة البيت الأبيض فهمته على أنه تفويض مفتوح تتصرف بالسلاح كما يحلو لها. ولذلك وحسب رأي هذه الإدارة لابد من غزو العراق دون النظر إلى ( الشكليات ) باعتبار أن النتائج في حد ذاتها تعطي للقتال ذرائعه، فحين يصحو العالم ليجدوا أن نظام صدام حسين قد سقط و أن العلم الأمريكي يرفرف فوق بغداد فإن أمريكا ستكون مأخوذة باستعراض النصر والعالم مشغول بأمر واقع له سطوته، والدول التي ترددت وتقاعست ستكون معزولة ومكسورة الخاطر.
من جانب أخر ذهب المفتشون الدوليون إلى العراق وفقا للقرار 1441 ولم يجدوا ما يثبت امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. وكان الرئيس الأمريكي بوش يعلم بعدم وجود هذه الأسلحة. ولذلك أصدر إعلانا بعد يومين اثنين من صدور قرار مجلس الأمن 1441 قال فيه أن ” الولايات المتحدة لن تنتظر حتى يوافق مجلس الأمن على تفويضها بالعمل العسكري ضد العراق لأن الخطر الذي تمثله أسلحته قادم و مهمة التفتيش لا ينبغي لها أن تتسبب في تعطيل إجراء تراه الولايات المتحدة واقياً من هجوم مفاجئ ” ولذلك رفعت الولايات المتحدة من وتيرة استفزازها إلى سقف جديد أعلى مع بدء عملية التفتيش في العراق. وحاول العراق احتواء التهديد الأمريكي بتقديم تقرير تفصيلي (( عن كل ما كان لديه )) من أسلحة الدمار الشامل. وكان ذلك في يوم 12 كانون الأول 2002م… إلا أن بوش طلب يوم 21 كانون الأول تمركز خمسين ألف جندي في الخليج العربي. وفي يوم 2 كانون الثاني 2003م بدأ وزير الدفاع رامسفيلد في تحريك مجموعات من هذه القوات إلى مناطق الحشد في الكويت في الوقت الذي أعلنت الحكومة البريطانية رسمياً استدعاء 1500 جندي احتياط إلى الخدمة مع تحريك حاملة طائرات. وفي اليوم نفسه 2 كانون الثاني قدم هانز بليكس ومحمد ألبرادعي تقريريهما. وقال كبير المفتشين بليكس في ختام تقريره أنهم لم يعثروا على أسلحة دمار شامل في العراق رغم مضي أربعه أسابيع من التفتيش في مناطق شاسعة وأكد الحاجة إلى ( وقت أضافي لإنجاز المهمة ). وتبعه ألبرادعي بالمطالبة بستة اشهر للتأكد من الحقائق. وفي 28 كانون الثاني عاد بليكس إلى مجلس الأمن ليطلب منحه مدة إضافية لاستكمال عمله خصوصاً و انه ( يلقى استجابة في الإجراءات من جانب العراق ) فاشترط الأمريكيون ثلاثة أسابيع على أن يفتح العراق أجواءه لطائرات التجسس ( يو 2 ) بمسح وتصوير ما تريده على أرض العراق الذي وافق على هذا الشرط، وكانت الصور تذهب إلى وزارة الدفاع لخدمة مخطط الغزو. وبدأ قطار الحرب يزداد سرعة يوما بعد يوم ،وتصاعد معه رفض أعطاء فرصة للمفتشين ولم يؤيد الرئيس بوش في توجيه ضربه للعراق سوى 39% من الرأي العام الأمريكي حسب استطلاعات الرأي.
لم تأبه الإدارة الأمريكية لأي رأي يتقاطع مع خططها لغزو العراق وحددت ساعة الصفر للبدء بالهجوم في أخر ضوء من يوم 20 آذار 2003م. ومع ذلك فأن الرئيس الأمريكي بوش الإبن وقع أمراً رئاسياً بقتل صدام حسين بضربة عاجلة ولو أدى الأمر إلى استباق ساعة الصفر وذلك على أساس معلومات قيل له أن مصدرها الآن في موقعه يتابع عن قرب تحركات الرئيس العراقي صدام حسين داخل بغداد.
ولم تمض ساعات حتى اتصل رئيس المخابرات ( تينيت ) على عجل بالبيت الأبيض ليقول أنهم يعرفون ألان بالضبط أين يوجد ( صدام حسين ). وأعطى ( جورج بوش ) موافقته لتبدأ ضربة الحرب الافتتاحية قبل موعدها بأربع وعشرين ساعة، والأمل أن يقتل ( صدام حسين ) بحكمة أن ” قتل رجل واحد يطمئن جيشاً كاملاً“.
وفي رغبتها الجارفة للحسم العسكري فان قيادة القوات استعملت رخصة كثافة النار بأكثر مما كان مقدراً في الخطة الأصلية، وهكذا فان ضربة الصدمة و الرعب على ( بغداد ) تكررت وزادت وكان الضرب في بعض الليالي مروعاً.
وطبقاً لتقرير هيئة عمليات القيادة المشتركة فقد قامت الطائرات الأمريكية ب (41404) طلعة جوية و أطلقت ( 19948) قذيفة موجهه إلى جانب ( 9251 ) قذيفة غير موجهة تغطي بالنار دوائر واسعة دون هدف بالذات، وكان ذلك مخيفاً.
وينهي محمد حسنين هيكل كتابه القيم هذا بالحديث عن لقاء الغرباء. لقاء القوات الأمريكية مع أهل العراق وتلك الحساسية الشديدة التي غلفته مع مقولة الجنرال فرانكس وهو يرد على فشل هذا اللقاء” أن قواتي كانت تشكيلات محاربه، واجبها البحث عن العدو وقتله وليس الابتسام في وجهه وأخذه بالأحضان ”
ولم تمض ِ أيام على الغزو واحتلال بغداد في 9 نيسان 2003 , حتى وجدت قوات الغزو أن جميع الذرائع القانونية والأخلاقية التي دفعت بها إلى العراق غير صحيحة بل أن القائلين بها كانوا أول من يعرف أنها ( غير صحيحة ). فلا توجد أسلحة دمار شامل ولم يكن للنظام في بغداد أمكانية تهديد الولايات المتحدة أو أوروبا أو جيرانه في ظرف ( 45) دقيقه، ولم يكن للعراق صلة بتنظيم القاعدة. وأهم من هذا كله فإن الشعب العراقي لا يبدوا سعيدا بهذه القوات التي جاءت لكي (تحرره). ولقد صدقت مقولة الجنرال مايرز الى وزير الدفاع رامسفيلد : ” أنا اعرف أن ما نحن مقبلون عليه هو معركة بين طائرة من طراز ( ف15)، وطائرة من الورق التي يلهو بها الأطفال، ولكن ذلك ليس من شانه أن ينسينا إننا سوف ننزل من أعالي الجو إلى التراب “وتلك معركة اخرى مختلفة .