لجنة الصناعة و الطاقة

علاقة تلوث الهواء بزيادة الأمراض السرطانية والمزمنة في العراق

د. سعاد ناجي العزاوي

أستاذ مشارك في الهندسة البيئية

22/9/2025

ملاحظة: سيتم نشر تفاصيل هذه الدراسة ضمن مجلة اوروك التي يصدرها المنتدى العراقي للنخب والكفاءات، (العدد الرابع السنة التاسعة / تشرين الأول 2025)

تُعد مشكلة تلوث الهواء واحدة من أخطر التحديات البيئية التي تواجه المدن العراقية في العقود الأخيرة، وبخاصة العاصمة بغداد التي تصنّف بشكل متكرر ضمن أكثر عشر مدن ملوّثة في العالم. ولا يقتصر التلوث على بغداد فحسب، بل يمتد ليشمل مدنًا أخرى مثل البصرة وذي قار حيث تتداخل مصادر التلوث الصناعية، والنفطية، والزراعية، والعمرانية. إن تلوث الهواء لا يمثل قضية بيئية فحسب، بل هو أزمة صحية واقتصادية واجتماعية ذات أبعاد خطيرة، إذ يؤدي إلى انتشار الأمراض السرطانية والمزمنة ويؤثر بشكل مباشر في جودة الحياة ومستوى المعيشة.

يعرف تلوث الهواء بأنه احتواء الغلاف الجوي على مواد وغازات وجسيمات صلبة أو سائلة ضارة بصحة الإنسان والكائنات الحية والبيئة الطبيعية. وتشمل الملوثات الأساسية الغازات مثل أول أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والكبريت، والمركبات العضوية المتطايرة، والجسيمات الدقيقة (PM2.5 وPM10)، بالإضافة إلى المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم والكروم. ويُقاس مستوى التلوث عبر محطات رصد متخصصة لقياس تراكيز هذه المواد، إلا أن العراق يفتقر إلى شبكة فعالة ومستمرة من أجهزة القياس مما يزيد من صعوبة السيطرة على المشكلة.

مصادر وملوثات الهواء

  • قطاع الطاقة والإنتاج النفطي

يمثل هذا القطاع المصدر الأكبر للتلوث، حيث تعتمد بغداد على محطات توليد الطاقة الكهربائية الحرارية التي تعمل بالوقود الأحفوري منخفض الجودة، دون وجود أنظمة متقدمة لمعالجة الانبعاثات. ويضاف إلى ذلك اعتماد ملايين المولدات الأهلية والتجارية التي تطرح مزيجًا خطيرًا من الغازات السامة والجسيمات الدقيقة، مما يرفع من احتمالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والسرطان. كما يُعد حرق الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط من أبرز مصادر التلوث، إذ يحتل العراق مرتبة متقدمة عالميًا في معدلات حرق الغاز، الأمر الذي يفاقم الانبعاثات الملوثة ويُهدر موردًا اقتصاديًا مهمًا، كما يساهم حاليا حرق الغاز الطبيعي من حقول شرق بغداد مثلا في زيادة وضع التلوث في العاصمة بغداد.

2 – قطاع النقل والمواصلات

تحتوي بغداد على ما يقارب خمسة ملايين مركبة، كثير منها قديمة وتفتقر إلى أنظمة احتراق كفوءة، مما يساهم في إنتاج كميات هائلة من الغازات السامة والمركبات العضوية المتطايرة. وتشكل هذه الانبعاثات مع أشعة الشمس ظاهرة الضباب الدخاني، التي تتفاقم في ظل ظاهرة الانقلاب الحراري الجوية، فتحتجز الملوثات قرب سطح الأرض. هذا الوضع يهدد الصحة العامة ويزيد من معدلات الإصابة بأمراض القلب والجهاز التنفسي.

3- حرق النفايات

يمثل حرق النفايات في مواقع الطمر غير المرخصة والتي يتجاوز عددها 149 موقع، اثنين منها داخل حدود امانة العاصمة.  إضافة إلى محارق المستشفيات غير المطابقة للمواصفات والتي تتجاوز 295 محرقة في مختلف مناطق العراق، مصدرًا آخر للتلوث. إذ تنبعث من هذه العمليات مواد شديدة السمية مثل الديوكسينات والمعادن الثقيلة والجسيمات الدقيقة. وتعد هذه الملوثات من أخطر المواد المسرطنة والمسببة للتشوهات الخلقية والأمراض المزمنة.

4- العواصف الترابية والتصحر

تفاقمت في العقود الأخيرة ظاهرة العواصف الترابية في العراق نتيجة انخفاض الإيرادات المائية من نهري دجلة والفرات بسبب بناء السدود على منابع النهرين في دول الجوار، ما أدى إلى تصحر مساحات واسعة من الأراضي. وأسهم انكماش الغطاء النباتي وقطع الأشجار والتوسع العمراني العشوائي في زيادة تركيز الغبار والدقائق العالقة في الهواء، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة أيام العواصف الترابية لتصل في بعض السنوات إلى أكثر من 270 يومًا.

5- المعادن الثقيلة

تشير الدراسات الحديثة إلى وجود تراكيز مرتفعة وخطيرة من المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم والكروم والفناديوم في هواء بغداد، خاصة في المناطق القريبة من مصافي النفط مثل مصفى الدورة ومحطات توليد الطاقة الكهربائية الحرارية. هذه المعادن ترتبط بشكل مباشر بزيادة نسب الإصابة بالسرطان وأمراض الكلى والكبد والجهاز العصبي.

التأثيرات الصحية والبيئية

يمتد أثر تلوث الهواء إلى جميع جوانب الحياة. فعلى المستوى الصحي، يُسجَّل ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية والانسداد الرئوي المزمن. كما أن التلوث يزيد من نسب أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، ويؤثر على صحة الأطفال والحوامل بشكل خاص، مسببًا حالات ولادة مبكرة وتشوهات خلقية.

أما على المستوى البيئي، فإن الملوثات الغازية والدقائق العالقة تسهم في تدهور الغطاء النباتي وضعف الإنتاج الزراعي، فضلًا عن تلوث التربة والمياه نتيجة ترسيب الملوثات الثقيلة. كما أن انبعاث غازات الدفيئة مثل ثاني أوكسيد الكربون والميثان يعزز من ظاهرة الاحتباس الحراري ويزيد من هشاشة العراق أمام التغير المناخي.

الإجراءات والمعالجات المقترحة

لمواجهة هذه التحديات، لا بد من وضع سياسات بيئية صارمة وفعّالة. يمكن تلخيص أبرز الإجراءات فيما يلي:

  1. توسيع شبكة محطات الرصد البيئي وربطها بالأنظمة العالمية لرصد جودة الهواء، مع تفعيل نظام الإنذار المبكر.
  2. تطوير قطاع الطاقة عبر إدخال تقنيات نظيفة وتحسين كفاءة محطات الكهرباء، والتحول إلى الغاز الطبيعي بدلًا من الديزل في المولدات.
  3. تحسين أداء مصافي النفط بتبني تقنيات متقدمة للحد من الانبعاثات وتكرير النفط لإنتاج وقود منخفض الكبريت.
  4. إصلاح قطاع النقل من خلال فرض معايير صارمة لانبعاث المركبات، وتشجيع استخدام النقل العام والمركبات الكهربائية.
  5. إدارة النفايات بطرق حديثة تشمل إعادة التدوير ومنع الحرق العشوائي، وتطوير محارق طبية مطابقة للمعايير.
  6. مكافحة التصحر وزيادة المساحات الخضراء عبر مشاريع التشجير الحضري وحماية الغابات والأراضي الزراعية.
  7. تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية حماية البيئة، ودمج التربية البيئية في المناهج الدراسية.
  8. تطوير الإطار التشريعي والمؤسسي، إذ يحتاج العراق إلى تحديث قوانينه البيئية وتفعيل الرقابة على المؤسسات الصناعية والنفطية.

خاتمة

واضح أن تلوث الهواء في بغداد وبقية المدن العراقية ليس مجرد مشكلة بيئية عابرة، بل هو أزمة وطنية ذات أبعاد صحية واقتصادية واجتماعية خطيرة. إن استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري الرديء، والانتشار العشوائي للمولدات، وحرق النفايات، وغياب الإدارة البيئية الرشيدة، كلها عوامل تؤدي إلى تفاقم الأزمة. ومن دون اتخاذ إجراءات جادة وعاجلة، سيستمر تدهور نوعية الهواء وتفاقم الأمراض المرتبطة به. لذا، فإن وضع استراتيجية وطنية شاملة للحد من التلوث وتحسين الأداء البيئي أصبح ضرورة لا تحتمل التأجيل، لضمان مستقبل صحي ومستدام لأبناء العراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى