الشباب والعولمة الثقافية، تحديات الهوية والانتماء

الدكتورة فرح صابر
عضو المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
لجنة العلوم السياسية
اسهمت التحولات الكبرى التي بدأ يعيشها العالم في العامين الاخيرين في بروز فاعل وفعل جديدين في العديد من مجتمعات العالم الثالث، وهو الشباب والحراك السياسي للشباب. وقد عدت هذه الحركة كظاهرة جديدة تستوجب المتابعة والرصد والتحليل. فالشباب قوة اجتماعية هامة بصفته قطاعاً اجتماعياً رئيساً في المجتمع، كما انه الاكثر تقبلاً للتغيير والاستعداد الموضوعي نحو التغيير، وهو ما يضمن مواكبته الحديثة للمتغيرات والتكيف معها بشكل سلس دونما ارباك. كذلك فان الشباب هو الاكثر طموحا في المجتمع وهذا يعني ان عملية التغيير والتقدم لا تقف عند حدود.
وإذا كانت العولمة هي الظاهرة الابرز لنهاية القرن العشرين او بداية القرن الحادي والعشرين بكل ابعادها الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، فان البعد والهوية الثقافية للعولمة ربما يعد الاكثر تأثيرا، والاكثر تحديا وخطورة لأنها تمس الثقافة والهوية بمعناها العام. فهي بمحاولتها نشر ثقافة القطيعة على المستوى الكوني من خلال برامج قولبة البشر، تسعى الى تنميط الجيل الشاب في المظهر والثقافة، والمرجعيات المعرفية، والأدوات، والقيم، والنظرة الى الذات والكون. وعليه فان الشباب هم أكثر فئات المجتمع تماسا مع العولمة واكثرها تأثرا بمعاييرها وقيمها، فهم كائنون في العولمة وفي فرصها وتحدياتها وامكاناتها، كما هي في اخطارها ومآزقها.
ومن خلال الزخم المتراكم من المفاهيم، والتباين في المواقف من العولمة كظاهرة ذات بعد حضاري شامل وواسع، يمكن الانطلاق نحو دراسة علاقة الشباب بالعولمة كظاهرة سوسيو- ثقافية تفرض نفسها انطلاقا من دور كل عنصر في تفعيل قيم المجتمع العالمي حاضرا ومستقبلا. وايضا تحديد شكل العلاقة بين الشباب كمفهوم اجتماعي والعولمة كبعد حضاري.
العولمة الثقافية وتحديات الشباب
إذا كانت العولمة بمفهومها الواسع هي الاساس الشامل الذي سوف يحدد شكل النظام العالمي الجديد في القرن الحادي والعشرين، فان تداعيات هذا التأثير تقع بالدرجة الاولى على شعوب العالم الثالث، أي المجتمعات النامية. ولعل أبرز نتائج العولمة الثقافية هي الثورة الاعلامية المتمثلة بشبكة الانترنيت والقنوات الفضائية التي تروج للثقافة الغربية، وتدعو الى انماط جديدة للحياة، وزرع القيم والافكار الغربية في المجتمعات التي لا تنتمي الى عالم الغرب، والترويج لثقافة الاستهلاك. وسهلت هذه الثورة الاعلامية على الغرب الاختراق الثقافي للمجتمعات النامية او التي مازالت تحاول البحث عن طريق يحافظ على خصوصيتها الوطنية، من خلال السيطرة على وسائل الاتصال وقنوات الاعلام المختلفة، وتأثر وسائل الاعلام في المجتمعات الناشئة بمثيلاتها الغربية ومحاولة تقليدها، مما ادى الى طمس الهوية الثقافية، جزئيا، لهذه الشعوب ومحاولة طمس معالم هويتها من خلال بث الشبهات والمغريات، واشاعة الانماط السلوكية والمفاهيم الغربية على ثقافة هذه الشعوب.
ان العولمة باعتبارها نهجا متكاملا قد تؤدي بهذا المفهوم الى ذوبان الهوية ومكوناتها الاهلية التي تتمثل في اركانها الاربعة، الدين، واللغة، والتاريخ، والبيئة الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية التي تعيشها هذه الهوية. فالعولمة الثقافية كأنموذج للثقافة الواحدة تشكل خطرا على الهويات الوطنية لهذه الشعوب، وبخاصة في ظل ضعف التحصينات الداخلية، والانفتاح بلا وعي، في مجال الاعلام على وجه الخصوص، بما يقود الى زرع القيم والافكار المعبرّة عن القوى المسيطرة في وعي الاخرين وبخاصةً في فئات الشباب باتجاه فرض نمط ثقافي، وهيمنة ثقافية وحضارية تنتجها مصالح الاقوياء.
وتستثمر العولمة حالات الاحباط واليأس التي تلازم الشباب في مجتمعات العالم الثالث من الانظمة السلطوية وعجزها عن تلبية طموحاتهم لدفع هؤلاء تدريجيا نحو تبني قشور الثقافة الغربية واتباع انماط السلوك والمفاهيم الدخيلة على ثقافته الوطنية. وفي ظل هذا المفهوم تصبح اللغة الأم التي هي وعاء الثقافة الوطنية لغة هامشية وعنوانا ل “ثقافة متخلفة”، ويجري التركيز بدلا منها على اللغات الاجنبية ولاسيما الانكليزية. ويتحول التاريخ الوطني الذي يشكل اهم مدخلات ثقافة الامة وهويتها ” عدوا للتقدم والعلم ” وهذا يعمّق الهوّة بين ماضي الامة وحاضرها فيغدو المستقبل مشوشا، مضطربا، في قطيعة تفصل أجيال الشباب في هذه المجتمعات عن جذورها الاصلية، فيخلق لديها نوعا من الاغتراب عن الذات القومية او الوطنية.
كما ان ضعف التعليم الوطني او رداءته، وخصخصة التعليم، واقتصاره على فئات مقتدرة في المجتمع، والبطالة، وعدم تكافؤ الفرص، وانعدام التوزيع العادل للثروة في المجتمع كلها عوامل تخلق اغترابا لدى الشباب يدفع به بعيدا عن التناغم مع وطنه ومجتمعه، فيتطلع نحو عوالم أكثر جذبا واستهواءا، فتصبح الهجرة نحو الغرب، الذي يمثل الفردوس الموعود في الوعي المأزوم، هي اقصى ما يتطلع اليه الشباب الواعد والمتعلم. وهكذا تتحول هجرة العقول والكفاءات في المجتمعات النامية الى ظاهرة مستديمة تستنزف طاقات هذه المجتمعات ومواردها البشرية المنتجة.
وفي ظل التدفق الاعلامي والثقافي الغربي المستمر يصبح الشباب المتعولم مدفوعا بدافعي “اللذة والمتعة” كما تبشر به ثقافة العولمة، و”السيطرة والغلبة” من خلال قوة المعرفة وقوة المال وقوة التكنولوجيا. وبانخراطهم المتزايد في العولمة يتبنى الشباب انماطا سلوكية غير سوية مثل الادمان على الانترنيت والعيش في الواقع الافتراضي (العيش على شاشة الانترنيت) الذي سيزاحم، او يكون بديلا بالنسبة لهم عن الواقع الفعلي. كذلك هو شأن العولمة ورموزها وابطالها، وقيمها وما تسعى الى انجازه من تنميط كوني للشباب.
ولا تقتصر عمليات التنميط التي تقوم بها العولمة واستفرادها بالشباب على الهوية والانتماء والقيم، وتغريبهم عن انتماءاتهم المجتمعية كي تستبدل بها صناعة المستقبل كهوية للشباب والانتماء الى العالم او الى اللامكان، بل تسربت الى علاقة الشباب بالأسرة والسلطات المرجعية التقليدية، التي بدأت تشهد تحولات متسارعة في هذه العلاقة في ظل الضخ الاعلامي اليومي في عالم مفتوح. اذ بدأت هناك بوادر تحدٍ جدّي في المرجعيات. فلم يعد الشباب في الكثير من الاحيان يتخذ من الكبار وخبرتهم وحكمتهم مرجعا موجها لحياته وتوجهاتها المستقبلية، اذ حلّت محلهم مرجعية الشبكة – الانترنيت.
ومع الاعتراف بجدية التحديات التي تواجه شباب المجتمعات النامية لاسيما من ظاهرة العولمة، والثقافية منها تحديدا، الا ان الامر الجوهري هنا هو كيف يمكن الحد من التأثيرات الضارة لهذه الظاهرة الكونية، وكيف يمكن توجيه بعض مظاهرها الوجهة الصحيحة للاستفادة منها، واستثمار العلم والمعرفة لدى الشباب وتوظيفها باتجاه التفاعل مع الاخر المختلف، فبدلا من ان يصبح الشباب متلقيا فقط يتحول الى طرف فاعل، محاورا ومناقشا بهدف التأسيس لقاعدة مرجعية للحوار اساسه الفهم المشترك، والايمان بثقافة الحوار، وتجديد الخطاب الفكري والديني .