لجنة التربية و التعليم العالي و البحث العلمي

أحداث الشغب في الولايات المتحدة: انفجار الغضب المكبوت في مجتمع التناقضات

بقلم: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري

عضو لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

حين تتكرر مشاهد الشغب والعنف في مدنٍ أمريكية متعددة، فإننا لا نقرأها كأحداث معزولة أو لحظات انفعالية عابرة، بل كصوت غاضب عميق، ينهض من بين طبقات التاريخ المثقل بالتمييز، والعجز البنيوي في تحقيق العدالة الاجتماعية. هذه الاحتجاجات ليست تمرّدًا على القانون بقدر ما هي صرخة ضد نظام قانوني فقد مصداقيته في عيون فئات واسعة من المجتمع، خصوصًا في الأحياء المهمّشة والمجتمعات السوداء واللاتينية.

إن ما يحدث ليس وليد الصدفة، بل نتيجة تراكم طويل لمظالم لم تجد طريقها إلى الإنصاف. منذ نشوء الولايات المتحدة، وهي تصارع تناقضاتها بين الخطاب الليبرالي والواقع العنصري، بين المساواة النظرية والتمييز العملي. العبودية، الفصل العنصري، القوانين الجائرة، والعنف البوليسي المتكرر، جميعها ليست صفحات من الماضي، بل مظاهر حية تُعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة.

لقد لعبت الأجهزة الأمنية، وبالأخص الشرطة، دورًا محوريًا في تأجيج هذه الفجوة. ممارساتها التي تميل إلى العنف المفرط، لا سيما ضد الأقليات، أكدت ما يشعر به كثيرون: أن هذه المؤسسة لا تمثلهم، بل تعمل ضدهم. وهذا الشعور بالاغتراب عن النظام، حين يترافق مع صمت حكومي وتواطؤ قضائي، يُنتج انفجارًا شعبيًا قد يتخذ أشكالًا عشوائية ومؤلمة، لكنه يبقى في جوهره فعل احتجاج، لا جريمة.

في خضم هذه الأزمة، يبرز دور الإعلام، الذي لم يعد ناقلًا محايدًا، بل فاعلًا مباشرًا في تشكيل الرأي العام، وتوجيه الغضب أو تضليله. مقاطع الفيديو التي تنتشر في دقائق، قادرة على إشعال شارع، أو فضح جريمة، أو حتى هدم سردية دولة بكاملها. إن ما يسمى بـ”الميديا البديلة”، أخرج الاحتجاج من قفص التنظيمات التقليدية إلى ساحة الوعي الفردي الغاضب، والمشترك إلكترونيًا.

السؤال المشروع الذي يتردد في كل نقاش هو: لماذا يلجأ الناس إلى الشغب لا السلم؟ والإجابة الأكثر صدقًا تأتي ممن جرّبوا السلم مرارًا، دون جدوى. حين تُقابل المسيرات باللامبالاة، وحين تُدفن الملفات دون محاسبة، وحين يُقتل مواطن دون أن يُحاسب قاتله، يصبح العنف – وإن كان مرفوضًا – تعبيرًا عن حالة من اليأس الجمعي.

لكن أي أمل في التغيير لا يمكن أن يُبنى على الفوضى وحدها. ما تحتاجه أمريكا اليوم ليس تعزيز القبضة الأمنية، بل مصالحة حقيقية مع تاريخها، وإرادة سياسية لإصلاح جذري يبدأ من مناهج التعليم ولا ينتهي بإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية. فالمشكلة ليست في الأفراد بقدر ما هي في النظام الذي أنتج هذا التفاوت الاجتماعي والعنصري البنيوي.

إن ما نشهده اليوم في شوارع المدن الأمريكية هو تحذير، لا لأمريكا وحدها، بل للعالم كله: إن المجتمعات التي تغفل عن تحقيق العدالة، ولو امتلكت أعظم دساتير العالم، ستظل هشة، وقابلة للاشتعال في أي لحظة.

ولعلّ في هذا دروسًا عميقة لبلداننا نحن أيضًا، حيث ما زالت العدالة الاجتماعية حلمًا مؤجلًا، والمواطنة مطلبًا لا واقعًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى