لجنة التربية و التعليم العالي و البحث العلمي

حينما تصمت الكلمات …. وتتكلم ساعة الصفر

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري

عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

عرفتُ “ساعة الصفر” لأول مرة في أواخر الثمانينات، حين كنت طالبًا في الكلية العسكرية الأولى في بغداد. كانت الكلمة تُهمس بها في قاعات المحاضرات، وتُردَّد بخشوعٍ في ممرات التدريب، وتُكتب على خرائط العمليات الحربية بخط أحمر قانٍ لا يقبل التعديل. لم تكن مجرد عبارة، بل كانت بمثابة قسَم صامت بأن ما قبلها لا يشبه ما بعدها. لحظة يُعاد فيها ترتيب العالم وفق منطق القوة، والسرعة، والقرار الحاسم.

مرت السنوات، وتوسّعت دراساتي في التاريخ والجغرافيا السياسية، لأدرك أن “ساعة الصفر” ليست اختراعًا عسكريًا فقط، بل نقطة فارقة في مسار الأمم والشعوب. إنها اللحظة التي تُدار فيها عجلة الأحداث الكبرى، حيث تُختصر قرونٌ من التحولات في دقائق معدودة.

ما المقصود بساعة الصفر؟

“ساعة الصفر” (Zero Hour) اصطلاح يُشير إلى لحظة التنفيذ الفعلية لخطة طال إعدادها سرًا. قد تكون هجومًا عسكريًا، أو بداية انقلاب، أو تحركًا سياسيًا داخليًا، أو عملية استخباراتية معقدة.

الصفر هنا لا يمثل فراغًا، بل لحظة التفجّر الزمني، حيث يتحوّل الانتظار إلى فعل، والتخطيط إلى اصطدام، والهمس إلى إعلان. إنها لحظة تَكثُر فيها الأنفاس القلقة، وتتراجع فيها الخيارات، فلا مجال بعدها للعودة.

من يُحدد ساعة الصفر؟

يُحدّد ساعة الصفر أولئك الذين يمسكون بمفاتيح القرار. ففي الحروب، تحددها القيادة العليا وفق اعتبارات دقيقة: الطقس، التموضع، المفاجأة، والتحالفات.

وفي الثورات والانقلابات، قد تتحدد في جلسة مغلقة بين أطراف سرّية تمضي شهورًا في التنسيق، ثم تختار اللحظة الحاسمة بناءً على مؤشرٍ إقليمي، أو شرارة داخلية.

أحيانًا، تُؤجل ساعة الصفر مرارًا، خشية فشل أو انكشاف. وأحيانًا تُستعجل، إن بدا أن فرصة لا تُعوّض ظهرت فجأة. لكن في كل الأحوال، هي لحظة تتطلب حسمًا حديديًا، لا يعرف التردد.

من يعلم بساعة الصفر؟

في عالم الأسرار، المعلومة تُساوي العمر. لذا لا يعلم بساعة الصفر إلا قلّة من أهل الثقة والنفوذ. تُقسم المعلومات إلى مستويات، ويُبلَّغ كل طرف بما يخصه فقط، وفي الوقت المحدد له.

في العمليات الكبيرة:

  • يعلم المخطّطون الأساسيون بالموعد مسبقًا.
  • يُبلغ القادة التنفيذيون قرب التنفيذ بساعات.
  • يتلقى الجنود أو المنفذون الإشارة في اللحظة الأخيرة.

وقد لا يُذكر مصطلح “ساعة الصفر” صراحة في أي وثيقة، بل يُرمز لها بشيفرات خاصة، أو إشارات محددة، تفهمها الدوائر المغلقة دون سواها.

هل هناك رقم “صفر” في الساعة؟

تقنيًا، لا تحمل الساعات التقليدية رقمًا اسمه “صفر”، لكنها تبدأ من 00:00، أي الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل.

أما عسكريًا، فتعتمد الخطط على رموز مثل:

  • H-Hour = ساعة التنفيذ
  • H+1 = بعد ساعة من الانطلاق
  • D-Day = يوم الانطلاق

في هذه الأنظمة، يُصبح “الصفر” لحظة القياس التي يُنسب إليها كل ما قبل وما بعد. هي اللحظة المحورية التي يُبنى عليها الخط الزمني للعملية.

ساعة الصفر في مشاهد التاريخ

في التاريخ الحديث، تتعدد مشاهد ساعة الصفر:

  • في أكتوبر 1973، دقّت ساعة الصفر في تمام الثانية ظهرًا. ما بدا كزمن عادي، كان في الحقيقة لحظة قلبت موازين الشرق الأوسط.
  • في فتح مكة، لم تُعلن الساعة، لكن اللحظة كانت محسوبة بدقّة النبوة. إنها ساعة بلا طبول، لكن نتائجها كانت أوسع من كل الحروب.
  • في انقلابات أوروبا وأمريكا اللاتينية، كانت ساعة الصفر تُضبط أحيانًا برسالة إذاعية، أو بندقية تُطلق في ساحة عامة، أو حتى قصيدة مشفّرة في صحيفة.

في كل حالة، بقيت ساعة الصفر رمزًا للانتقال من الظل إلى الضوء، من النوايا إلى الأحداث.

فهل حانت ساعة الصفر؟ أم ما زال هناك متّسع من الوقت؟

هذا هو السؤال الذي يجب أن يُطرحه اليوم على طاولات المؤرخين، كما يُطرح في غرف صانعي القرار.

إن أمتنا، بما تمر به من أزمات متراكبة، وتحديات وجودية، ومخططات ظاهرها الإصلاح وباطنها التفكيك، تبدو كأنها على أعتاب ساعةٍ لا بد أن تُدق.

لكن السؤال الأهم:

هل نحن من سيُطلقها بإرادتنا، بعد إعداد محكم؟

أم أنها ستُفرض علينا فجأة، وقد تأخرنا في الاستعداد؟

إن ساعة الصفر لا تنتظر المترددين، ولا ترحم المتأخرين.

ولأن التاريخ لا يُكتب بالقلم فقط، بل بالأفعال، فإن من يُحسن فهم هذه الساعة، ويُتقن اختيار توقيتها، هو من يُعيد رسم الخريطة.

فإما أن نكون في قلب المعادلة، أو أن نُقصى إلى هامش الأحداث، نشاهد فقط ولا نُشارك.

وساعتها… لن تكون ساعة الصفر، بل ساعة الندم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى