لجنة الشباب و الرياضة

أحداث من ذاكرة الرياضة العراقية (حلقة خاصة)

أحداث من ذاكرة الرياضة العراقية

(حلقة خاصة)

أ . د إسماعيل خليل إبراهيم

عضو لجنة الرياضة والشباب

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

محور هذه الحلقة لن يكون استعراض لأحداث رياضية سابقة بل سيكون عن أحد أبرز من صنعوا الأحداث الرياضية في العراق على مدى أكثر من ثلاثين عاماً ، عن القامة الشامخة و القيمة الكبيرة التي ستبقى خالدة في سفر الرياضة العراقية ، عن معلمنا و أستاذنا الراحل الكبير الأستاذ مؤيد البدري الذي رحل عن دنيانا قبل أيام ، والذي كان خبر رحيله صدمة ليس للوسط الرياضي العراقي فقط بل للعراقيين جميعاً . كيف لا وهو الذي كان الضيف الدائم في بيوتهم مساء كل يوم ثلاثاء .

   سأستعرض وباختصار بعض محطات مسيرة الراحل الكبير الذي تشرفت بأني أحد تلامذته في كلية التربية الرياضية بداية سبعينات القرن الماضي .

   الأستاذ مؤيد البدري أحد أفراد الرعيل الأول الذين أكملوا دراستهم العليا خارج العراق حيث حصل على شهادة الماجستير في التربية الرياضية من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1960 وانضم إلى الملاك التدريسي لكلية التربية الرياضية / جامعة بغداد ولحسن حظنا أننا كنا من بين تلامذته .

   لن نتحدث عن خبراته و معارفه و علميته لأنها ليست مجال شك إذ كان موسوعة رياضية تمشي على الأرض لكننا سنتطرق لبعض خصاله . لقد وهبه الله عز وجل مهابة وقبولاً لدى الناس قل نظيره وليس أدل على ذلك من مكانته وشعبيته والحب الذي حضي به من العراقيين جميعاً . لم يكن فارع الطول لكنك تشعر وأنت تقف أمامه إنك أمام جبل ليس من سبيل للوصول إلى قمته وكنت ترى مقولة تواضع العلماء مجسدة في تعامله مع الجميع ، فعلى الرغم من علميته و خزين معارفه و معلوماته و خبراته و المواقع التي شغلها إلا أنه كان يتحدث مع الناس ومع طلبته وكأنه واحد منهم لا يزيد عنهم شيئا .

عندما يحدثك خارج قاعة الدرس لا تكاد تسمع صوته على الرغم من أنه صاحب صوت جهوري ذلك الصوت العذب الذي حباه الله به ، الصوت الذي يدخل القلوب دون استئذان . يبادرك بالسلام قبل أن تبادره ، لا تفارق الإبتسامة وجهه فتزيده وسامة ، لم يتجاوز يوماً بحق إنسان ، وعلى الرغم من هدوئه إلا أنه كان صلباً في مواجهة الصعاب لم يتذمر يوماً مما واجهه من مواقف صعبة والتي نُقِلَ بسبب إحدها إلى محافظة البصرة ولم يضعف . اختار الرحيل إلى دولة قطر بسبب عزة نفسه وإبائه و إصراره على مواقفه التي كان من أبرزها تصديه لجميع الضغوط التي مورست عليه ومن مختلف الجهات والمستويات كي يعود لتقديم برنامج الرياضة في أسبوع لكنه رفض وبإصرار احتراماً لنفسه و لتأريخه و للقرار الذي اتخذه .

   أما الحديث عن سيرته المهنية في المجال الرياضي فحدث ولا حرج إذ تولى سكرتارية الاتحاد العراقي لكرة القدم لأكثر من مرة ، و رئاسة الاتحاد لأكثر من مرة ، وأمين عام اللجنة الأولمبية الوطنية العراقية ، وعضو الاتحاد العربي لكرة القدم ، وعضو اللجنة التنفيذية في الاتحادين الأسيوي و الدولي لكرة القدم . وإذا ما كان دوره في الاتحاد العراقي لكرة القدم واضحاً للجميع إلا أن مكانته و دوره و مواقفه في الاتحادين الأسيوي و الدولي كانتا موضع فخر للعراقيين جميعاً .

سأذكر موقفين من مواقفه تلك ، الأول إختياره من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم عام 1968 ليكون أحد أعضاء الوفد الذي أرسله الاتحاد إلى المكسيك لتفقد الملاعب التي ستقام عليها مباريات كأس العالم عام 1970 وتقديم تقرير يبين أهلية تلك الملاعب من عدمها ، مهمة تحتاج إلى رجال ذوي خبرات كبيرة و مصداقية عالية و تدلل من جهة أخرى على ثقة الاتحاد الدولي بأعضاء اللجنة وإنه اختار الأكثر كفاءة و ملائمة لهذه المهمة الصعبة ، نعم كان الأستاذ مؤيد البدري أحد أعضاء تلك اللجنة وكان أهلاً لها .

   ويقدم لنا الموقف الثاني صورة عن مكانته و تأثيره وشجاعته وحبه للعراق عندما كان عضواً في اللجنة التنفيذية للاتحاد الأسيوي لكرة القدم ، كان ذلك الموقف في دورة الألعاب الأسيوية التي أقيمت في الهند عام 1982 وشارك العراق بالعديد من اللعبات فيها ومن بينها كرة القدم حيث وصل منتخبنا إلى المباراة النهائية . عندما علم الأستاذ مؤيد بإسم الحكم الذي كُلِفَ بقيادة المباراة اعترض على تكليفه وطالب بتغييره – وهو الذي كان يعرف كل صغيرة وكبيرة عن حكام أسيا حينها وما أثير من لغط حول العديد منهم – حاول المنظمون إقناعه بالعدول عن قراره وإن هذه ستكون سابقة وهنا برز موقفه الشجاع و الجريء فقام بإبلاغ اللجنة المنظمة أنه في حال عدم تغيير الحكم فإن المنتخب العراقي لن يدخل أرض الملعب وعلى المنظمين التصرف لاسيما وإن المباراة النهائية كانت برعاية رئيسة وزراء الهند حينها أنديرا غاندي ، عندها أُسقِطَ في يد المنظمين وتم تغيير حكم المباراة وفاز منتخبنا بالمباراة و بالميدالية الذهبية .

   شغل الأستاذ مؤيد البدري منصب مدير عام الرياضة المدرسية لسنوات عدة ، ومنصب مدير عام في وزارة الشباب ، وأخيراً مديراً للنادي العربي الرياضي في دولة قطر ، ومن المؤكد أنه لم يكن ليكلف بهذه المواقع والمهام والمسؤوليات ويستمر فيها سنوات طوال لولا الثقة بكفاءته وجدارته وخبراته وأنه أهل لها .

   في مجال الإعلام بمختلف ميادينه كان الأستاذ مؤيد فارساً لا يجارى فقد تولى رئاسة تحرير جريدة الملاعب ، وأصبح فارس التعليق الرياضي ونجمه الأوحد منذ عام 1963 ، وهنا لابد من وقفة فالتعليق الرياضي في العراق – من وجهة نظري – ولد على يد الأستاذ مؤيد وحين تركه لم يستطع أحد أن يسد جزءاً صغيرً من الفراغ الذي تركه ، كانت مميزاته في التعليق عديدة ، نبرات صوته التي تشد المستمعين وتحركهم ، وبسب معلوماته الغزيرة في مجالي التدريب والتحكيم أصبح تعليقه بمثابة محاضرات مجانية يقدمها للمشاهدين باسلوب مبسط وكلمات سهلة مما ساهم بالإرتقاء بثقافتهم في مجال كرة القدم وزيادة متعة مشاهدتهم للمباريات وهو ما افتقده جميع من زامله أو جاء بعده ، لم يكن يفتعل الصراخ أو يتصنع الهدوء وهو يعلق بل كان لكل موقف نبراته الخاصة التي تنسجم معه .

   في شهر أذار من عام 1963 كانت اطلالته الأولى من على شاشة التلفزيون عبر أشهر برنامج في تأريخ التلفزيون العراقي الرياضة في أسبوع الذي استمر يقدمه الراحل الكبير بنجاح منقطع النظير طيلة 30 سنة ، البرنامج الذي كانت شوارع بغداد تكاد تخلوا من المارة يوم تقديمه .

قدم الأستاذ مؤيد للمشاهد من خلال برنامجه المتعة و الخبر و المعلومة فكان بحق مدرسة ارتقت بالثقافة الرياضية لعموم المشاهدين الذين كانوا من فئات المجتمع كافة وهو ما لم يحظ به أو يقدمه أي برنامج تلفزيوني بعده . وعندما أعلن الأستاذ مؤيد أن الحلقة التي كان الناس يشاهدونها ستكون الأخيرة أصيبوا بالصدمة ولم يكن أحد منهم يصدق أن ضيف بيوتهم في كل يوم ثلاثاء لن يزورهم بعد الأن . ولعل أبرز دليل على تميز البرنامج ومقدمه أن جميع البرامج الرياضية التي قُدِمَت بعده ولغاية يومنا هذا لم تحظ ومقدميها ولو بجزء بسيط من اهتمام الناس وإقبالهم على مشاهدتها . 

   واعترافاً بمكانة وقيمة وكفاءة الأستاذ مؤيد البدري اختاره اتحاد إذاعات الدول العربية ضمن الفريق العربي الموحد الذي شكله للتعليق على وقائع الألعاب الأولمبية بدءاً من أولمبياد مونتريال 1976 ، وبطولة كأس العالم في الأرجنتين عام 1978 .

   إن تعدد المهام والمسؤوليات التي تولاها وقام بها الأستاذ مؤيد البدري وتنوعها تضعنا أمام سوأل كبير هو : كيف تسنى لشخص واحد القيام بكل ذلك والنجاح فيه إلى أقصى درجات النجاح ؟ وكم هو حجم المواهب التي حباه الله عز وجل بها ليحقق ذلك ؟ فكل عمل أي كان حجمه ونوعه يحتاج من يقوم به إلى شيء من الموهبة ليضمن النجاح فكيف الحال ونحن أمام العديد من الأعمال الكبيرة والصعبة والمعقدة التي ترتبط بعموم الناس ؟ الإدارة تحتاج إلى موهبة لا علاقة لها بموهبة التعليق أو تقديم برنامج و كلاهما يحتاج إلى موهبة خاصة به ، والعمل في الصحافة يحتاج إلى نمط أخر من الموهبة ، وكل مجال من هذه المجالات بحاجة ماسة إلى معارف وخبرات ومعلومات خاصة به تختلف عن سواه . لقد تجسد هذا كله في شخص الراحل الكبير الأستاذ مؤيد البدري لذلك حقق النجاح الكبير فيها جميعاً .

   برحيل الأستاذ مؤيد البدري فقد العراق أخر لؤلؤة في عِقد الرجال الذين أَثروا مسيرة الرياضة العراقية وأَثَروا فيها ، ورفعوا اسم العراق عالياً وكانوا خير سفراء له أينما حلوا وحيثما نزلوا .

   أختم بعبارة ما زالت عالقة بذهني منذ الحلقة الأخيرة لبرنامج الرياضة في أسبوع عام 1993 قالها الأستاذ مؤيد ( سأترك التلفزيون كما دخلته ) ثم لوح بيده محيياً المشاهدين . الأن وبعد 29 سنة أعلق على تلك العبارة فأقول : أيها الراحل الذي يصعب تعويضه إنك لم تخرج من التلفزيون كما دخلته ، دخلته والقليل من العراقيين يعرفونك لكنك غادرته وأنت تسكن قلوب العراقيين وضمائرهم ، ومحط احترامهم وتقديرهم ومحبتهم وستبقى كذلك تتناقل الأجيال سيرتك إلى ما شاء الله ، وستبقى خالداً في ذاكرة الرياضة العراقية ، وليتك تعلم حجم حزننا على رحيلك ، صدقني أستاذي أن دموعي تنهمر الأن وأنا أكتب هذه الكلمات عنك .

   رحمك الله وغفر لك وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا وألهمنا ومحبيك الصبر على رحيلك . إنا لله وإنا إليه راجعون .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى