لا تُسقِط النظام قبل أن تُسقِط ما في نفسك

مقال في دعوة لإصلاح الإنسان قبل الثورة على الحكم
بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي
المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
بين كل هذا الضجيج حول “إسقاط النظام”، وبين هتافات الشوارع ومجادلات المنابر الرقمية، تضيع أحيانًا الحقيقة التي لا يريد الكثيرون سماعها:
لن يتغيّر شيءٌ في الدولة… ما لم يتغيّر شيءٌ في الإنسان.
إننا نعيش اليوم زمنًا يُغري الناس بالشعارات الكبيرة، ويهمل القيم البسيطة.
زمنًا يتهم فيه الناس أنظمتهم بالفساد والطغيان — وربما بحق — لكنهم لا يتوقفون لحظة ليسألوا أنفسهم:
“هل أنا بريء مما أشتكي منه؟ أم أنني نسخة أصغر من النظام الذي ألعنه؟”
من قلب التجربة: حكاية عشرين عامًا من الحقد
سأبدأ من نفسي.
منذ أكثر من عشرين عامًا، انقلب عليّ رجل، لا لشيء… إلا لأنه لم يحتمل نجاحي.
لم نختلف على مال، ولا على أرض، ولا على عرض، ولا على دين.
كان خلافًا واحدًا فقط: الحسد.
ذلك الداء الذي حين يسكن النفوس، يعمي البصر، ويُعمي البصيرة.
لم يترك هذا الرجل بابًا إلا طرقه: تقارير كاذبة، تهمٌ ملفقة، طعنٌ في السمعة…
وكأنما جعل مهمته في الحياة أن يؤذيني.
ومع ذلك، صبرت.
فقد عزّاني أن من هو خيرٌ مني، محمد ﷺ، اتُّهم بالسحر والكذب والشعر، وقيل عنه مجنون!
بل إن رب العالمين نفسه اتُّهِم بالباطل، فقالوا: “عيسى هو الله”، وقالوا: “ثالث ثلاثة”، تعالى الله عما يقولون.
فهل أستغرب من افتراء عبدٍ ضعيفٍ عليّ، وأنا أرى الكذب يُلصَق بالأنبياء وبربّهم؟
كلا… بل تعلمت الصبر، والصفح، وأن لا أردّ على الحقد بالحقد، بل أترك الأمر لله.
إسقاط النظام؟ أم إسقاط الأخلاق؟
كثيرون اليوم يصرخون: “غيّروا النظام!”
ولكن قبل أن تغيّروا الحاكم، هل غيّرتم أنفسكم؟
قبل أن تطالبوا بالعدالة، هل تعاملون بعضكم بعدل؟
قبل أن تلعنوا الفساد، هل نظفتم أيديكم من الرشوة، والتزوير، والغيبة، والفتن؟
“كما تكونوا يُولّى عليكم” — هذه قاعدة ليست سياسية، بل كونية.
فإن كنّا شعبًا حاقدًا، أنانيًا، جاهلًا، مضلِّلًا… فلن يولّى علينا إلا من يشبهنا.
وإن كنّا شعبًا نزيهًا، راقيًا، رحيمًا… فسيأتينا من يحمل تلك القيم.
أيّها الثائر… قف مع نفسك أولًا
الثورة الحقيقية ليست التي تُسقط الحاكم، بل التي تُسقط الكِبر من قلبك.
ليست التي تُغيّر العلم، بل التي تُغيّر العقل.
إن كثيرًا ممن يطالبون بإسقاط الأنظمة، إنما يفعلون ذلك ليرثوا الفساد، لا ليزيلوه.
يريدون إسقاط الدولة، لا من أجل الحق، بل لينهبوا باسم “الشرعية”، ويبطشوا باسم “الحرية”.
فأي تغيير هذا؟
إصلاح النفس… هو أعظم ثورة
نحن لا نحتاج لانقلاب…
نحتاج إلى يقظة ضمير.
نحتاج إلى أن ينظر كل فرد في المرآة، ويسأل نفسه:
“هل لو أصبحتُ حاكمًا، سأكون أفضل ممّن أحكموا قبلي؟ أم أنني فقط أتوق للكرسي، لا للعدل؟”
من يُصلح نفسه، يُصلح أمّته.
ومن يُطهّر قلبه من الحقد، ينشر السلام من دون أن يهتف له أحد.
الإصلاح يبدأ من قلبٍ صادق، ويدٍ نظيفة، ولسانٍ لا يكذب.
قبل فوات الأوان…
إن لم نبدأ بإصلاح أنفسنا، فلسنا مؤهلين لإصلاح شيء.
والثورة التي لا تبدأ من الأخلاق، تنتهي بالدمار.
فلا تُسقطوا النظام قبل أن تُسقطوا الرذيلة من أنفسكم.
ولا تطلبوا عدل السماء، وأنتم تزرعون الظلم في الأرض.
عودوا إلى الله… تجدوا أنفسكم قد رجعتم إلى كل شيء. والعاقل والمنصف يفهم والله علام الغيوب.