لجنة الثقافة و الاعلام

محاولة للإجابة عن بعض أسئلة الحرب العربية الصهيونية السادسة

مصطفى كامل

عضو الأمانة العامة ورئيس لجنة الثقافة والإعلام
في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ

ينطلق كاتب هذه السطور من اعتبارٍ مبدئي وأخلاقي وسياسي يرى أن المقاومة حقٌ مشروعٌ بالمطلق لأيِّ شعبٍ احتُلّت أرضه، سواء توفرت لتلك المقاومة الحاضنة الشعبية والظروف المناسبة أم لو تتوفر، بل هي على وجه الدِّقة واجبٌ ينبغي على كل مستطيعٍ القيام بهِ بلا عذرٍ ولا تبريرٍ ولا تقصير.

وهو في هذا المنطلق يرى أن للمقاومة أشكالاً متعددة وطرائق مختلفة أعلاها وذروة سنامها المقاومة المسلحة، وأدناها المقاومة بالقلب، بمعنى أن يكون القلب حاضراً دائماً في أية مواجهة، تستثيره مواقف البطولة وتخفق فيه معانيها، وأقول حاضراً دائماً بمعنى الاستعداد الدائم للوقوف مع أية حالة مقاومة والاصطفاف إلى جانبها وليس على سبيل الهبّات ولا على سبيل الاجتزاء واختيار ما يُناسب حسب مزاج المعني وخياراته أو ربما أوهامه، ويقيناً فإن بين ذروة سنام الموقف وأدناه درجات عديدة في المقدمة منها المقاومة الإعلامية، حيث باتت الكلمة والصورة والمشهد جزءاً من سلاح المقاوم الباسل وذخيرته في الميدان.

وعلى سبيل الأشكال المختلفة للمقاومة أذكر حديثي مع أحد الذين ادّعوا تمثيل العرب السنة في العراق في ذروة عمليات المقاومة الوطنية العراقية ضد الاحتلال الأميركي سنة 2003 وقولي له “إذا لم تسمح ظروفكم بمقاومة المحتلِّ بالسلاح فعليكم أن لا تتخلّوا عن إشاعة ثقافة المقاومة بين الناس”. لكنَّ المعني وجماعته تخلّوا عن شرف المقاومة بالسلاح وعن شرف إشاعة ثقافة المقاومة بين العراقيين بل نالوا خزي التخذيل والخيانة بتحالفهم مع المحتلين والعملاء المستوردين ضد العراقيين المقاومين.

ولا شك أن المقاومة المسلحة التي هي ذروة سنام الموقف المقاوم كما قلنا إنما يقرّرها، شكلاً وتوقيتاً وحجماً ومكاناً القائمون بها على الأرض، ولمّا كان القول المأثور “لا يفتي قاعدٌ لمجاهد” صحيحاً فإن الصحيح هنا أيضاً ألا يحدّد قاعدٌ لمجاهد شروط وحجم ومكان وزمان مقاومته، كما أن الصحيح أن الأزمات إنما تكون مواضع نصرة لا مواضع تثبيط وتلاوم، فهذا ليس ترفاً لا محلّ له في هذا المقام، بل شذوذٌ فكريٌ وخطلٌ أخلاقيٌ، وهو غباءٌ سياسيٌ أيضاً، ولا ينبغي لمن يؤمن بفكرة المقاومة أن يقع في ذلك الشذوذ والخطل والغباء.

ويرى الكاتب في هذا السياق أن الخطأ الأكبر جسامة الذي وقع فيه العرب السنة في العراق، وأشير لهم بالتحديد باعتبارهم طليعة وقوام فصائل المقاومة الوطنية العراقية ضد الاحتلال الأميركي الإيراني، أن الخطأ الأكبر جسامة كان عندما تخلّوا، في نهاية سنة 2011، عن حمل السلاح في مواجهة أذناب المحتلين بزعم أن المحتل الأميركي غادر بثقله الأساسي أرض العراق، وبالتالي لا يجوز حمل السلاح صوناً لـ (حرمة الدم العراقي)، وهي حرمة وهمية لا مكان لها على الإطلاق ولا يجوز أن تُطرح أصلاً في سياق مقاومة الاحتلال ومشاريعه التي عهِد إلى عملائه المحليين بتنفيذها صوناً لدماء جنوده الذين أثخنت فيهم فصائل المقاومة الوطنية العراقية الباسلة قتولاً وجراحاً وأجبرتهم على الفرار بعد أن أرغمتهم على تغيير خططهم السياسية التكتيكية مرات عدة قبل ذلك، وحفظاً لمليارات الدولارات من أمواله التي أهدر نحو ثلاثة آلاف مليارٍ منها على أرض العراق.

من هذه المنطلقات الفكرية والسياسية والأخلاقية، ومن هذا النقد الذاتي الذي يراه الكاتب ضرورياً، يُشرع في الولوج إلى قلب ما يريد أن يتحدث فيه حول معركة طوفان الأقصى المتواصلة في أرض فلسطين منذ فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.

قلنا إن المقاومة واجبٌ لأيِّ شعب احتُلَّت أرضه وهذا يعني أن على شعب فلسطين، ومن يرى أن قضية فلسطين تعنيه في أقطار عربية أو دول إسلامية أخرى، واجب المقاومة ورد العدوان والعمل على تحرير الأرض المغتصبة بلا نقاش، والمؤكد أن ثلّةً من شعب فلسطين تقوم فعلاً بهذا الواجب، سواءً كان قيامها على وفق ما ينبغي فعلاً أو على وفق ما يُرتجى أو على وفق ما هو متاحٌ من إمكانياتٍ في ظلّ القيود والتحديدات المعروفة المضروبة حول أيَّ فعلٍ للمقاومة المسلحة أينما جاء وكيفما جاء ومتى جاء.

وليس من حقّ الكاتب ولا غيره أن يقولوا للمقاومين على الأرض لمَ فعلتم كذا؟ ولمَ لمْ تفعلوا كذا؟ فهذا ما يقرّرونه هم وحدهم ولا يليق بأيٍّ كان أن يضع نفسه في موضع التحذلق عليهم، ولست أفعل بالتأكيد.

ولمّا كان الأمر كذلك فإننا هنا نضع أنفسنا في موضع التفسير والتحليل لا في موضع التذاكي والتشكيك والحذلقة، ونسأل:

  1. لماذا شَرَعَتْ حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في عملٍ على هذا المستوى النوعيِّ من التخطيط والتنفيذ والإعداد الطويل مثل “طوفان الأقصى” الذي يتجاوز كونه عملية فدائية أو معركة محدودة بل يرقى إلى مستوى حربٍ لها نتائجها المصيرية، وهي تعلم يقيناً إن إمكاناتها الذاتية- تسليحية ومالية ولوجستية- في هذه المواجهة محدودة للغاية ولن تمكّنها من الاستمرار في ظل المعطيات المعروفة؟
  2. ولماذا بدأت “حماس” هذه الحرب وهي تعلم أن الظروف الجيوسياسية التي تحيط بها ظروف تخذيلٍ لا ظروف نصرة، وهي تُدرِك طبعاً أن الدول العربية كلها وتركيا وباكستان وروسيا والصين، لن يدخلوا الحرب للقتال معها بجيوشٍ رسمية وقدراتٍ مباشرةٍ إطلاقا.
  3. ولماذا باشرت “حماس” أولى صفحات هذه الحرب وهي تعلم أنَّ من يبدأ الحرب ليس هو من يُنهيها بالضرورة ولا هو من يفرض شروط إنهائها حتماً، خاصة في ظل اختلال معادلات الصراع وميل الموازين المادية والسياسية لصالح العدو الصهيوني، وفي ظلّ تردي مستوى الفعل لدى النظام الرسمي العربي، أو انعدامه في حقيقة الأمر؟
  4. ولماذا بدأت “حماس” هذه الحرب وهي تعلم أن لها صفحات أخرى غير صفحة البداية، وأعني صفحة الردّ العسكري الصهيوني وهو ردٌّ وحشيٌ معروف؟
  5. وهل كانت “حماس” تعتقد أنها ستجرّ العالم إلى موقفٍ مناصرٍ لها بنجاح صفحتها الأولى؟ أم أنها كانت تعتقد أن العالم سيقف معها، أو على الأقلّ يعمل على إنهاء هذه الحرب فقط لأنه سيرى حجم التضحيات الإنسانية الجسيمة التي سيقدّمها أبناء غزة جراء الردّ الصهيوني الوحشي المتوقع؟
  6. أم أن “حماس” كانت تهدف من هذه الحرب تحريك القضية الفلسطينية التي تجري تصفيتها ليس بعيداً عن مصالح شعب فلسطين فحسب بل بعيداً حتى عن مسامعهم؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها لابد أن تُطرَح في هذا المقام خصوصاً بعد أن انقضت 13 يوماً كانت كافيةً لاستجلاء شيءٍ من المواقف وكفيلةً بتوضيح بعض أجزاء الصورة، ومع السيل الغامر للدماء الفلسطينية الغالية الطاهرة التي سُفِكَت خلال هذه الحرب، ومنها مجزرة المستشفى الأهلي التي تذكّرنا بالمجزرة التي ارتكبها الأميركيون في ملجأ العامرية ببغداد سنة 1991.

ومرة أخرى نؤكد على أننا هنا نُفسّر ونُحلّل ولا نتذاكى ولا نزاود ولا نلوم، ونحن حتى مع التفسير والتحليل ننطلق من موقف الإيمان بفكرة المقاومة ومن موقف نصرتها في كل زمانٍ ومكانٍ بلا تردّدٍ ولا خوف.

لقد نجحت حركة “حماس” بسلاحٍ بسيطٍ بمقاييس الصراع، وبتوفيقٍ من الله صانع الأسباب ومقدّرها، نجاحاً باهراً أذهل العالم كلّه في الصفحة الأولى من الحرب، وأعني بها صفحة البدء بالهجوم التعرّضي الواسع على مواقع العدو ومقرّاته العسكرية ومستوطناته وكيبوتزاته وكلّ ما وقع في يدها ضمن نطاق الهجوم الذي جرى في غلاف غزة، وهو نطاق جغرافي يفوق غزة مساحةً وفيه من القوات ما يفوق إمكانات “حماس” بكثير.

وكان الدرس الأهم من كل ما جرى في تلك الصفحة هو درجة الكتمان القصوى التي أحيطت بها، وهي قضية تأخذ أبعاداً أعمق وأشمل حينما ننظر بعين الاعتبار إلى طول الزمن الذي استغرقته عمليات الاستطلاع والإعداد والتجهيز والتسليح لعملٍ جبارٍ كهذا.

حيث لا وسائل تجسسٍ إلكترونية، ولا أقمارٌ اصطناعية، ولا جواسيسٌ على الأرض، ولا تسريبٌ لأية معلومات من القادة والمقاتلين.

ومع أن هذا لافتٌ جداً للنظر إلا أن هذا ما حدث، فقد كانت هذه الصفحة بحقّ صفر تجسس، صفر اختراق، صفر تسريب.

وبعيداً عن نظريات المؤامرة المطروحة التي تشبّه ما جرى في غزة الفلسطينية يوم السابع من تشرين الأول بما جرى في الموصل العراقية يوم العاشر من حزيران/ يونيو 2014 يوم انسحبت قوات النظام من المدينة بهدف السماح بمهاجمتها وتدميرها لاحقاً وهو ما حدث بالفعل، وأعني بذلك التشبيه اعتبار ما حصل انسحاباً منظّماً وخديعة استراتيجية من جانب القوات الإسرائيلية لإيقاع المقاتلين في فخٍ محكم ثم تدمير غزة وتهجير أهلها لاحقا، بعيداً عن هذه النظرية التآمرية فإن درس الكتمان الأقصى هذا هو الأهم بتقديري، وهو العامل الحاسم في نجاح تلك الصفحة، ولا ننكر أهمية باقي الدروس أو العوامل الأخرى بالتأكيد.

ليس سراً القول إن “حماس” تتلقى دعماً من إيران، فهذا ما يعرفه الجميع وهو محلّ اعتراف قيادات الحركة أولاً وأخيراً، ونحن وإن كنا نعيب على الحركة كثرة التباهي بذلك الدعم فإننا نتفهّم أن الظروف التي تعيشها في غزة تٌجبِرها على ما يُلجئُ المضطر وهو أكل الميتة حفظاً لحياته، لكن المشكلة تكمن هنا في أنَّ قياداتٍ في الحركة كانوا يفعلون أكثر من ذلك وهو ما نرفضه بالتأكيد، والحق أن إيران وهي تدفع لحركة “حماس” بضعة ملايين من الدولارات منهوبةً من أموال شعب العراق في الغالب إنما تحصل على أضعاف أضعاف ذلك سياسياً واستراتيجيا.

وفي هذا الإطار فإن إيران وميليشياتها، التي نسميها “محور مقاومة سليماني” الدعائي التهريجي من جهة والارهابي على وجه الدقة من جهة ثانية، يرون فيما تقوم به هذه الحركة ضد العدو الصهيوني متكئاً لهم ووسيلة لتبييض صفحاتهم المجلّلة بالعار والملطّخة بدماء العرب السنة في العراق وسوريا واليمن، وذلك بحشرهم هذه الحركة ضمن محورهم البائس والتهريجي والارهابي هذا، وهو ما لا ينبغي أن يكون بالتأكيد لأسبابٍ عدة في مقدمتها الاختلاف الديني والاختلاف السياسي والاختلاف في الغايات والأهداف بين الحركة وباقي أطراف “المحور” لكن هذا ما هو حاصل بالفعل!

بعد تفكيرٍ ونظر لم أجد في موضع الإجابة على هذه التساؤلات إلا القول إن “حماس” التي لم تخطئ، يقيناً، في قرارها بمواجهة العدو الصهيوني وفتح جبهة حرب معه في “طوفان الأقصى” فهذا حقّها بل واجبٌ عليها، قد تكون أخطأت في تقييم مواقف قوى بعينها كانت ربما تعوّل عليها في اتخاذ موقفٍ داعمٍ لها، ليس على سبيل الدعم اللفظي وسيل الشعارات والهتافات الهادرة الذي نشهده اليوم في العراق ولبنان واليمن وإيران، بل على سبيل مستوياتٍ أكبر بكثير، فالشعوب في هذه الدول وغيرها تقفُ مع المظلوم وتهتفُ لنصرته وتتعاطفُ معه، لكن الأهمَّ هنا ليس الموقف الشعبي العاطفي وانما الموقف الرسمي المسؤول الذي يعبّئ هذه العواطف الشعبية ويضعها في إطارها الصحيح، إطار الفعل المطلوب في هذا المقام والمصوَّب الهدف، وهو فعلٍ يتجاوز الألفاظ إلى المواقف، أعني الفعل العسكري بالتحديد.

والحق أن الشعوب المتعاطفة مع المظلوم كثيراً ما منحت لأنظمتها غطاءً ممتازاً للتحرك وسقفاً عالياً للفعل الميداني لكن، وكما في كل مرة، فإنَّ هذا الضغط الشعبي مهما تزايد فإن الأنظمة المعنية بقدراتها الفاعلة وأساليبها على اختلافها وبدعاية أجهزتها المخابراتية تعمل، وقد فعلت ذلك مراراً من قبل، على تسريب هذا الضغط الشعبي الهائل وخفض حدّته ثم تبريده ليتحوّل إلى عامل تخذيلٍ في المستقبل وليس إلى عوامل قوةٍ وصلابةٍ تتراكم لتحقيق الهدف الأسمى هنا، هدف تحرير فلسطين أعني.

الواضح عندي أن “حماس” لم تنسّق مع هذا المحور في اختيار توقيت وحجم وتفاصيل الصفحة الأولى، فقد قلنا إنَّ السرية والكتمان في أقصى درجاتهما كانت سمة هذه الصفحة وسرِّ نجاحها، بعد توفيق الله تعالى طبعاً، لكن الحركة ربما ظنّت، وليس بعض الظن فقط إثمٌ هنا بل كلّه إثم، أن نجاح الصفحة الأولى سيضع “محور مقاومة سليماني” أمام استحقاقاتٍ على الأرض، على صعيد العمل العسكري أعني، لا مناصَ منها ولا سبيلَ إلى التنصلّ عن التزاماتها.

أما لماذا أقول إن الظنَّ هنا كله إثم؟ فلأن الثقة في هذا المحور الإرهابي لا ينبغي أن ترِدَ في ذهن المقاوم الصادق صاحب القضية التي يؤمن بها حتى الاستشهاد، خصوصاً مع طول التجارب وما يبذله المخلصون من تبصيرٍ ونصح لقياداتها، والحق أن مقاتلي “حماس” في غالبهم مخلصون صادقون يبذلون أرواحهم وأهاليهم في سبيل ما يؤمنون به من حق.

لقد بنى هذا المحور كلَّ فلسفته في اختراق قطاعات من أمتنا طيلة أكثر من أربعة عقود على قضية “تحرير فلسطين” وفكرة “المقاومة” ودعاية “الصراع مع العدو الصهيوني” وعندما حانت لحظة الحقيقة في أهمِّ مواجهةٍ مباشرةٍ وشاملةٍ وعميقةٍ بين قوة فلسطينية كانت تدعمها- لغرض الاستخدام الدعائي- والعدو الصهيوني، وهي مواجهةٌ حقّقت نتائج فعلية على الأرض، اتّضح أن فكرة “المقاومة” وقضية “الصراع مع العدو” والعمل على “تحرير فلسطين” إنما كانت كلّها فريات بائسة تهاوَت وسقطَت على نحوٍ مريع في الميدان، وبدا يقيناً أن شعار المناداة بموت (إسرائيل) “مرگ بر إسرائيل” كان يعني في الحقيقة “مرگ بر فلسطين” لكن آذان بعض العرب وبعض المسلمين كانت تسمعه بشكل خاطئ وتقرأه على نحوٍ مغلوطٍ اعتماداً على ما قد بُرمجِت عليه عقائدياً أو ضُلّلت به سياسيا.

فلا إيران، وهي تعلن لنا كل أسبوع عن (إنجازٍ عسكريٍ باهر) وعن (صاروخٍ قاهر) حرّكت جندياً واحداً أو أطلقت طلقةً واحدةً نحو فلسطين المحتلة، ولا حزب الله أطلقَ واحداً مما كان يهدّد به من صواريخ قال زعيمه حسن نصرالله إنها بعشرات الألوف وإنها ستصل إلى “حيفا وما بعد حيفا”، ولا الحشد الشعبي الذي نهب ثروات العراق بزعم الاستعداد للملحمة المصيرية الفاصلة مع العدو الصهيوني فعلَ شيئاً يُذكر، ولا حوثي اليمن الذي قتل عشرات الألوف من شعبها وهو يصرخ “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” أطلق واحدةً من صواريخه بعيدة المدى أو مسيّراته الهجومية التي طالما وجّهها إلى مدن العرب، وحتى نكون في جانب الدقة أكثر فإن كل ما جرى في هذا المقام ليس سوى عمليات دعائية ومشاغلات وهمية حدثت في بعض مناطق التماسّ جنوب لبنان، والطريف أن حزب الله سرعانَ ما تبرّأ منها بينما كان زعيمه مختبئاً في سردابه العميق كالعادة.

أما مقتدى الصدر، وهو الذي أسّس ميليشيا جيش المهدي لمقاومة أميركا والصهيونية كما يزعم فلم يجد سوى (صلاة جمعة) مليونية يحشُد فيها مئات الألوف من أتباعه في وسط بغداد ثم يدعوهم بعدها للانصراف إلى بيوتهم، مأجورين (من الأجرة لا من الأجر) وبضعة سطورٍ على وسائل التواصل يُطلقها بين حينٍ وآخر.

والحقيقة أن فضيحة مقتدى كبيرة، لأنه إذا كان قادراً على حشد الأتباع بمئات الألوف فعلاً فلماذا لم يحشد منهم بضع مئات لمقاومة المحتلين الأميركيين على سبيل المقاومة الحقّة لا على سبيل المماحكات والابتزاز، كما جرى سنة 2004، أو مقاومة الصهاينة فعلا.

حتى عمامة المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني السوداء في النجف التي يُزعَم أنها تستطيع تحشيد الملايين بفتوى لإعلان الجهاد ضدّ المحتل، وهي التي لم تفعل ضد العدو الأميركي المحتل للعراق بل على العكس تآمرت معه لاستكمال غزوه ثم تعاونت معه لتحقيق مشروع احتلاله، حتى هذه العمامة لم تفعل شيئاً سوى قصاصة من بضعة سطور خرجت باسم مكتب المرجع لا باسمه هو شخصياً، والفرق كبير لمن يعرف، قصاصةٌ تطالب بالدعاء لأهل فلسطين.

ونحن هنا لا نقلّل من أهمية الدعاء، لكن دعاء المؤمنين إنما ينبغي أن يكون مع الفعل الحقيقي لا بديلاً عنه، فالدعاء مع الفعل توكلٌ على الله والدعاء بلا فعلٍ تواكل، والله سبحانه يحبُ المتوكلين عليه ويبغض الجبناء المتواكلين.

والحقيقة أن إيران أظهرت لعملائها وأصدقائها والمضلّلين بدعايتها الغوغائية، وجهاً آخر جديداً غير مألوفٍ في خطاب الدعاية الإيرانية بشأن قضية فلسطين ومواجهة “الاستكبار العالمي” الذي صدّع رؤوسنا لأربع وأربعين سنة.

فقد اختفى وجه “إيران الثورة” من الوجود كلياً وغاب خطابها الدعائي التهييجي تماماً، وبرز وجه “إيران الدولة” التي تراقب وتحذّر وتندّد فقط، ولعلها، وهذا وارد جداً، تساوم على القضية الفلسطينية وتسمسر على أهل فلسطين في الخفاء.

لقد غاب عن المشهد الإعلامي خطباء الجمعة الغوغائيون وأعضاء البرلمان التحريضيون وممثلو الولي الفقيه الشعبويون وظهرت وجوهٌ دبلوماسية ناعمة برّاقة حليقة اللحى تدقّق في كل كلمة وتحسب حساب كل خطوة وتراقب كل حركة.

كما غاب قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال إسماعيل قاآني عن المشهد تماماً وكأنه في مرحلة الغيبة الكبرى، فلا هو ظهرَ بشخصه ولا هو أرسلَ نواباً عنه ولا سفراءَ له ولا وكلاءَ ولا ممثلين، وهو الذي كان على خطى سلفه قاسم سليماني يتناول فطوره في دمشق ويتغدّى في بيروت ويتعشّى في بغداد وينام ليلته في كربلاء، ومنها إلى طهران ليبدأ بعدها بأيام جولة تفتيشية أخرى لميليشياته في سوريا ولبنان والعراق.

بل إن زيارة أمير حسين عبد اللهيان إلى بغداد وبيروت ودمشق كانت لإبلاغ عملاء إيران في تلك العواصم أن “إيران الدولة” لا تسمح لهم مطلقاً بالتحرّك على النحو الذي كانت “إيران الثورة” تسمح لهم به، وأن المسموح لهم في هذه المرحلة هو فقط ترديد بيانات وزارة الخارجية الإيرانية وضبط أصواتهم على عزفها، ولا بأس ببعض المظاهرات والتجمعات الدعائية التي لا تردعُ صهيونياً ولا تغيثُ فلسطينياً.

وانضبط الجميع حسب القرار، فالولي الفقيه لا يسمح بالعبث في هذا الوقت أبدا.

و “إيران الدولة” إذ تفعل هذا فإنها تدرك أن بقاء نظامها مرهونٌ فقط بهذه البراغماتية القبيحة وليس بخطاب “إيران الثورة” الدعائي الغوغائي المخادع، كما أن عملاءها وأذرعها الإرهابية في العراق وسوريا واليمن ولبنان يدركون هذا فلا يتجاوزون إلى غير المسموح به ولا يخلطون الأوراق لأن بقاءهم هم أيضاً مرهونٌ في الحقيقة ببقاء “إيران الدولة” لا بخطاب “إيران الثورة” فالأخير يُستخدم للدعاية السياسية والآيديولوجية لا غير، وهم ليسوا إلا أدوات تستخدمهم “إيران الدولة” من خلال خطاب وأذرع “إيران الثورة” لصالح مشروعها الاستراتيجي العنصري التوسعي الذي لا مكان فيه لفلسطين ولا محلّ فيه لمقاومة “الاستكبار العالمي”. وأعتقد أن هذه قضية بالغة الأهمية يجب أن يتناولها خبراء الشؤون الإيرانية بما يناسبها من البحث والدراسة.

فهل يفهم المخدوعون والمضلَّلون أن إيران دولة تُمارس البراغماتية في أقبح أشكالها، تبيع وتشتري بفلسطين والفلسطينيين وبشعارات المقاومة والممانعة وهي في نفس الوقت تعقد الصفقات مع الصهاينة محتلي فلسطين وقاتلي شعبها، مباشرة أو عبر وسيط؟

أما نحن فلنا في تاريخ صفقاتها مع الكيان الصهيوني خلال الحرب ضد العراق ما يُسعفنا في فهم هذه الازدواجية التي سمحت للنظام في طهران لا أن يبقى في المنطقة طيلة أكثر من أربعة عقود فحسب بل أن يؤثر في المنطقة ويكسب مزيداً من الأرجحية على حساب مصالح شعوبها وعلى حساب أمنها الوطني والقومي عبر أذرعه الإرهابية وأدواته الإعلامية والمضلّلين بشعاراته الغوغائية.

والمؤكد أن “حماس” لم تسعَ للانتحار وهي ليست ضالعة في مخطط لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير أهالي غزة كما يقول المخذِّلون والمتصهينون العرب، فهذا هراءٌ أربأ بنفسي عن مناقشته، فواجبها أن تقاوم وهي من يحدّد الكيفية والتوقيت والمكان، وواجبنا أن ندعم من يقاوم حينما يقاوم ونُرجئ كلَّ خلافٍ حتى خفوت صوت الرصاص.

غير أنني مع كل ما يمليه عليَّ الموقف المبدئي والأخلاقي والسياسي من نصرةٍ ودعمٍ وتأييدٍ أقول: إذا كانت “حماس” عوّلت على هذه القوى فقد أوقعت نفسها في خطأ استراتيجي عظيم وعرّضت شعب غزّة لوضعٍ يصعب تصوّر حيثياته المستقبلية.

ومع كون هذا الخطأ استراتيجي وعظيم إلا أنه لا يخلو من خير أيضاً، إذ أسقط هذا الخطأ “محور مقاومة سليماني” بضربة قاضية، وليس هناك من باستطاعته تبرير هذا السقوط الفظيع في أهم المزاعم التي بنى عليها تمدّده الخبيث بين صفوف الأمة لأكثر من 44 سنة.

هذا كلّه إذا كانت الحركة عوّلت على هذا المحور أو ظنّت به خيرا، أما إذا كانت نسّقت واتفّقت فإن ما جرى ليس سقوطاً وافتضاحاً لهذا المحور فحسب، بل مشاركة رسمية وعلنية وتفصيلية ومباشرة له مع العدو الصهيوني في قتل الشعب الفلسطيني، وتدمير قواه المقاومة، وفعلاً مباشراً على سبيل إنهاء الصراع العربي الصهيوني، وتصفية القضية الفلسطينية كلياً، حينما تركَ مقاتلي “حماس” وحدهم في الميدان، وتركَ شعب غزة يُذبحون جهاراً نهارا، والتاريخ يُقدّم لنا كل حينٍ ما يكفي من الأدلّة على استراتيجية نظام ولاية الفقيه في إيران الثابتة القائمة على بيع كلِّ شيء والمتاجرة بكل الشعارات في سبيل تحقيق مشروعه الفارسي العنصري الارهابي التوسعي، وأعتقد أن في نفي المتحدث باسم وزارة خارجية النظام، ناصر كنعاني، لاحتمال دخول طهران في الحرب ضد إسرائيل، ووصفه الحرب بأنها “إجراءٌ فلسطيني” ما يكفي للدلالة على عملية البيع المفضوح.

أما الفصائل المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية أو تلك التي تزعم الكفاح المسلّح والتي لم تنضوي في إطارها والموجودة في رام الله أو في دمشق أو سواهما، ولا أستثني منها أحداً، فإنها لم تسقط فحسب بل قبرَت نفسها على نحوٍ مأساويٍ فظيعٍ لكنه يليق بمن اختار سياسة التهاون والاستسلام وسلّم سلاحه طوعاً وارتضى برواتب ومكافآتٍ يصرفها له محمود عباس كل شهر إذا ضمن استسلامه وخنوعه أو يحجبها عنه إذا لمس منه مشاغبة أو خروجاً عن خط الذلّة المرسوم لدائرة بلدية رام الله، والعين المتقدمة والذراع القذرة لأجهزة العدو الصهيوني الأمنية والاستخبارية والمسماة (سلطة فلسطينية).

ويستحق غياب حركة الجهاد الإسلامي عن المشهد نظراً عميقاً فاحصاً، إذ لا يُعقل أن تغيب عن الفعل هذه الحركة التي تتقاسم النفوذ مع حركة حماس في قطاع غزة، ولو بدرجة أقل بكثير من الأخيرة.

أما النظام الرسمي العربي، فإن من يعترف بكيان الاحتلال الغاصب سياسياً ويطبّع معه مجتمعياً ويتكامل معه اقتصادياً ويتخادم معه استخبارياً لا يمكن التعويل عليه.

أما أولئك الذين قضوا أياماً وهم يخذّلونك ثم جاءوك اليوم ليحدّثوك عما يتعرّض له أهل غزة من مآسٍ، وهي هائلة، فليس مبعث حديثهم التعاطف مع أهلها، إنما يفعلون ليحبطوك ويبثّون في قلبك الرعب من المواجهة.

وهل كان أهل غزة على هذا القدر العظيم من الصمود والمطاولة والبذل والتضحية لولا أنهم آمنوا أن الطريق إلى جنّة النصر، نصرهم، تعبّده التضحيات وترويه دماء الشهداء، وهل من هدفٍ عظيمٍ بلا ثمن، وهل كانوا سيبذلون أرواحهم على هذا النحو الفريد لولا ثقتهم بجنة عرضها السماوات والأرض، ولولا أنهم أيقنوا أنه “إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ، قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ“.

هذه بعض ما طاف في خاطري وأنا أقرأ سطور ما جرى ويجري في “طوفان الأقصى” الذي ستستوي سفينته على جبل الجودي حاملةً بشائر النصر بحول الله تعالى وقوته، والخطأ في قراءتي وارد بالتأكيد والله وحده أعلم بالحقيقة.

الرحمة لشهداء فلسطين والشفاء العاجل لجرحاها والفرج القريب لأسراها والنصر لمقاومتها الأصيلة الباسلة.

والله الموفق والمستعان

18/10/2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى