الذات في مرايا الآخر: قراءة في جدلية الهوية والتشظي في رواية ماجدولين

الدكتورة ربا رباعي / دكتوراه لغة عربية – نقد وبلاغة
أستاذة جامعية / الاردن
مقدمة
تظلّ رواية «ماجدولين»، أو كما تُعرف أيضًا بـ«تحت ظلال الزيزفون»، من العلامات المضيئة في مسار التلقي العربي للرواية الغربية. فقد استطاع مصطفى لطفي المنفلوطي أن يحوّل نصّ ألفونس كار الفرنسي إلى عمل عربيّ النَّفَس والوجدان، وأن يعيد تأويل التجربة الإنسانية بأسلوب يزاوج بين الرهافة الوجدانية والعمق الفلسفي في رؤية الذات والآخر.
ومن بين ما يجعل هذه الرواية جديرة بالدرس اليوم، هو قدرتها على كشف جدلية الذات والآخر، وعلى تمثيل حالة تشظّي الهوية تحت ضغط المجتمع والطبقية والخيبة. فالقضية لا تتعلق بحكاية حب مأساوية فحسب، بل ببحث الإنسان عن ذاته في عالم لا يمنحه الاعتراف، وبسؤال دائم: كيف يرى الإنسان نفسه في مرايا الآخرين؟
أولًا: بين النصين – الفرنسي والعربي
ولد النصّ الأصلي على يد الكاتب الفرنسي ألفونس كار سنة 1859، في سياق الرومانسية الأوروبية التي مجّدت العاطفة والطبيعة والفرد. غير أنّ المنفلوطي لم يكتفِ بالترجمة؛ بل أعاد كتابة النص بأسلوبه المشرقي الذي صاغ به وجدان القارئ العربي في مطلع القرن العشرين.
هكذا أصبح النصّ العربي أكثر من ترجمة: إعادة خلق أدبي وثقافي، مزج بين الحسّ الأوروبي التحليلي والذائقة العربية الوجدانية.
ومن خلال هذا الامتزاج بين ثقافتين، تجلّت ثنائية الذات والآخر: الآخر الغربي الذي أنتج النصّ، والذات العربية التي أعادت تأويله وفق منظومتها الأخلاقية والروحية. وهنا تتأسس إشكالية الهوية بوصفها فعل تأويل مستمر للآخر، وتحوّل الرواية إلى مرآة مزدوجة تعكس التفاعل بين الثقافتين.
ثانيًا: تشظّي الذات في مواجهة الآخر
يظهر بطل الرواية جول بوصفه كائنًا ممزقًا بين مثاليته العاطفية وواقعه الاجتماعي القاسي.
في نظره، تمثّل ماجدولين الحلم النقي، والملاذ الجمالي الذي يتطهّر فيه من شوائب العالم المادي. غير أن هذا الحلم يتهشّم تحت ضغط الطبقية والمصالح، فيتحوّل الحب إلى خيبة، والطهر إلى ألم، والذات إلى كيان منقسم على نفسه.
من هنا، يمكن قراءة الرواية بوصفها رحلة في وعي الذات الممزقة بين النقاء واليأس، بين الحلم والخذلان.
الآخر — سواء أكان المرأة، أم المجتمع أم المال — لا يُرى في الرواية كعدوّ خارجي، بل كمرآة تَنكشف فيها هشاشة الذات.
وكأنّ المنفلوطي، وهو يترجم عن كار، كان في الحقيقة يترجم أزمة الإنسان العربي أمام قيم الحداثة الغربية الصاعدة آنذاك: صراع بين الرغبة في النقاء والرضوخ لسلطة الواقع.
ثالثًا: صورة المرأة ولغة الآخر
ليست المرأة في ماجدولين مجرّد معشوقة، بل رمز للآخر المختلف الذي يختبر صدق الذات. فهي الجمال والمثال، ولكنها أيضًا الوجه الذي يكشف ضعف الإنسان أمام المجتمع والمال.
في وصف المنفلوطي لها: «كانت كأنها زهرة نابتة في أرض من نور» — تتحول المرأة إلى استعارة للجمال المطلق، لكنها ما تلبث أن تصير رمزًا للفقد والخذلان، حين تُمنح للغني وتُحرم من الحبيب الفقير.
لغة المنفلوطي هنا لغة الآخر أيضًا: فهي تحمل في طيّاتها بقايا الحسّ الفرنسي المرهف، لكنها تتشح ببلاغة عربية تصوغ العاطفة بلغة أقرب إلى الشعر منها إلى النثر.
إنها لغة الوجد الممزوج بالاغتراب، حيث يتجلّى التناقض بين النقاء الجمالي والمأساة الإنسانية، فيتحول الجمال ذاته إلى مأساة.
رابعًا: الذات العربية في مواجهة الآخر الغربي
تطرح الرواية — في بعدها العميق — سؤالًا يتجاوز الحكاية: كيف يتعامل الإنسان العربي مع الآخر الغربي دون أن يفقد ذاته؟
المنفلوطي لم يكن مجرد مترجم، بل مؤوِّل حضاري حاول أن يكيّف القيم الرومانسية الأوروبية مع الحسّ الأخلاقي العربي.
ومن خلال هذا الفعل التأويلي، تتأسس علاقة جديدة بين الذات والآخر، قوامها الحوار لا التبعية، والتمثّل لا الاستلاب.
في ماجدولين، لا ينتصر الحب ولا تنهزم الكرامة؛ بل ينتصر الوعي الإنساني الذي يدرك هشاشته، ويكتشف أن الهوية ليست جوهرًا ثابتًا بل كينونة تتشكّل في مواجهة الآخر.
خامسًا: أفق القراءة الجديدة
إن إعادة قراءة ماجدولين اليوم، في ضوء مفاهيم الهوية والاختلاف وتشظي الذات، تتيح لنا استعادة نصّ كلاسيكي في ضوء أسئلة معاصرة.
فالنصّ لا يتحدث عن الماضي بقدر ما يعبّر عن الحاضر — حاضر الذات العربية التي لا تزال تبحث عن توازنها بين تراثها وواقعها، بين عاطفتها وعقلانيتها، بين انتمائها المحلي وانفتاحها على الآخر.
إنها رواية عن الإنسان في لحظة انكسار، وعن اللغة بوصفها ملاذًا أخيرًا من الألم، وعن الكتابة كفعل مقاومة ضدّ النسيان
المراجع المقترحة
- مصطفى لطفي المنفلوطي، ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون، دار الهلال، القاهرة.
- كمال أبو ديب، جدلية الذات والآخر في الأدب الحديث، دار الفكر المعاصر.
- عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي.
- مي عبد الله، تحولات الهوية في السرد العربي الحديث.
- سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي.
- بول ريكور، الذات كآخر (ترجمة جورج زيناتي)
خاتمة
تبدو ماجدولين، في قراءتها الحديثة، أكثر من مجرد قصة حبّ مأساوية؛ إنها سيرة الذات الممزقة في مرايا الآخر، ورحلة وعي تتنقّل بين اللغات والثقافات بحثًا عن معنى الوجود.
فيها يتجلّى الأدب بوصفه مساحةً للتأمل في الذات الإنسانية، وإعادة صياغة العلاقة بالآخر، لا عبر الصراع، بل عبر الاعتراف المتبادل بإنسانية الألم والجمال.
إنها رواية تُذكّرنا بأن الأدب — حين يلامس جوهر الإنسان — يتجاوز الزمان والمكان، ويظلّ حيًّا في كل قراءة جديدة.