عبد القادر الرباعي: رحلة في فضاءات المعنى وجماليات الصورة

الدكتورة ربا رباعي / دكتوراه لغة عربية – نقد وبلاغة
أستاذة جامعية / الاردن
في عالمٍ تتداخل فيه الكلمات مع التأويل، وتتمازج فيه التجربة الجمالية مع العمق النقدي، تبرز تجربة عبد القادر الرباعي كعلامة فارقة في المشهد النقدي العربي، خصوصًا في قراءاته للشعر العربي القديم والحديث. فالرجل لا يقرأ الشعر ليحاكمه، بل ليحاوره، ولا يدخل إلى النص من باب البلاغة التقليدية، بل من نافذة الرؤية، والدهشة، والمعنى المُتشكّل.
الرباعي، الناقد الأردني وأستاذ الجماليات، لا يُقدّم مشروعه النقدي بوصفه وصفًا للنصوص، بل استكشافًا لما لم يُقل فيها، وما يوشك أن يُقال، لو أنّ القارئ أمعن النظر وأعاد الإصغاء. في كتاباته، كما في محاضراته، يَسِم النصوص بقدرٍ كبير من الاحترام التأويلي، فلا يتعامل معها كجثث لغوية للتشريح، بل ككائنات حيّة تتنفس الشعر وتبوح بالمعنى لمن يصغي.
القراءة كفعل نوعي: عبور من الظاهر إلى الباطن
يُؤمن عبد القادر الرباعي أن القراءة ليست مجرّد فعل تلقٍّ، بل تجربة جمالية قائمة بذاتها. القراءة عنده ليست استهلاكًا للنص، بل فعل وجودي يُحيل القارئ إلى مشاركٍ في خلق المعنى.
> “لا يكفي أن نقرأ، بل يجب أن نُبصر، وأن نتذوق، وأن نعيد تشكيل النص كما لو أننا نعيد كتابته.”
إنها مقاربة نوعية للقراءة، تقوم على استنطاق الجمال داخل النص، ومساءلة لغته، وتشظياته، وصمته. يرى الرباعي أن التلقي التقليدي يُفرغ النص من روحه، ويجعله شيئًا باهتًا، بينما القراءة التأويلية تُعيد للنص ألقه، وتُنقّب فيه كما يُنقّب الأركيولوجي في طبقات المعنى.
بلاغة الصورة: من التزيين إلى التكوين
في كتابه الهام “بلاغة الصورة: التكوين الفني إطارًا” (دار فضاءات، 2023)، يخوض الرباعي تجربة نقدية تتجاوز البلاغة بمعناها التقليدي. لا يكتفي بتحديد الاستعارات والتشبيهات، بل ينظر إلى الصورة الشعرية بوصفها كيانًا دلاليًا وجماليًا مركبًا، يُعيد تشكيل العالم لا تصويره فقط.
يُقارب الصورة من ثلاثة أبعاد:
- 1. بُعد التكوين الفني: كيف تتشكل الصورة؟ ما علاقتها بعناصر النص الأخرى؟ هل هي ولادة طبيعية من رحم النص، أم اقتحام فني واعٍ؟
- 2. بُعد التفاعل الجمالي: كيف تُحدث الصورة أثرًا في وجدان القارئ؟ هل تبقى عند حدود الوصف، أم تتجاوز ذلك إلى الإدهاش؟
- 3. بُعد المعنى: هل تُضيف الصورة بُعدًا دلاليًا جديدًا للنص؟ أم تظل حبيسة الإطار الجمالي فقط؟
هنا يُقدّم الرباعي ما يمكن أن نُسميه “البلاغة الجديدة”، التي تتجاوز أدوات النقد التقليدية نحو قراءة تُراهن على التكوين، لا التوصيف، وعلى الأثر، لا القالب.
تشكيل المعنى الشعري: بين اللغة والتجربة
من أبرز ما يميز مشروع الرباعي هو اشتغاله العميق على مفهوم “المعنى الشعري”. فهو لا يتعامل مع الشعر كمجرد حامل للغة أو الصور، بل كحقل دينامي لتشكّل المعنى عبر التفاعل بين النص والقارئ.
يرى الرباعي أن المعنى لا يُعطى جاهزًا في النص، بل يتولد عبر التأويل، ويتشكّل من تفاعل القارئ مع بنية النص.
يميّز بوضوح بين “المعنى المعجمي” (الثابت واللغوي)، و*”المعنى الشعري”* (المتجدد والرمزي والمتعدد).
يستعرض نماذج شعرية من مختلف العصور – من الشعر الجاهلي إلى قصائد الحداثة – ليوضح كيف يُمكن للمعنى أن يتحوّل بحسب السياق والزمن، وكيف يمكن للبيت الواحد أن يكون له أكثر من تأويل جمالي.
هكذا تصبح القراءة عنده حالة تأويلية متحركة، تُحوّل الشعر من نص جامد إلى تجربة حية تُعاش من جديد في كل قراءه
نقد تأملي: الجمال بوصفه شريكًا في الفهم
ما يجعل عبد القادر الرباعي ناقدًا استثنائيًا هو انحيازه إلى التأمل بدلًا من السجال، وإلى الإنصات بدلًا من الحكم. النقد عنده ليس ممارسة سلطوية، بل فعل حب للنص، كما يُعبّر أحيانًا.
هو لا يطرح أسئلته ليجيب عليها بالضرورة، بل يتركها مفتوحة، كأنها دعوة للتأمل في النص لا الفصل فيه. يُميّز في قراءاته بين الظاهر والبنية العميقة، ويستخدم أدوات بلاغية دقيقة لفهم الشعر من الداخل، لا وصفه من الخارج.
في رؤيته، النص الجيد لا يُشرح، بل يُصغى إليه. والنقد الحقيقي لا يُفكك النص من أجل التحليل فقط، بل يعيد تركيبه جماليًا ليكشف عن أبعاده الدفين
خلاصة: دروس من مشروع عبد القادر الرباعي
في ضوء ما سبق، يمكن تلخيص مشروع عبد القادر الرباعي في عدة مرتكزات جمالية ونقدية:
- 1. القراءة فعلٌ إبداعي لا يقل شأنًا عن الكتابة.
- 2. الصورة الفنية ليست زينة بل بنية تأسيسية للمعنى.
- 3. المعنى الشعري يتشكّل بالتأويل، لا يُقدَّم كمسلّمة.
- 4. النقد فعلُ حب وتأمل، لا محاكمة أو استعراض.
- 5. التجربة الجمالية شرط أساسي لفهم النص، لا زائدة عليه.