لجنة التربية و التعليم العالي و البحث العلمي

رؤية للحلول الجذرية: سبيل النهوض بالجامعات العراقية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري

عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

من موقعي كأكاديمي عايشَ مسيرة التعليم العالي لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، تقلّدت خلالها مناصب أكاديمية متعددة، كأستاذ ورئيس قسم وعميد كلية ورئيس جامعة سابق (وإن لم يكن ذلك داخل العراق، لكنه ضمن بيئة أكاديمية شبيهة)، أجد لزامًا عليّ اليوم أن أُسهم بما أملك من خبرة وتجربة ورؤية في معالجة ما آلت إليه أوضاع جامعاتنا العراقية.

لقد بات من الجلي أن الجامعات العراقية، وهي صروح عريقة لطالما كانت منارات علمية في المنطقة، تعيش اليوم مرحلة صعبة من التراجع والتهميش، كان أبرز مؤشراتها دخول عدد من جامعاتنا، وللأسف، ضمن “قائمة العَلَم الأحمر” الدولية. وهذا التراجع ليس طارئًا أو عابرًا، بل هو نتاج تراكمي طويل من الإهمال، والتسييس، وغياب الرؤية الاستراتيجية، وانعدام البيئة الحاضنة للعلم والابتكار.

لقد آن الأوان لأن نقف وقفة جادة، لا للبكاء على الأطلال، بل لوضع خارطة طريق إصلاحية واقعية وشاملة، تنهض بالجامعات العراقية ومؤسسات وزارة التعليم العالي، وتستعيد للعلم والعقل العراقي مكانتهما المستحقة.

القضية الأولى: الاستقلالية الأكاديمية والإدارية الكاملة

إن جوهر أي جامعة حقيقية يكمن في استقلاليتها؛ فلا علم بدون حرية، ولا جامعة بدون استقلال.

  1. 1. فك الارتباط السياسي التام

الجامعات لا تُدار بالولاءات السياسية، بل بالكفاءة والمعايير الأكاديمية. يجب إصدار تشريعات واضحة ونافذة تحظر أي تدخل سياسي أو حزبي في تعيين رؤساء الجامعات أو عمداء الكليات أو رؤساء الأقسام. يجب أن تُلغى المحاصصة من قاموس التعليم العالي، ويُعتمد فقط على معايير الكفاءة، الإنجاز الأكاديمي، والرؤية المؤسسية.

  1. 2. إنشاء مجالس أمناء مستقلة

ينبغي تشكيل مجالس أمناء مستقلة لكل جامعة، تضم خبراء وأكاديميين مرموقين من داخل العراق وخارجه. هذه المجالس، وليس الوزارة، هي من تتولى وضع السياسات الاستراتيجية، وتقييم الأداء المؤسسي، وتعيين القيادات الأكاديمية، وفق أسس مهنية صارمة، وبشفافية تامة.

  1. 3. ضمان الحريات الأكاديمية

حرية الفكر والبحث والتعبير هي قلب الجامعة. يجب سنّ قوانين تحمي أعضاء هيئة التدريس والطلاب من أي ملاحقة أو تكميم بسبب آرائهم العلمية أو نشاطاتهم الفكرية داخل الحرم الجامعي. بيئة الإبداع لا تُنتَج بالخوف.

القضية الثانية: إعادة بناء منظومة الجودة والنزاهة العلمية

الثقة العالمية في مخرجات التعليم العراقي تراجعت بشكل مؤلم. إعادة بنائها تبدأ من الداخل:

  1. 1. هيئات اعتماد أكاديمي مستقلة

نحتاج إلى إنشاء هيئات وطنية ودولية مستقلة للاعتماد الأكاديمي تُطبّق معايير عالمية صارمة، مع منحها الصلاحية الكاملة لسحب الاعتماد من أي برنامج أو جامعة لا تلتزم بالمعايير، دون استثناءات أو مجاملات.

  1. 2. حرب شاملة على الفساد الأكاديمي

السرقات العلمية، وشراء الشهادات، والغش المنظم، والتساهل في الدرجات – كلها آفات يجب استئصالها. يجب تأسيس مفوضية نزاهة أكاديمية مستقلة، تتولى التحقيق، والمحاسبة، ونشر النتائج بشفافية.

  1. 3. تحديث المناهج وربطها بسوق العمل

المناهج الحالية في كثير من التخصصات لا تزال تقليدية، تعتمد على الحفظ والتلقين. المطلوب هو إعادة صياغة البرامج الأكاديمية لتكون مبنية على التفكير النقدي، المشاريع التطبيقية، والتفاعل مع متطلبات السوق الحديثة.

