العائلة والمجتمع — العراق نموذجاً

أ. د. محمد طاقة
العضو المؤسس في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
اللجنة الاقتصادية
15 / 10 / 2025
تُعد العائلة اللبنة الاولى والأساسية في بناء اي مجتمع، فهي الخلية التي تحدد قوة المجتمع أو ضعفه وتماسكه أو تفككه. وإذا كانت العائلة متماسكة وقائمة على القيم الاخلاقية والدينية المعتدلة، والعادات والتقاليد الراسخة، فان المجتمع برمته سيكون صحياً ومعافى ومنتجاً. أما إذا تفككت العائلة فإن المجتمع سيفقد توازنه ويدخل في دوامة من الانهيار.
في العراق، وبعد الغزو الأمريكي البريطاني عام (2003) وما تبعه من تدخل إيراني وصهيوني مباشر وغير مباشر، كان استهداف العائلة العراقية من أخطر مظاهر التدمير الاجتماعي، اذ شكل ذلك مدخلاً لتفكيك البنية الوطنية واضعاف المجتمع ككل.
العائلة كخلية اجتماعية، تشبه الخلية السليمة في جسم الإنسان إذا كانت الخلية صحيحة، ظل الجسم معافى، وإذا مرضت انتشر المرض في الجسد كله، فهي التي تزرع في الفرد منذ طفولته القيم الأساسية (الصدق، احترام الوقت، الانضباط، حب الوطن، بر الوالدين)، ونبذ السلوكيات المنحرفة مثل (الكذب، والسرقة، وعمل الفاحشة وغيرها) ، كما تشكل العائلة الحصن الاول ضد الغزو الفكري والديني المشوه والمستورد من الخارج.
لا يقتصر دور التربية على العائلة فحسب، بل يتكامل مع المدرسة والجامعة والإعلام (صحافة، تلفزيون، إذاعة، وسائل رقمية)
ومؤسسات المجتمع المدني. لكن هذا التكامل مرهون بمدى التزام الدولة نفسها بالقيم الاخلاقية والاجتماعية. فعندما تكون السلطة فاسدة، فإنها تساهم في نشر الفساد داخل المجتمع بدلاً من محاربته.
بعد الغزو، لم يكن الهدف العسكري والسياسي فقط، بل جرى عمل ممنهج لضرب النسيج الاجتماعي، فقد ركز المحتلون وحلفاؤهم على تفكيك الطبقة الوسطى وهي الأكثر تعليماً وثقافةً وتمسكاً بالقيم.
تشير تقارير الامم المتحدة إلى ان العراق فقد بعد عام (2003) أكثر من (40%) من كفاءاته العلمية والأكاديمية بسبب الاغتيالات أو الهجرة القسرية وهو ما انعكس مباشرة على انهيار المنظومة التعليمية والاخلاقية، كما ساهم الاحتلال في تسليم السلطة إلى طبقات اجتماعية مهمشة وفاسدة، كثير من أفرادها كانوا خارج العراق او منخرطين في شبكات الجريمة، ليعملوا على اعادة انتاج الفوضى، النتيجة كانت انهيار منظومة الأسرة. الطلاق ارتفع بنسبة (70%) بين عامي (2003 – 2015)، وانتشرت ظواهر اجتماعية غريبة مثل المخدرات التي لم يعرفها العراق قبل الاحتلال إلا بشكل محدود جداً.
من أخطر نتائج ضرب العائلة العراقية انتشار الطائفية والعنصرية والعشائرية، بوصفها بديلاً عن الهوية الوطنية الجامعة، وهنا يلاحظ ان نسبة الامية التي كانت لا تتجاوز (8%) قبل (2003) قفزت لتتجاوز (20%) بعد عام (2010)، حسب إحصاءات وزارة التخطيط , كما تحولت بغداد والبصرة ومدن الجنوب إلى أسواق مفتوحة للمخدرات القادمة عبر إيران، حتى أصبح العراق يصنف من قبل تقارير الامم المتحدة لعام (2022) كدولة عبور واستهلاك للمخدرات.
هذه الظواهر أضعفت العائلة العراقية وفككتها، فأصبح الشباب أسير المخدرات والبطالة والفقر، بينما تفككت الأسر نتيجة النزوح الداخلي والحروب والارهاب والفساد الحكومي.
ان استهداف العائلة العراقية لم يكن عارضاً، بل مشروعاً مدروساً لإعادة المجتمع العراقي إلى ما يشبه (عصر الظلمات)، فالاحتلال لم يكتفِ بتدمير البنى التحتية للدولة ونهب النفط والغاز، بل سعى ايضاً إلى تدمير البنية التحتية للمجتمع نفسه …. العائلة.
وعليه فإن المسؤولية تقع على عاتق العراقيين، خصوصاً في المهجر للتمسك بعائلاتهم وقيمهم الأصيلة، وتربية أبنائهم على تلك الاخلاقيات الراسخة، فالعائلة المتماسكة هي الضمانة الوحيدة لعودة المجتمع العراقي إلى قوته وقدرته على مواجهة الفساد والمحتلين وعملائهم.
ان اعادة بناء العراق يبدأ من اعادة بناء العائلة العراقية.