الدور القيادي للذهب في تحولات الاقتصاد العالمي

إعداد: د. صلاح عبد الرحمن الطالب – خبير اقتصادي ومالي
في كل منعطف تاريخي يشهد اهتزازات كبرى في السياسة والاقتصاد، يعود الذهب ليتصدر المشهد، وقد رافق الذهب البشرية منذ آلاف السنين ,واليوم يقف عند مفترق طريق تاريخي جديد، بعد أن قفز فوق حاجز 3890 دولار للأوقية البالغ وزنها 31.1 غرام، فيمستويات غير مسبوقة تثير أسئلة عميقة حول واقع ومستقبل الاقتصاد العالمي في ظل الوضع الراهن السائد وفي ظل فقدان الثقة في الدولار الأميركي، اضافة الى السياسات النقدية للبنوك المركزية في العديد من دول العالم كالصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب افريقيا.
لاشك ان المستثمرين في الذهب اللذين يقودون الحركة السعرية للذهب يركزون على عاملين رئيسيين هما توقعات خفض أسعار الفائدة الأمريكية بشكل أكبر مع تباطؤ الاقتصاد الامريكي واحتمالية دخوله في ركود ، وتصاعد الخطاب السياسي ضد استقلالية بنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي ، ما يعزز المخاوف حول استقرار سعر صرف الدولار وسوق السندات الأمريكية التي بدأت تشهد ارتباكات كبيرة وادت لعزوف الكثير من المستثمرين على مستوى دول او مؤسسات بالاستثمار في سندات الخزانة الامريكية وتوجهوا للبحث عن ملاذات امنة بعيدا عن الدولار وسندات الخزانة الامريكية بحثا عن الامان الاستثماري و للحفاظ على القيمة الحقيقية لثرواتهم .
ان الارتفاع القياسي لأسعار الذهب والفضة ليس مجرد رقم، بل هو مرآة تعكس أزمة ثقة عالمية متفاقمة، وتغيرات استراتيجية كبرى في موازين القوى المالية فالذهب اليوم ليس مجرد سلعة أو أصل استثماري، بل أصبح عنواناً لمرحلة جديدة من التاريخ الاقتصادي، حيث تتداخل السياسة مع المال، والمخاوف مع الطموحات، والملاذات الآمنة مع رهانات المستقبل.
وتسعى الصين إلى أن تصبح الحارس الأمين لاحتياطيات الذهب السيادية الأجنبية، في محاولة لتعزيز
مكانتها في اسواق المعادن الثمينة عالميًا،. حيث يقوم بنك الشعب الصيني باستخدام بورصة شنغهاي
للذهب لاستقطاب البنوك المركزية في الدول الصديقة لشراء الذهب وتخزينه داخل الصين ، وهي خطوة ساهمت بشكل كبير في الارتفاعات القياسية الأخيرة للمعدن الأصفر.
رغم أن هذه الخطوة تمثل نقلة إضافية في مساعي الصين لبناء مكانتها في تجارة الذهب العالمية، وتعد خدمات الحفظ التي تضمن سلامة الأصول نيابة عن العملاء , عنصرًا أساسيًا في أي مركز عالمي للذهب ترفع من مصداقية.
لماذا تشهد اسعار الذهب ارتفاعات متتالية؟
عند قراءة المشهد الراهن، يتضح أمامنا عدة عوامل مترابطة تدفع أسعار الذهب إلى ارتفاعات قياسية.
1 – سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي
بعد سنوات من تشديد السياسة النقدية لمواجهة التضخم والتي ادت الى ارتفاعات متتالية في اسعار الفائدة الامريكية لأربعة عشر مرة منذ بداية جائحة كورونا حتى منتصف عام 2024 بلفت فيها اسعار الفائدة على الدولار الامريكي وكل العملات المرتبطة به اعلى مستوى لها في عقدين من الزمن، بدأ الفدرالي الأميركي دورة جديدة من خفض الفائدة، في محاولة لإنقاذ اقتصاد يتباطأ بوضوح. ومع كل خفض للفائدة، يفقد الدولار وسندات الخزانة الامريكية جزءاً من جاذبيتها، بينما تكتسب اسعار الذهب المزيد من الارتفاعات.
2 – ضعف قوة الدولار وتراجع دوره في الاقتصاد العالمي
المؤشر الذي يقيس قوة الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية واصل التراجع، ما جعل الذهب – المقوم بالدولار – أقل كلفة لحائزي العملات الأخرى. وكلما تراجع الدولار، كلما ارتفعت جاذبية المعدن الأصفر كبديل موثوق.
3 – موقف الرئيس الامريكي دونالد ترامب من سياسة الفدرالي الامريكي
منذ تولي الرئيس الامريكي مقاليد الحكم في ولايته الثانية في نهاية عام 2024 مارس مزيد من الضغوط على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، كما هدد أكثر من مرة بإقالة رئيسه جيروم باول، وصولاً إلى احتمالات إغلاق حكومي يلوح في الأفق. هذه الأزمات السياسية تقوض الثقة في المؤسسات الأميركية، وتفتح الباب واسعاً أمام الذهب ليكون الملاذ الأكثر أماناً في سياق منطق التاريخ باعتبار الذهب هو عملة الازمات.
4- المخاطر الجيوسياسية العالمية
من استمرار الحرب في أوكرانيا، إلى الحرب في غزة، مروراً بتوترات شرق آسيا والخليج، يزداد الطلب على الأصول الآمنة. الذهب، تاريخياً، هو الخيار الأول في مثل هذه الأزمات. وزاد شراء البنوك المركزية للذهب بشكل ملحوظ بعد أن جمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها احتياطيات روسيا من النقد الأجنبي في عام 2022 عقب غزو أوكرانيا.
5 – طلب البنوك المركزية
في ظل عالم يتجه نحو تعددية الأقطاب، تتجه البنوك المركزية، خصوصاً في آسيا والشرق الأوسط، إلى زيادة احتياطياتها من الذهب. ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل أيضاً لأسباب سياسية واستراتيجية، بهدف تقليل الاعتماد على الدولار والحد من تأثير العقوبات الأميركية. وشكل الطلب المتزايد من البنوك المركزية دعامة رئيسية لصعود الذهب إلى مستويات قياسية، واصل بنك الشعب الصيني شراء الذهب لعشرة أشهر متتالية وتعد الصين أكبرمشتري للذهب في العالم خلال السنوات الثلاث الماضية خاصة بعد تجميد الولايات المتجدة الامريكية ارصدة روسيا بسبب الحرب الاوكرانية.
* العلاقة بين الذهب والفضة
صحيح أن الذهب يتصدر العناوين، لكن الفضة تتحرك على خطاه. فقد تجاوزت أسعارها 47 دولاراً للأوقية في اعلى صعود لها منذ أكثر حوالي عقدين من الزمن ، مدفوعة بارتفاع الطلب الاستثماري والصناعي في آن واحد.
على عكس الذهب، الذي يرتبط أساساً بالملاذات الآمنة، فإن الفضة تحمل وجهاً مزدوجاً:
· وجه استثماري يجعلها تتحرك مع الذهب.
· وجه صناعي يرتبط بقطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة، كالخلايا الشمسية والإلكترونيات الدقيقة.
هذا ما يجعل الفضة أكثر تقلباً من الذهب، لكنها في الوقت نفسه قادرة على تحقيق قفزات أكبر في فترات قصيرة.
*اللاعب الخفي وراء ارتفاع الذهب
ما يحدث اليوم في سوق الذهب لا يمكن فهمه من دون النظر إلى دور البنوك المركزية. خلال الأشهر الماضية، أعلنت عدة بنوك مركزية غير الغربية عن إضافة عشرات الأطنان من الذهب إلى احتياطياتها.
هذه الخطوة ليست مجرد استثمار، بل هي رسالة سياسية تقول بوضوح: لم يعد الدولار وحده سيد الموقف.”
البنوك المركزية في الصين، روسيا، الهند، تركيا، وحتى بعض دول الخليج، تسعى إلى تعزيز استقلالها المالي وتقليل تعرضها لهيمنة الدولار، خاصة في ظل سياسة العقوبات الأميركية المتصاعدة..
إضافة الذهب إلى الاحتياطيات الرسمية بهذا الشكل المكثف يجعل الارتفاع الحالي أكثر رسوخاً واستدامة، ويعطي إشارات واضحة للمستثمرين الأفراد والمؤسسات بأن الاتجاه الصاعد لم ينته
كل أزمة كبرى في العالم كانت تقود إلى قفزة في أسعار الذهب:
· في سبعينيات القرن الماضي، بعد انهيار نظام “بريتونوودز” وربط الدولار بالذهب.
· في الأزمة المالية العالمية عام 2008، حينما فقدت الأسواق ثقتها في البنوك الكبرى.
· أثناء جائحة كورونا 2020، مع موجة الطباعة غير المسبوقة للنقود.
في 2025، تتكرر المعادلة: ركود تضخمي يلوح في الأفق، شكوك في السياسة النقدية الأميركية، اضطرابات جيوسياسية، وضعف متزايد في الدولار.ومن المؤكد أن الاتجاه العام لا يزال صاعداً، وأن الذهب يحتفظ بمكانته كأقوى أصل استثماري في هذه المرحلة.
*الرهان الأكثر خطورة
رغم صعودها القوي، تبقى الفضة أكثر حساسية للتقلبات. السبب يعود إلى أن نصف الطلب العالمي عليها يأتي من الاستخدامات الصناعية. أي أن أي تباطؤ في الاقتصاد العالمي قد يضغط عليها، حتى وإن استمر الذهب في الصعود.
لكن هذا لا يمنع أن المستثمرين الذين يبحثون عن أرباح سريعة يرون فيها فرصة ذهبية، خاصة إذا واصل الذهب كسر الحواجز التاريخية. خيارات متنوعة
مع الارتفاعات الحالية، يزداد إقبال المستثمرين الأفراد على الذهب.
*الخيارات المتاحة متعددة:
1. الذهب المادي: سبائك، عملات، حُلي.
2. الصناديق المتداولة (ETFs) مثل “إس بي دي آر غولدتراست”.
3. العقود الآجلة التي تتيح الاستفادة من المضاربات قصيرة الأمد.
4. الأسهم المرتبطة بالذهب مثل شركات التعدين والإنتاج.
لكن، كما يحذر المحللون، الاستثمار في الذهب يتطلب حذراً. فهو أصل لا يدر عائداً مباشراً (مثل الفائدة أو الأرباح)، وإنما يعتمد على تغير الأسعار.
مستقبل الذهب في النظام المالي العالمي
ربما الأهم من الأسعار الحالية هو التحول البنيوي الذي يشهده العالم:
· تراجع الثقة بالدولار كعملة احتياطية عالمية.
· صعود الذهب كبديل استراتيجي.
· انتقال بعض الاقتصادات الكبرى نحو تعزيز دور الذهب في التجارة الدولية وتسوية المدفوعات.
إذا استمرت هذه الاتجاهات، فقد نشهد خلال العقد المقبل تحولاً جوهرياً في موقع الذهب داخل النظام المالي العالمي، من مجرد ملاذ آمن إلى ركيزة أساسية في معادلة القوة الاقتصادية. اضطرابالنظام المالي في محاولة للعودة الى نظام الذهب كقاعدة اساسية في تحديد اسعار صرف العملات كما كان سائدا قبل نظام برتونوودز
الذهب اليوم ليس مجرد معدن. إنه مؤشر على اضطراب النظام المالي العالمي، ورمز لانعدام الثقة في المؤسسات القائمة، وأداة استراتيجية في يد الدول والمستثمرين على حد سواء.
قد يتذبذب سعره هنا أو هناك، لكنه في المدى الطويل يثبت مرة تلو الأخرى أنه الحارس الأخير للقيمة، والملاذ الذي لا يخذل أصحابه.