  1. 4. دعم البحث العلمي الحقيقي

يجب تخصيص ميزانيات وطنية مستقلة وشفافة للبحث العلمي، وربطها مباشرة باحتياجات العراق التنموية (الصحة، الطاقة، الأمن الغذائي، البيئة، الاقتصاد). دعم الباحثين لا يكون فقط ماليًا، بل أيضًا بتوفير البنية التحتية، وزيادة النشر في المجلات الرصينة.

القضية الثالثة استعادة وجذب وتطوير الكفاءات

العقل العراقي اليوم مبعثر في أنحاء العالم. استعادة الجامعات تبدأ باستعادة العقول:

  1. 1. برامج جادة لاستقطاب الكفاءات المهاجرة

يجب أن تُطلق الحكومة برامج حقيقية، تتجاوز الشعارات، لجذب الكفاءات العراقية بالخارج، من خلال حوافز مادية، واستقرار وظيفي، وضمان حرية البحث والعمل، ومنحهم دورًا في القيادة الجامعية والتخطيط الاستراتيجي.

  1. 2. التدريب المستمر للأساتذة

تطوير جودة التعليم يبدأ من تطوير المعلم الجامعي. يجب تفعيل برامج تدريب مستمرة، داخل وخارج العراق، في أساليب التعليم الحديثة، وإعداد البحوث، والإشراف الأكاديمي.

  1. 3. التوظيف والترقيات على أساس الجدارة

الانتماء الحزبي أو الاجتماعي يجب ألا يكون بوابة لوظيفة أكاديمية. كل تعيين أو ترقية يجب أن يخضع لمعايير واضحة من النشر العلمي، المشاركة المجتمعية، الإنجاز التدريسي، والتطوير الذاتي.

القضية الرابعة التواصل الدولي والشراكات العالمية

لا توجد جامعة متقدمة تعمل بمعزل عن العالم. يجب أن نخرج من العزلة.

  1. 1. شراكات استراتيجية مع الجامعات العالمية

العراق بحاجة إلى اتفاقيات حقيقية (لا ورقية) مع جامعات مرموقة لإنشاء برامج مشتركة، والإشراف المشترك على الدراسات العليا، والبحث العلمي المشترك.

  1. 2. برامج التبادل الطلابي والأكاديمي

تشجيع سفر الطلاب والأساتذة إلى الخارج، واستضافة طلاب وأساتذة من الخارج في جامعاتنا، سيُحدث نقلة نوعية في الوعي والانفتاح والتطوير.

  1. 3. تحسين التصنيفات العالمية

تحقيق قفزة نوعية في التصنيفات العالمية يتطلب رؤية مؤسساتية تُركّز على النشر الرصين، الاستشهادات العلمية، التنوع الدولي، والابتكار. ويمكن إعداد خطة وطنية لتحسين الترتيب الدولي لجامعات العراق.

دور النخب والكفاءات: قوة التغيير الناعمة

نحن كأكاديميين، وإن كنا لا نملك سلطة تنفيذية، لكننا نملك سلطة الرؤية والتأثير.

  1. 1. صوت الضمير والمسؤولية

علينا أن نكون صوت الضمير الوطني. نسمي الأشياء بأسمائها، نفضح الفساد، وندافع عن الجامعة باعتبارها آخر قلاع العقل.

  1. 2. إعداد أوراق سياسات ومقترحات إصلاحية

بدلًا من الاكتفاء بالنقد، يمكننا إعداد أوراق سياسات تفصيلية، ورفعها للجهات المعنية، أو نشرها عبر منابر مستقلة ومؤثرة.

  1. 3. بناء وعي أكاديمي وأخلاقي جديد

علينا أن نُربي جيلًا جديدًا من الأكاديميين يؤمن بالنزاهة، الجودة، والبحث الحقيقي. أن نكون قدوة في أخلاق البحث، والصدق الأكاديمي، والالتزام المهني.

  1. 4. العمل من الداخل وعدم الاستسلام

حتى في أصعب الظروف، يجب أن نعمل من مواقعنا الصغيرة. أن نحافظ على معاييرنا، أن نعلّم ونبحث بإخلاص، ألا نُلوّث المؤسسة الجامعية بواقع خارجي فاسد.

واخيراً أقول آن أوان الفعل لا القول

الجامعة ليست بناية، وليست شهادة، وليست مناصب. الجامعة فكرة، ورسالة، وقيادة للعقل، والمجتمع.

إن ما نحتاجه ليس “إصلاحًا تجميليًا”، بل تحولًا جذريًا يعيد تعريف هوية الجامعة العراقية، ويمنحها القدرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.

هذه الرؤية ليست مثالية أو حالمة، بل قابلة للتطبيق، إذا وُجدت الإرادة، والقيادة، والتحالف بين الدولة والنخب.

فلنعمل معًا، كل من موقعه، لإعادة المجد إلى التعليم العالي العراقي، لأن في ذلك مجدًا للعراق بأسره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى