لجنة الثقافة و الاعلام

الأبعاد الاستراتيجية لإعادة فرض العقوبات الشاملة على إيران

لماذا لا يمكن لدول العالم التهرّب من تطبيق هذه العقوبات؟

مصطفى كامل

عضو الأمانة العامة ورئيس لجنة الثقافة والإعلام

في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

سار مجلس الأمن الدولي، الجمعة، 26 أيلول/ سبتمبر 2025، قُدمًا في خطواته الحاسمة القاضية بإعادة فرض العقوبات الشاملة على النظام الإيراني، التي كان الاتفاق النووي المبرم سنة 2015 “اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)” والقرار الدولي 2231 لسنة 2015 قد علّقا تطبيقها لمدة 10 سنوات

جاءت هذه الخطوة بعد أن فشلت روسيا والصين في تمرير مشروع قرارٍ قدّمتاه معًا إلى المجلس يدعو إلى تأجيل إعادة فرض العقوبات لمدة ستة أشهر بهدف “منح فرصة لنظام طهران للتعاون مع المجتمع الدولي، ممثلًا بالوكالة الدولية للطاقة الذرية  (IAEA) بشأن برنامجه النووي” المثير للقلق في العالم.

وتأتي عملية إعادة فرض هذه العقوبات بناءً على “عدم امتثال إيران الجوهري للاتفاق النووي، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% القريبة من المستوى العسكري (الاتفاق يسمح بنسبة تخصيب لا تزيد عن 3.7%) وتراكم مخزون يورانيومٍ مخصّب بنسبة 60%، ورفض السماح لمفتشي الوكالة الدولية بالعمل بحرّية تامة” وغير ذلك من الخروقات الجوهرية لاتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة.

وقبل الحديث عن أهمية هذه الخطوة، وما تعنيه عملية إعادة فرض العقوبات الشاملة والمشدّدة بودي الإشارة إلى أن الخطوة الروسية الصينية كانت خطوةً محكومةً بالفشل التام منذ البداية، وموسكو وبكين أولّ من يعلم بأنّ مصير خطوتهما هذه هو الإخفاق التام، لسببٍ بسيطٍ جدًا لكنه جوهري تمامًا وهو أن “آلية الزناد Snapback Mechanism” المنصوص عليها في اتفاق 2015 وفي القرار الدولي ذي الرقم 2231 لسنة 2015 الذي أوقف العمل بأحكام وعقوبات قرارات مجلس الأمن السابقة ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني، هذه الآلية ستكون فعّالة بمجرد أن تطلب إحدى الدول الست الموقّعة على الاتفاق النووي إعادة فرض العقوبات (بقيت خمس دول بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق)، أي أن إعادة فرض العقوبات لا تستلزم قرارًا جديدًا من مجلس الأمن، وهو ما قد يواجه بفيتو روسي أو صيني يمكن أن يُحبط مساعي إصدار قرارٍ جديدٍ، وإنما هي عودةٌ آليةٌ تلقائيةٌ (تحصيل حاصل) وذلك بعد أن طلبت دول الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) تفعيل هذه الآلية في رسالتهم المشتركة لرئاسة المجلس بتاريخ 28 آب/ أغسطس الماضي.

كما أن موسكو وبكين تعلمان جيدًا أن مشروع قرارهما الداعي لتأجيل إعادة فرض العقوبات سيواجه برفض ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهذا يعني أن هذا المشروع لا يمكن له على الإطلاق أن يمرّ.

فلماذا قدّمت هاتان الدولتان العظميتان مشروعهما إذًا؟ وماذا يعني ذلك؟!

باختصارٍ شديدٍ وبعيدًا عن التفسيرات المتحذلقة والمتذاكية فقد كانت الخطوة الروسية الصينية المشتركة واحدةً من ألاعيب السياسة الدولية الساذجة، وممارسةً تافهةً لسياسة المناكدة التي يتبعها محور موسكو/ بكين ضد محور باريس/ لندن/ واشنطن/ برلين، ومحاولةً إعلاميةً فاشلةً للقول “نحن هنا” أو في أحسن الأحوال خطوةً من باب “رفع العتب” أو “إسقاط فرض” حتى لو كان كل هذا لن يؤدي إلى شيء، أو لن يؤدي إلى أي شيء في الحقيقة!

أما ماذا يعني هذا الموقف؟ فإنه يعني باختصار شديد أن بكين وموسكو لن تقدّما أيّ مساعدةٍ حقيقيةٍ لنظام طهران لفكّ العزلة الدولية التي ستحيط به، ولن تتحرّكا خطوةً عمليةً واحدةً للدفاع عن طهران إذا تعرّضت لأيّ عمليات عسكرية، وقد رأينا مصداق ذلك في حزيران/ يونيو الفائت.

ولنأتِ الآن إلى أهمية قرار إعادة فرض العقوبات على إيران، ولنتحدث عنها بقدرٍ من التوضيح والتفصيل.

قلنا في أعلاه أن القرار الدولي ذا الرقم 2231 الصادر سنة 2015 أوقف العمل بأحكام قرارات مجلس الأمن السابقة ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني وهي كل من (القرار 1696 (2006) و 1737 (2006) و 1747 (2007) و 1803 (2008) و 1835 (2008) و 1929 (2010) و 2224  (2015)) وهذه القرارات السبعة تتضمّن حزمةً واسعةً وشاملةً ومتنوّعةً من العقوبات، وما جرى يوم أمس هو إعادة تفعيل العقوبات الواردة بتلك القرارات.

ولأنّ تلك القرارات السبعة، والقرار 2231 الذي أكسب الاتفاق النووي المبرم في 2015 شرعيته الدولية، صادرة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة فإن الخطواتٍ الإجرائيةٍ لفرض وتنفيذ هذه القرارات يمكن أن ترقى إلى العمل العسكري، كما أن القيود المحدِّدة الواردة في القرارات المذكورة تسري على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (193 دولة) دون استثناء، والدول جميعها ملزمةٌ بموجب المادة 25 من الميثاق بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها بسلاسة.

أهمية العقوبات الجديدة ضد إيران

فعّلت خطوة مجلس الأمن الأخيرة “آلية الزناد” أو “الإرجاع السريع” (snapback) تلقائيًا، وهذا الإجراء، الذي بدأته دول مجموعة E3 (الترويكا الأوروبية بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) في 28 آب الماضي، يعيد جميع العقوبات الأممية المعلّقة بموجب الاتفاق النووي 2015، وستصبح إعادة فرض العقوبات سارية اعتبارًا من 28 أيلول 2025، وهذه العقوبات ليست مجرّد إجراءات اقتصادية فحسب، بل لها أبعادها الاستراتيجية والأمنية العميقة، خاصة في ظل التوترات الدولية والإقليمية مختلفة الجوانب مع إيران.

والأهم في هذه العقوبات أنها ليست عقوبات أميركية منفردة، كما هو قائمٌ بالفعل منذ 2018، ولا هي عقوباتٌ أوروبية فحسب، مما قد يمكن تجاوزها أو إهمالها، وانما عقوباتٌ دوليةٌ شاملةٌ مفروضةٌ بموجب قراراتٍ دوليةٍ صادرةٍ بحسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولا مناص أمام دول العالم من الالتزام بها والعمل على تسهيل تنفيذها.

كما أن هذه العقوبات لا يمكن أن تكون محل تلاعبٍ أو غضّ نظرٍ، حتى لو تغيّرت الإدارة الأميركية الحالية بأخرى تقع تحت تأثيراتٍ إيرانية من أيّ نوعٍ وبأي قدر، لأنها عقوبات أممية صادرة بحسب قراراتٍ دولية، وليست إجراءاتٍ أميركيةٍ أحادية الجانب.

ونستعرض هنا أبرز الآثار التي ستترتّب على هذه الخطوة الأممية:

أولًا: الأثر الاقتصادي والمالي: تعزيز العزلة الاقتصادية

تعيد العقوبات الدولية تجميد الأصول الإيرانية في الخارج، وتحظر التجارة في قطاع الطاقة (النفط والغاز)، كما تمنع النظام المصرفي الإيراني تمامًا من الوصول إلى النظام المالي العالمي “سويفت” (نظام سويفت مقيّد جزئيًا في إيران منذ سنوات) مما يفاقم الركود الاقتصادي ويزيد من ضراوة المشاكل التي تعاني منها إيران بالفعل بسبب العقوبات الأميركية منذ عام 2018.

وسينجم عن ذلك ارتفاعٌ شديدٌ في أسعار السلع والخدمات في الداخل الإيراني، وانخفاضٌ في قيمة العملة الإيرانية، وإغلاقٌ لمصانعَ، وتقليصٌ لخدمات، وغير ذلك من ردود الأفعال الاقتصادية السلبية المتفاقمة التي تزيد الاقتصاد الإيراني تدهورًا، وهذا يهدّد بتعميق الأزمة الداخلية، بما في ذلك نقص الطاقة والغذاء، وسيؤدي حتمًا إلى اضطراباتٍ اجتماعيةٍ وأمنيةٍ على الصعيد الداخلي، وقد يؤدي، مع عوامل أخرى، إلى حدوث اضطراباتٍ شعبيةٍ تؤدي في النهاية إلى سقوط النظام كله، وسقوط النظام بهذه الطريقة هدفٌ نهائي وإن لم يُعلن عنه صراحة.

وحتى الصين وروسيا، اللتين عارضتا تفعيل فرض العقوبات ستواجهان صعوبة في الاستمرار في التجارة البينية مع إيران دون مخاطر، حيث تلزم العقوبات جميع الدول الـ 193 الأعضاء في الأمم المتحدة بالامتثال التام للقرارات الدولية، وهذا يعني أن إعادة فرض العقوبات ستزيد من عزلة إيران الاقتصادية، مما يؤثّر في قدرتها على تمويل برامجها النووية والعسكرية، ودعم وكلائها الإقليميين (مثل حزب الله وميليشيات الحوثي والميليشيات العراقية).

ثانيًا: الأثر الأمني والنووي: منع الانتشار النووي

تفرض القرارات الدولية على نظام طهران حظرًا على تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجته، وحظرًا على نقل أيّ مواد أو تكنولوجيا نووية أو ذات صلة بالبرنامج النووي أو ذات استخدامٍ مزدوجٍ إلى إيران، بالإضافة إلى أنها تتيح لأي دولةٍ في العالم تفتيش الشحنات الجوية والبحرية الإيرانية بحثًا عن مواد محظورة بموجب القرارات المشار إليها في أعلاه.

وهذا يعني أن البرنامج النووي الإيراني سيتدهور، وربنا سيتوقف كليًا خصوصًا مع الأخذ بنظر الاعتبار اعتماد أطرافٍ عدة وسائل عسكرية مباشرة لتدميره واغتيال أبرز قياداته.

وستدفع هذه العقوبات إيران إلى الغرق في وحل القرارات الخاطئة وردود الأفعال المتشنجة مما يساهم في خلق مزيدٍ من المشاكل لنفسها، وقد بدأت طهران هذه الخطوات بالفعل بإعلانها أن اتفاقها الأخير المبرم مع الوكالة الدولية في القاهرة في 11 أيلول 2025 بات “باطلًا” وذلك فور فشل المشروع الروسي الصيني الداعي لتمديد مهلة تعليق العقوبات.

بل أن نظام طهران قد يندفع مع مطالبات القوى المتشددة في الداخل الإيراني والداعية إلى الخروج من معاهدة منع الانتشار النووي (NPT)، وهي مطالباتٌ سعت أجهزة النظام إلى ترويجها وإبرازها بقوة خلال الأسابيع القليلة الماضية متوهّمةً أنها تضغط على العالم بذلك، ولكن هذا الترويج ولّد شعورًا عامًا عند دوائر القرار والإعلام في إيران بضرورة الخروج من المعاهدة، وهذا الشعور سيفاقم أعباءً جديدةً على النظام كان هو من رتّبها على نفسه مسبقا.

وحتى إن لم تخرج طهران رسميًا من المعاهدة، بل حتى لو أعلنت تمسكها بها، فإنها بالتأكيد ستتصرف خلافًا للالتزامات المترتّبة عليها بموجبها، وأعني أنها ستواصل العمل على رفع نسب التخصيب، وهذا مسارٌ لا معنى له سوى التسلّح النووي، وسيتعامل العالم معه على هذا الأساس، وهو مسارٌ لن يكون بإمكان موسكو وبكين الدفاع عنه حتى النهاية.

ثالثًا: الأثر العسكري الدولي والإقليمي: تقييد القدرات العسكرية

تعيد العقوبات الأممية حظرًا على الأسلحة التقليدية (شراءً أو بيعًا)، وحظرًا على تطوير الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، أو بعيدة المدى غير النووية، وحظرًا على صناعة الطائرات والمقذوفات المسيّرة بكل أشكالها، بالإضافة إلى حظر سفرٍ شخصيات مسؤولة عسكرية ومدنية، وتجميدٍ لأصول أفرادٍ وكياناتٍ إيرانيةٍ أو غير إيرانية مرتبطةٍ بالبرامجٍ النووية والصاروخية والتسليحية الإيرانية الأخرى.

و في سياق التوترات الإقليمية القائمة وخاصة تلك الناشئة قبل وبعد الهجمات المتبادلة بين (إسرائيل) وإيران، والهجمات الأميركية الموازية في حزيران/ يونيو 2025 فإن خطوة مجلس الأمن بإعادة فرض العقوبات الشاملة تمثّل ضربةً لقدرات إيران على تمويل وتسليح عملائها (مثل حزب الله والحوثيين والميليشيات العراقية)، مما يقلّل، مع عوامل أخرى، من حدّة تهديدات نظام طهران الموجّهة للقوى الإقليمية وخاصة في الخليج العربي و (إسرائيل).

رابعًا: الأثر الجيوسياسي: إعادة تشكيل التحالفات الدولية

يمثل فشل الاقتراح الروسي/ الصيني (حصل على صوتين فقط (باكستان والجزائر) إضافة لمقدّمَي المشروع مقابل تسعة دولٍ رافضة) انتصارًا بيّنًا للمحور الغربي من جهة، وتناميًا في الإدراك العالمي لخطورة المشاريع التسليحية الإيرانية وخاصة المشروعين النووي والصاروخي من جهة ثانية، كما أنه أبرز انقسامًا واضحًا لكنه غير فعّال في مجلس الأمن من جهة ثالثة، ومن جهة رابعة أظهر موقفًا فرنسيًا متشدّدًا ضد النظام الإيراني هو الأقوى منذ عقود، وهذا الموقف الفرنسي يُعدُّ تحوّلًا جوهريًا واستراتيجيًا في سياسة باريس أزاء طهران، وهذا التحول الجوهري والاستراتيجي في الموقف الفرنسي لا ينبغي إهماله أو المرور عليه دون الوقوف عنده مليّا.

ولا شك أن نظام طهران الذي سيتعرّض لعملية خنقٍ حقيقيةٍ سيندفع نحو تعزيز تحالفاتٍ مع روسيا والصين ومع دول مجموعة  BRICSسواءً لأغراض فكِّ العزلة الاقتصادية عنه، أو ربما في سبيل تطوير برنامجٍ نوويٍ سرّي، الأمر الذي سيزيد من مخاطر التجاذبات الإقليمية والدولية، وربما التصعيد العسكري ضد النظام.

وقد تفتح الخطوة الأممية الأخيرة الباب أمام فرض عقوباتٍ جديدةٍ ضد نظام طهران، خصوصًا أن هناك دفعٌ أوروبيٌ/ أميركيٌ/ إسرائيليٌ/ إقليميٌ باتجاه فرض المزيد من العقوبات، فضلًا عن تشديد ما هو قائمٌ بالفعل، مع ملاحظة أن دول الخليج العربي وتركيا وأوروبا و (إسرائيل) قلقةٌ جدًا من مخاطر المشروع الصاروخي ومشروع المقذوفات المسيّرة الإيرانيين، كما أن الدول الإقليمية قلقة جدًا من إرهاب الميليشيات والجماعات والأحزاب التي تعمل بالوكالة عن إيران، وهذا ما يجعل أفق فرض أنماطٍ جديدة من العقوبات أوسع وأشمل وأكثر ترجيحًا، حيث لم يعد البرنامج النووي الإيراني فقط هو مصدر القلق الإقليمي والدولي كما كان عليه الحال قبل 10 سنوات.

 

هل ستلتزم دول العالم بالعقوبات المفروضة على إيران؟

تُلزم خطوة إعادة فرض العقوبات الأممية ضد إيران جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (193 دولة) قانونيًا بالامتثال التام لهذه العقوبات، مع ملاحظة أن هذه العقوبات مفروضة بموجب الفصل السابع من الميثاق الذي يتضمّن اتخاذ إجراءاتٍ عقابيةٍ ليس ضد إيران فحسب، فهذه تحصيل حاصل، بل على الدول التي لا تلتزم بتلك العقوبات أيضًا، مما يجعل من نطاق التهرّب من التنفيذ ضيّقًا جدّا وربما محدودًا وعديم التأثير وبالغ الخطورة على من يغامر به.

ومع ذلك، فإن مدى خضوع دول العالم لهذه العقوبات يعتمد على عوامل سياسيةٍ واقتصاديةٍ وجيوسياسية، ويمكن النظر إلى الموضوع على النحو التالي:

  1. الدول التي ستمتثل للعقوبات بشكلٍ تام هي الدول الغربية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، كندا، أستراليا وآخرين)، والولايات المتحدة التي انسحبت من الاتفاق النووي في 2018 تفرض بالفعل عقوباتٍ أحاديةٍ صارمةٍ وستدعم تطبيق العقوبات الأممية الواسعة، بما في ذلك حظر النفط، والأسلحة، والوصول إلى النظام المالي العالمي (سويفت). أما دول الترويكا الأوروبية فهي التي طرحت آلية الزناد وبالتالي ستلتزم بشكلٍ مطلقٍ بالعقوبات، والاتحاد الأوروبي الذي فصل معظم البنوك الإيرانية عن نظام “سويفت” في 2018 سيواصل الضغط المالي على المؤسسات المالية الإيرانية.
  2. الأطراف الإقليمية مثل دول الخليج العربي و(إسرائيل) ستدعم العقوبات بقوة بسبب مخاوفها من برنامجي إيران النووي والصاروخي وبرامج المقذوفات المسيّرة، ومن مخاطر دعم الميليشيات الإرهابية، ومن تهديدات ومطامع طهران الإقليمية الموجّهة ضدّها. حتى أن (إسرائيل) على سبيل المثال وصفت قرار إعادة فرض العقوبات بأنه “خطوة دبلوماسية حاسمة”، وأعلنت أنه سيتم التنسيق معها لمراقبة الشحنات والأنشطة الإيرانية.
  3. دول أخرى ضمن النظام المالي العالمي مثل اليابان وكوريا الجنوبية ستلتزم بفرض العقوبات على إيران لتجنّب عقوباتٍ ثانويةٍ من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، من قبيل الحظر من دخول الأسواق المالية الأميركية والأوروبية أو فرض الغرامات وما شابه.
  4. الدول التي قد تقاوم أو تتجاهل العقوبات مثل روسيا والصين اللتان عارضتا قرار آلية الزناد في مجلس الأمن، وقدّمتا مشروع قرارٍ مضادٍ للتوجّهات الغربية (الأميركية والأوروبية) بما يعكس معارضتهما السياسية للعقوبات، حيث نجد أن روسيا التي وقّعت اتفاقية تعاون استراتيجي مع إيران في كانون الثاني/ يناير 2025 طوّرت أنظمة دفعٍ ماليةٍ بديلة (مثل ربط شبكاتها المصرفية مع إيران في 2023-2024) لتجنب نظام “سويفت”، كما أن الصين التي تعتبر أكبر مشترٍ للنفط الإيراني قد تواصل التجارة عبر آليات دفعٍ بالعملات المحلية (اليوان) أو المقايضة.

لكن هاتين الدولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن قد تواجهان محدّداتٍ وقيودًا أيضًا بسبب التزامهما الرسمي بقرارات الأمم المتحدة، لذا فإن نطاق خرقهما للعقوبات ضد إيران سيبقى محدودًا وربما غير مؤثّر على نحوٍ يمكن أن يُخشى منه بالفعل، وفي كل الأحوال ستكون تحركات موسكو وبكين محل نظرٍ ورصدٍ من القوى الغربية.

كما أن بكين التي تخوض حربًا تجارية مع واشنطن، وتعمل على تخفيف حدّتها، سوف لن تسعى إلى خوض مواجهةٍ جدّيةٍ عميقةٍ وضاريةٍ مع الولايات المتحدة في هذا الملف لسواد عيون إيران، لذا فإن أقصى ما يمكن أن تقوم به الصين في هذا الخصوص هو العمل على المماحكة محسوبة الخطوات والنتائج مع الولايات المتحدة، والمماحكة المحسوبة تعني إمكانية التراجع في أي لحظة، وبالتأكيد فإن واشنطن ستضع في حسبانها احتمالية الخروقات الصينية عند أي تفاوضٍ مستقبليٍ مع بكين.

  1. دول أخرى مثل أعضاء في مجموعة BRICS ، أو حلفاء إيران مثل الهند التي طوّرت نظام ACUMER مع إيران في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 للتبادل التجاري بالعملات المحلية، قد تحاول الالتفاف على العقوبات جزئيًا. ومع ذلك تعتمد الهند على العلاقات التجارية مع الغرب، مما قد يحدُّ من خروقاتها للعقوبات الدولية.
  2. دول مثل فنزويلا التي لها علاقاتٍ وثيقةٍ مع إيران، قد تتجاهل العقوبات، لكن تأثيرها الاقتصادي محدود للغاية، وهي مهدّدةٌ بعملياتٍ عسكريةٍ أميركيةٍ مباشرةٍ على خلفية أنشطة المخدرات المنطلقة من أراضيها، وهي أنشطةٌ إجراميةٌ ضالعةٌ إيران فيها وتستخدمها في عملياتها التمويلية غير الشرعية.
  3. دول محايدة أو متردّدة مثل تركيا التي لديها علاقاتٌ تجارية مع إيران (خصوصًا تجارة الغاز والنفط) قد تواجه صعوبة في الامتثال الكامل لقرارات العقوبات بسبب الاعتماد الاقتصادي، لكنها بالتأكيد ستخفّض تعاملاتها لتجنب العقوبات الثانوية الأميركية، كما فعلت في السابق.

هل هناك تحديات عالمية أمام نظام تطبيق العقوبات؟

معروفٌ أن إيران طوّرت خلال السنوات الأخيرة خبرةً في التحايل على العقوبات والالتفاف عليها عبر شبكات تهريب النفط مثل “أسطول الظل”، والتجارة مع العالم عبر دولٍ ثالثة، واستخدام العملات المحلية أو العملات المشفّرة. وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الألاعيب تجعل من الصعب ضمان الامتثال الكامل لنظام العقوبات من جميع الدول، أو تشيع لدى بعض الناس شعورًا بتفوقٍ إيرانيٍ وقدرةٍ على خرق نظام العقوبات!

لكن هذا الانطباع عاطفي، وغير واقعي على وجه الدقة.

فالمهم في هذا الخصوص هو أن هذه الألاعيب قد تنجح لفترةٍ محدودةٍ جدًا وفي أنطقةٍ معينةٍ وضيّقةٍ للغاية ولكنها لا يمكن ان تكون بديلًا عن نظامٍ تبادلٍ تجاريٍ عالميٍ حرٍ مفتوحٍ، فمن جانب باتت معظم أساليب ووسائل إيران في التهرّب من العقوبات، والتحايل عليها مكشوفةً ومرصودةً من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، حيث تردنا الأخبار بشكلٍ منتظمٍ عن إجراءاتٍ أميركيةٍ بفرض عقوباتٍ على شركاتٍ ووسطاء يحملون جنسيات دولٍ ثالثةٍ ويعملون في خدمة نظام التحايل الإيراني، ومن جانبٍ ثانٍ فإن الضغوط على الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة يمكن أن تحدّ كثيرًا من أنشطة التحايل الإيرانية، فلن تضحّي أية دولة، حتى تلك التي مثّلت ملاذات آمنة لنظام طهران في أوقاتٍ سابقة، بعلاقاتها التجارية والسياسية والأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة مقابل منح نظام إيران فرصةً للتحايل والإفلات من العقوبات، ومن جانبٍ ثالثٍ فإن المشتريات الإيرانية، وخاصة ذات الصلة بالبرامج النووية والصاروخية والمقذوفات المسيّرة، ستكون مرصودةً وستُحبطها أنظمة التتبع والرصد الاستخبارية متعدّدة الأطراف، ويشمل هذا ما يتعلّق بدعم وتمويل الميليشيات والجماعات الإرهابية في العراق واليمن ولبنان وغيرها، وهناك جانبٌ رابعٌ يتعلق بنظام التفتيش على الواردات والصادرات الإيرانية وخاصة البحرية منها والذي سيكون صارمًا بالتأكيد، وربما شرسًا أيضًا خصوصًا أن نظام العقوبات مسلّح بأنياب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وليس وادعًا ومسالما.

مفيدٌ التذكير هنا أن الولايات المتحدة تفرض عقوباتٍ ثانوية على أيّ كيان أو دولة تتعامل مع إيران في قطاعات النفط أو المصارف، مما يدفع العديد من الدول والشركات إلى الامتثال لنظام العقوبات الصارم الذي سيُعاد فرضه خوفًا من فقدان الوصول إلى الأسواق الأميركية وهي الأهم والأضخم في العالم، وعلى سبيل المثال اضطرّت شركاتٍ صينيةٍ في سنة 2020 إلى تقليص تعاملاتها مع إيران تحت هذا الضغط.

لذا فإن العقوبات الأممية الشاملة والعقوبات الثانوية الأميركية والضغط المالي العالمي ستجعل التجارة مع إيران عمليةً محفوفةً بالمخاطر وعلى نحوٍ متراكم، مما يحدُّ من قدرة إيران على كسر العزلة الاقتصادية، ويحول دون محاولات النظام ترميم انهياراته الداخلية التي ستتزايد بالضرورة مدفوعةً بعوامل عديدةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ، وهي انهياراتٌ ستؤدي حتمًا إلى سقوط هذا النظام وزواله بشكلٍ كاملٍ في نهاية المطاف.

ماذا عن العراق؟

وهل يستطيع نظام بغداد مواصلة مساعدة إيران للتهرّب من العقوبات الدولية؟

منذ عقدين يُعتبر العراق القناة الرئيسة أمام إيران للتهرّب من العقوبات الدولية، خاصة الاقتصادية والمالية، المفروضة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة بسبب برنامج النظام النووي، ودعمه للميليشيات المسلحة والأنشطة الإرهابية حول العالم.

ويأتي هذا الدور نتيجة لكون نظام بغداد يقوم أساسًا وبشكلٍ كلي تقريبًا على الميليشيات المسلحة المدعومة من طهران، والتي جعلت إيران منها أدواتٍ متقدّمةً لاستحصال المنافع لصالحها أو درء المخاطر دفاعًا عنها، ونجم عن ذلك علاقاتٍ وثيقةٍ وعميقةٍ وشاملةٍ تقترب من التبعية التامة على كافة الصعد، والصعيد الاقتصادي واحدٌ منها سواءً على سبيل استيراد الطاقة الإيرانية أو توريد السلع والخدمات الأخرى، أو على سبيل تهريب عملة الدولار الأميركي من العراق إلى إيران، سواءً من خلال التهريب نقدًا أو عبر وسائل تحايلٍ مختلفة.

وتستخدم طهران وسائل عديدة للاستفادة من الاقتصاد العراقي في إطار آليات التهرّب والتحايل الرئيسة، ومن بين أهم تلك الآليات ما يأتي:

أولا: تهريب النفط الإيراني عبر مزجه مع النفط العراقي:

يعتمد النظام الإيراني على شبكاتٍ في العراق شبه رسميةٍ، لكنها مغطّاة رسميًا، لمزج نفطه المحظور مع نفطٍ عراقي، ثم بيعه باعتباره منتجًا عراقيًا خالصًا باستخدام وثائق رسمية صادرة من شركة تسويق النفط الحكومية “سومو”، حيث تولّد هذه الوسيلة مئات الملايين من الدولارات سنويًا لإيران، وفقًا لإحصاءاتٍ رسميةٍ أعلنتها وزارة الخزانة الأميركية في الآونة الأخيرة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فرضت الولايات المتحدة في أيلول 2025 عقوباتٍ على وليد خالد حميد السامرائي، وهو رجل أعمال عراقي مقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى شبكة شركات شحنٍ تابعةٍ له لدوره في تهريب النفط الإيراني الممزوج بالنفط العراقي.

كما استهدفت عقوباتٌ في تموز/ يوليو 2025 شبكة سالم أحمد سعيد، اسمه الثاني أوميد حاجي أحمد، التي مزجت النفط الإيراني مع العراقي وباعته في الأسواق الدولية لتمويل الحرس الثوري الإيراني، وذلك بواسطة شركاته الممتدة بين العراق والإمارات وبريطانيا.

وفي شباط/ فبراير 2025 كُشف النقاب عن شبكة تهريب وقودٍ إيراني ممزوجٍ مع وقودٍ عراقي يُباع باعتباره وقودًا عراقيًا خالصًا وهو ما يساعد إيران على تجاوز العقوبات على صادراتها في مجال الطاقة.

ثانيًا: تهريب الدولار الأميركي:

يُستخدم النظام المصرفي العراقي لتحويل الدولارات إلى إيران، حيث يحصل البنك المركزي العراقي على دولاراتٍ من مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ثم تهرّب مبالغ لا يمكن حصرها بدقة منها لكنها تصل إلى عدة مليارات شهريًا عبر بنوكٍ صغيرةٍ تابعةٍ للميليشيات الإيرانية الحاكمة في العراق، أو عبر صرّافين إلى إيران لتمويل عملياتها الإرهابية أو تمويل مشترياتها المحظورة.

وعلى سبيل المثال، كشفت تقارير في نيسان/ أبريل 2022 عن دور البنك المركزي العراقي في تنفيذ تحويلاتٍ تصل إلى مليارات الدولارات إلى إيران، لتمويل فيلق القدس الارهابي في الحرس الثوري.

وفي تموز/ يوليو 2024 فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 31 مصرفًا عراقيًا (لديها 256 فرعًا) لمنع تهريب العملة الأميركية، مما حال دون تهريب مبلغٍ يصل إلى حوالي 5.2 مليار دولار كانت تعدّ لدعم أنشطة إيران المحظورة باختلاف أنواعها.

وفي شباط 2025 أجبرت واشنطن سلطة بغداد على حظر خمسة مصارف محلية من معاملات الدولار، وذلك بعد اجتماعاتٍ في دبي أجراها مسؤولون من وزارة الخزانة الأميركية مع مسؤولين ماليين عراقيين في إطار سياسة “الضغط الأقصى” التي تتبعها واشنطن على نظام طهران.

ثالثًا: التجارة، الاستيراد/ إعادة التصدير:

يعتمد العراق على وارداتٍ إيرانية مختلفة (غاز، وقود، كهرباء، مواد غذائية وإنشائية وغيرها) بنسبةٍ كبيرةٍ من احتياجاته، مما يوفّر لإيران تدفقات مالية تتجاوز 20 مليار دولار سنويًا، لكن جزءًا من هذه التجارة يُعاد تصديره باعتباره بضائع عراقية لتجنيب المصانع الإيرانية العقوبات المفروضة على التعاملات المالية مع طهران.

وتبعًا لكل ما تقدّم يواجه العراق ضغوطًا دولية متزايدة لوقف هذه الأنشطة المرصودة، مما يؤدي إلى فرض عقوباتٍ عليه إذا واصل هذه الأنشطة التحايلية، واستمرّ في خرق نظام العقوبات الأممي المشدّد الذي سيجري العمل بموجبه.

والأهم في هذا المجال أن هذه الأنشطة والمهام التحايلية التي تنفذها بغداد مرصودةٌ بدقة وبشكلٍ تفصيليٍ من جانب الإدارات المختلفة المعنية في واشنطن، مما يجعل من قدرة النظام العراقي على الاستمرار في التلاعب والتحايل ضعيفة أو شبه معدومة في الحقيقة.

رابعًا: السيطرة على المنافذ الحدودية البرية والبحرية:

تسيطر المليشيات الإيرانية الحاكمة والمتنفذة في العراق، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وحركة النجباء وكتائب الإمام علي وكتائب أبي الفضل العباس وقوات بدر، وكلها منظمات مشمولةٌ بالعقوبات الأميركية ومدرجةٌ على لوائح الإرهاب، ومنظمات أخرى وأشخاصًا، تسيطر على عددٍ من المنافذ الحدودية البرية الرسمية وغير الرسمية في شمال ووسط وجنوب العراق، وعلى عددٍ من الموانئ غير النظامية أو أرصفةٍ في الموانئ النظامية المطلّة على الخليج العربي، كما تسيطر على المطارات العراقية المختلفة وخاصة في بغداد والنجف والسليمانية، مما يسهّل الأنشطة التحايلية للنظام الإيراني.

ختامًا

في شباط 2025 أصدرت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب مذكرة أمن قومي تحمل الرقم  (NSPM-2) تفرض “الضغط الأقصى” على إيران، بما في ذلك منع تهريب الدولار عبر العراق، وأيضًا استهداف الحرس الثوري ووكلائه المحليين.

كما قدّم أعضاء جمهوريون وديمقراطيون في الكونغرس الأميركي مشروع قانون “تحرير العراق من إيران” لإنهاء أو تقليص النفوذ الإيراني المتعاظم في العراق.

وإذا كان العالم جادًّا في خنق الأنشطة الإرهابية للنظام الإيراني، وهو ما يبدو طبعًا، فلن يكون بإمكانه ذلك دون خنق مصادر تمويل هذا النظام الموجودة في العراق، وهي المصادر التي كانت محلَّ تمويله ومدّه بأسباب الحياة طيلة السنوات الأخيرة.

والمؤكد أن إعادة فرض العقوبات على إيران سيُضعف نفوذها ونفوذ ميليشياتها وأدواتها في العراق، وستؤدي إلى فرض عقوباتٍ على بنوك وشركات عراقية وبالتأكيد على مؤسسات حكومية عراقية مثل البنك المركزي ومصارف الرافدين والرشيد والتجاري الحكومية وعلى شركة “سومو” وغيرها.

ولا شك فإن استمرار عمليات التهريب عبر الميليشيات، وأساليب التحايل والتهرّب المختلفة التي تتيحها بغداد، بشكلٍ رسمي أو شبه رسمي، هو ما جعل العراق رهينةً لإيران، ومع إعادة فرض العقوبات ستنشأ أزماتٍ داخليةٍ متعددةٍ في العراق.

نعم، يمكن لنظام بغداد مساعدة إيران، وهو يقوم بهذه المهمة بالفعل حاليًا ومنذ 20 سنة، لكنه سيدفع ثمنًا باهظًا من خلال الضغوط الدولية والعقوبات الإضافية التي ستشمله بالتأكيد مع إعادة فرض العقوبات الأممية الشاملة، وقد يكون الثمن الباهظ تغيير هذا النظام بشكلٍ أو بآخر.

والله الموفق والمستعان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى