لجنة العلوم السياسية

الطبقة الوسطى في العراق والدور المفقود

الطبقة الوسطى في العراق والدور المفقود

الدكتور دهام محمد العزاوي

عضو لجنة العلوم السياسية

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

الشائع في عراق اليوم هو ارتداد الوعي الوطني عند الكثير من العراقيين ، حيث بات السؤال عن العشيرة والطائفة والملة والقومية سؤالاً معتاداً لكل شخص يقابلك في دائرة او في ملتقى او في مناسبة اجتماعية ، وتلك لعمري مشكلة بات يتوارثها العراقيون حديثا بعد ان انحطت قيمهم الوطنية وتردى مفهوم العراق في عقلية الكثيرين منهم بعد اصبحت القيم ما دون الوطنية هي الحاكمة لسلوكياتهم وردود افعالهم ، قد لا يكون العتب على الجهلة وقليلو الثقافة كبير حينما ينزلقون وراء شعارات لا تمت الى روح المواطنة بشي ولكن العتب كل العتب على اناس نحسبهم مثقفون وقادة رأي باتوا يتحصنون وراء اغطية طائفية وعشائرية ومناطقية وجهوية لحسابات فردية ومصالح شخصية .

ان الطبقة الوسطى هي البوصلة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي توجه وتضبط حركة المجتمع في انتقاله نحو الاستقرار والوحدة الوطنية، فهي بما تحتويه من نخب علمية وثقافية ورموز ادبية وشعرية وتخصصات علمية وانسانية تعد الاكثر تأثيرا في تطور المجتمع وتنمية شخصيته ، عبر الرموز والافكار والتصورات الجامعة والدافعة لخلق شعور موحد بالانتماء الى الجماعة الوطنية.

وقد عد العراق عبر تاريخه وحاضره منجما للشخصيات العلمية والثقافية والتجارية والصناعية والعسكرية التي لعبت دورا في بناء مرتكزات هويته ، ورفع وعي المجتمع العراقي بذاته وبقيمه وبشخصيته الجامعة ، وطوال عمر الدولة العراقية الحديثة 1921 والى اليوم ظل المجتمع العراقي منتجا للكفاءات العلمية والنخب الفكرية التي لم تداهن السلطة وتتقرب الى مكاسبها ، وتحملت الاقصاء والتهميش في مراحل مختلفة من حياتها ، ولكنها ربحت تاريخا مشرقا في شرف المسؤولية الوطنية ، اذ لازالت مواقفهم الوطنية ، وافكارهم في الوحدة والتضامن بين العراقيين ، تمثل محطات مؤثرة تتناقلها الاجيال .

مواقف وطنية

ومع كثرة المواقف الوطنية لرجال الفكر والثقافة في العراق ، الا ان قراءة تاريخ الطبقة الوسطى بإمعان ، يوحي بان تلك المواقف الوطنية ، لم تكن نابعة من موقف طبقي موحد حيال الاحداث الكبرى في تاريخ العراق ، وانما من مواقف فردية او فئوية داخل الطبقة الوسطى ، وتبعا لانتماءات النخب الفكرية ، وميولها الايدلوجية وانعكاسا للظرف السياسي السائد انذاك ، ولهذا فان الاعتقاد الغالب هو ان الطبقة الوسطى لم تثبت على مواقف سياسية واجتماعية واضحة. وكانت فريسة للنظم العراقية المتعاقبة وسياساتها في الاحتواء والاستدراج وكسب الولاء ، ولاشك ان التخلف في المجتمع العراقي في بدايات تكونه ودور الاحتلالين العثماني والبريطاني في تنمية نخب موالية ، وكذلك تحالف النظام الملكي في العراق مع فئة الاقطاع والكارتلات الاقتصادية العالمية ، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي وكثرة الانحيازات الايدلوجية للنظم الحاكمة بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي ، والظروف المعقدة التي مر بها العراق لاحقا كالحرب العراقية الايرانية 1980-1988 وحرب تحرير الكويت 1990  وما تبعه من حصار اقتصادي دولي وسياسات استبدادية لنظام صدام حسين ، كلها لعبت دورا في تقلب ادوار الطبقة الوسطى وتأكل دورها وضعف تأثيرها ، فقد غادر العراق الاف النخب العلمية والفكرية والثقافية واستقرت في اوطان الهجرة بحثا عن ملاذات امنة ورغبة في العيش في اجواء من الحرية والكرامة .

حتى اذا جاء الاحتلال الامريكي للعراق  2003 كانت الطبقة الوسطى قد وصلت الى مرحلة الاعياء والعجز او ربما الشلل في وقف تداعيات الاحتلال على الوحدة الوطنية بعد ان اخذت الممارسات الطائفية والعنصرية مأخذها في تفتيت الصف الوطني واظهار العراق كدولة فاقدة لمقومات التجانس الوطني .

ومع استمرار الاحتلال وتداعياته المختلفة على المواطن العراقي وعلى القوى الفكرية والثقافية المعارضة له من مثقفين واساتذة جامعات وضباط جيش وفنانين وصحفيين وتجار وصناعيين مناوئين له ، اقصاء واجتثاثا ومن ثم قتلا واعتقالا وتهجيرا ، فان دور الطبقة الوسطى قد تلاشى تقريبا لاسيما مع موجات النزوح والهجرة المتصاعدة  لما تبقى من ابناء تلك الطبقة خارج العراق ، اما من بقي منهم فقد ظل يتخبط بين الانزواء والصمت والاغراء ، اذ مع تغوّل ممارسات الابعاد في للآراء الحرة المعارضة وتصاعد الارهاب والتكفير بكل الوانه وتغلغل تدخلات القوى الدولية والاقليمية في تصفية الطبقة الوسطى واجهاض دورها في اعادة استنهاض العراق ، فان الكثير من النخب الفكرية التي اّثرت البقاء في العراق ، قد ضعف تأثيرها في الواقع الاجتماعي والسياسي خوفا من ملاحقة السلطة وعصابات الارهاب والجريمة ، في حين ان بعضها اندفع الى الانغماس في ملذات السلطة ومغرياتها بعد ان اخذ يبرر لنفسه قدرته على اصلاح الاوضاع الفاسدة .

نظام دكتاتوري

ان السؤال الذي يطرح هنا وبقوة بعد خمسة عشر من التغيير من نظام دكتاتوري الى نظام يوصف بانه ديمقراطي تعددي هو اين دور النخب المثقفة في الحفاظ على وحدة العراق هل شاهدنا مظاهرة مليونية حركها المثقفون؟ هل مارس اساتذة الجامعة والمعلمون وضباط الجيش دورهم في ضبط من بإمرتهم من الطلاب والجنود ورجال الامن في عدم الانزلاق بأقوالهم وافعالهم الى ممارسات عشائرية وعنصرية ؟ هل مارس مثقفو وفنانو العراق دورا في توجيه اغانيهم وبرامجهم ومسلسلاتهم نحو تعزيز قيم التعايش بين العراقيين ؟ هل مارس مثقفو السلطة دورهم في ضبط الخطاب السياسي لكتلهم واحزابهم باتجاه السلام والتعايش ونبذ الكراهية والعنف بين العراقيين ؟  ان الاجابة على تلك الاسئلة لن تكون ايجابية بل ربما مخيبة بعد ان لاحظنا ان دور الطبقة الوسطى في العراق لم يرتق الى مستوى بناء الدولة المدنية والنموذج الديمقراطي المنشود ، اذ بقيت جهود المثقفين مشتتة بحكم سطوة الاحتلال الامريكي ولاحقا سياسات التهميش التي مارستها الحكومات المتعاقبة حيال النخب المثقفة ووضع الشخصيات غير المناسبة في مواقع المسؤولية استنادا على القرابة والانتماء الحزبي والعنصري وهوما ادى الى تشتيت دورها في البناء الوطني.  ان استعادة دور المثقف ودور النخب الوسطى في احداث الحراك الوطني المنشود لا يمكن ان يتم ، الا بتقوية مؤسسات الدولة المدنية وتفعيل الدستور والقوانين التي تتيح التنافس بين ابناء الوطن على اساس الكفاءة والمساواة والانتماء الوطني ، وحماية التنوع والثراء في مشارب الطبقة الوسطى والتي تمثل بالقطع انعكاسا لثراء المجتمع العراقي وتنوعه .

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى