تحولات في أدوات ووسائل الهيمنة الإقليمية والدولية

الدكتور عبدالوهاب القصاب
العضو المؤسس في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات
رئيس لجنة العلوم السياسية
مقدمة
شهد النظام الدولي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تحولات جذرية في طبيعة أدوات الهيمنة وأساليب النفوذ. لم تعد السيطرة المباشرة أو الاحتلال العسكري الوسيلة المفضلة للهيمنة، بل تزايد الاعتماد على أدوات ناعمة أو هجينة تشمل التدخل غير المباشر، التلاعب بالهويات، الحرب السيبرانية، النفوذ الاقتصادي، والمليشيات الوكيلة. هذا التحول انعكس بوضوح في السياسات الإقليمية لكل من إيران وتركيا وإسرائيل، كما في أداء القوى الدولية الكبرى.
أولاً: إيران – التوسع عبر الأذرع الوكيلة والهويات الطائفية
1 – الهيمنة الأيديولوجية والطائفية
اعتمدت إيران منذ عام 1979 على تصدير الثورة كوسيلة للنفوذ، وقد تطورت هذه الاستراتيجية لاحقاً لتتجسد في دعم المليشيات المسلحة على أسس طائفية شيعية، كما في العراق، لبنان، سوريا، واليمن.
2 – الحرس الثوري وشبكات النفوذ
شكّل “فيلق القدس” أداة مركزية في تنفيذ السياسة الخارجية الإيرانية، من خلال تمويل وتدريب وتسليح المليشيات الوكيلة. هذا خلق واقعاً من النفوذ غير المباشر يمكّن طهران من فرض أجنداتها دون التورط في صدامات مباشرة.
3 – الأداة الاقتصادية – العقوبات مقابل الاقتصاد الموازي
ورغم العقوبات، طورت إيران شبكات اقتصادية غير رسمية تعتمد على تهريب النفط والسلاح والمواد الاستراتيجية، مما أتاح لها الاستمرار في تمويل أدوات الهيمنة.
ثانياً: تركيا – العودة العثمانية بأساليب ناعمة وخشنة
1 – الهيمنة الثقافية والدينية
اعتمدت أنقرة على توظيف الإرث العثماني وروابط الإسلام السياسي لتحقيق اختراقات ناعمة في مناطق البلقان، القوقاز، والشرق الأوسط، من خلال مؤسسات ثقافية، ومنظمات خيرية، ومساجد، ومدارس دينية.
2 – التدخل العسكري المباشر والتموضع
بخلاف إيران، لم تتردد تركيا في التدخل عسكرياً في دول مثل سوريا والعراق وليبيا، وأنشأت قواعد عسكرية في الصومال وقطر، مما يشير إلى تحول في أدواتها من الناعمة إلى الهجينة (مزيج ناعم وخشن).
3 – الهيمنة الاقتصادية والتقنية
استثمرت تركيا في الصناعات الدفاعية المحلية (كالطائرات المسيّرة بيرقدار) ، وعرضتها كأداة للتأثير على السياسات الإقليمية والدولية، كما فعلت في أوكرانيا وأذربيجان.
ثالثاً: إسرائيل – التكنولوجية والاختراق الدبلوماسي
1 – التفوق العسكري والتقني
لا تزال إسرائيل تعتمد على تفوقها العسكري والتقني، وخاصة في مجالات الاستخبارات، والأمن السيبراني، والطائرات المسيّرة، لردع خصومها وفرض معادلات ردع متقدمة.
2 – التطبيع واختراق المحيط العربي
استثمرت إسرائيل في أدوات الهيمنة الدبلوماسية عبر اتفاقيات “أبراهام” التي أتاحت لها اختراق البيئة العربية من بوابة المصالح الاقتصادية والتكنولوجية، ما أعاد تشكيل البيئة الجيوسياسية.
3 – الاختراق السيبراني والتكنولوجي
أصبحت إسرائيل قوة فاعلة في مجال التكنولوجيا السيبرانية (مثال: NSO Group)، وتستخدم هذا التفوق كأداة للهيمنة في المجال غير التقليدي.
رابعاً: القوى الدولية – من الاحتلال إلى المنافسة الاستراتيجية المركّبة
1 – الولايات المتحدة تراجع الهيمنة التقليدية:
شهدت واشنطن تراجعاً في الاعتماد على التدخلات العسكرية المباشرة بعد حربَي العراق وأفغانستان، وتحوّلت إلى الاعتماد على العقوبات، التحالفات الإقليمية، والتكنولوجيا.
2 – روسيا العودة من البوابة العسكرية
اعتمدت روسيا، خاصة بعد 2015، على التدخل العسكري المباشر (في سوريا)) والمقاولات العسكرية الخاصة (فاغنر))لتحقيق حضورها في الشرق الأوسط وإفريقيا.
3 – الصين الهيمنة الاقتصادية الناعمة
تبنت بكين استراتيجية “طريق الحرير الجديد” كأداة للهيمنة الاقتصادية الهادئة، من خلال مشاريع بنى تحتية وشراكات تجارية واستثمارات استراتيجية في الموانئ والمناجم والبنية الرقمية.
خامساً: تفاعل الأدوات وتعدد ساحات الصراع
لم تعد أدوات الهيمنة معزولة عن بعضها البعض، بل تتكامل أو تتنافس في الساحة الواحدة. في العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان نجد تقاطعاً بين الأذرع الإيرانية والتدخلات التركية والإسرائيلية، في ظل تنافس أمريكي-روسي-صيني على إعادة تشكيل النظام الإقليمي.
خاتمة
التحول الأساسي في مشهد الهيمنة الإقليمية والدولية يكمن في تعدد الفاعلين والأدوات. لم تعد الدولة وحدها هي الفاعل، بل تشاركها الشركات، والمليشيات، وشبكات الإعلام، والمصالح العابرة للحدود. ويُعاد تعريف مفهوم “الهيمنة” نفسه من السيطرة الكاملة إلى القدرة على التأثير والاحتواء وتوجيه المسارات دون سيطرة شاملة.