اللجنة القانونية

المحاكم الرقمية وحق المحاكمة العادلة: هل تهدد الخوارزميات العدالة؟

د. أثير هلال الدليمي

دكتوراه في القانون الدولي العام

متخصص في مكافحة الجرائم السيبرانية الدولية

عضو اللجنة القانونية، المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

 

مع التطور المتسارع للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لم تعد الابتكارات مقتصرة على مجالات الطب أو الصناعة أو التعليم، بل امتد تأثيرها إلى عالم القضاء، حيث ظهرت فكرة “المحاكم الآلية او الرقمية” التي تعتمد على الخوارزميات في اتخاذ القرارات أو المساعدة في إصدار الأحكام، هذه الظاهرة تثير جدلاً واسعاً بين مؤيدين يرون فيها ثورة في سرعة وكفاءة العدالة، ومعارضين يحذرون من مخاطر تهدد جوهر حق الإنسان في المحاكمة العادلة.

تعتمد المحاكم الآلية على أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل كم هائل من البيانات القضائية، دراسة السوابق، مراجعة الأدلة الرقمية، وحتى التنبؤ بمآلات القضايا بناءً على أنماط إحصائية.

ففي بعض الدول، بدأت هذه الأنظمة تُستخدم كأدوات مساعدة للقضاة لتقليل التراكم القضائي وتسريع البت في القضايا، لكن هذا التطور يطرح أسئلة جوهرية حول مدى قدرة الخوارزميات على فهم التعقيدات الإنسانية التي لا يمكن اختزالها في بيانات أو معادلات رياضية.

إن من أبرز المخاطر التي تثير القلق هي إمكانية تحيز الخوارزميات، فهذه الأنظمة لا تعمل في فراغ، بل تُبنى على بيانات سابقة قد تعكس تحيزات اجتماعية أو سياسية أو حتى عرقية، فإذا كانت البيانات التاريخية متأثرة بأحكام غير عادلة، فإن النظام الآلي قد يعيد إنتاج نفس الأنماط من الظلم، ولكن بصورة “مؤتمتة” تبدو محايدة في ظاهرها. كما أن غياب الشفافية في طريقة عمل الخوارزميات يزيد الأمر تعقيداً، إذ قد يجد المتقاضون صعوبة في فهم الأساس الذي استندت إليه الآلة في إصدار قرار ما، وهو ما يتعارض مع مبدأ علنية وعدالة الإجراءات القضائية.

هناك أيضاً البعد الإنساني للمحاكمة، إذ إن العدالة ليست مجرد نصوص وقوانين، بل عملية تتضمن التفاعل الإنساني، تقدير الظروف الفردية، وفهم السياقات الاجتماعية والنفسية للمتهمين والضحايا على حد سواء.

ان استبدال أو حتى تقليص دور القاضي البشري لصالح قرار آلي قد يؤدي إلى “تجريد” العدالة من بعدها الإنساني، وجعلها أقرب إلى معادلة جامدة لا تراعي الفوارق الدقيقة بين القضايا.

في المقابل، لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا توفر مزايا مهمة، مثل تقليل زمن البت في القضايا، الحد من الفساد الإداري، وتحقيق قدر من الاتساق في الأحكام، لكن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد التوازن بين الاستفادة من هذه القدرات التقنية وبين الحفاظ على المبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة، وفي مقدمتها الحق في الدفاع، وعلنية الإجراءات، والقدرة على مراجعة القرارات واستئنافها وتمييزها أمام سلطة قضائية بشرية.

وفي الختام ومن رؤيتنا المتواضعة، نرى إن المستقبل القريب سيحسم ما إذا كانت المحاكم الآلية ستصبح أداة مساعدة للقضاء أم بديلة عنه، لكن المؤكد أن أي انتقال نحو الاعتماد الكلي على الخوارزميات دون وضع ضمانات قوية للشفافية والمساءلة قد يحول العدالة من قيمة إنسانية إلى عملية حسابية باردة. وهنا يبرز الدور الحاسم للمشرعين، والقضاة، وخبراء التكنولوجيا في صياغة أطر قانونية وأخلاقية تضمن أن تظل العدالة في خدمة الإنسان، لا أن يصبح الإنسان خاضعاً لحكم الآلة.

نسأل الله لكم وعوائلكم الكريمة الأمن والأمان والسلامة من اجراءات المحاكم التقليدية والرقمية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى