اللجنة القانونية

وجوب حضور المتهم أثناء الشهادة

 

وجوب حضور المتهم أثناء الشهادة

الأستاذ الدكتور براء منذر كمال عبداللطيف

رئيس اللجنة القانونية ، المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

أستاذ القانون الجنائي في جامعة تكريت

 

 

 

ابتداءً فإن قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل نظم الإجراءات الخاصة بالشهادة ، ومن ضمنها توجيه الأسئلة الى الشاهد ومناقشته إذ نصت الفقرة (ب) من المادة (63) على أنه

” للمتهم وباقي الخصوم ابداء ملاحظاتهم على الشهادة، ولهم ان يطلبوا اعادة سؤال الشاهد او سماع شهود آخرين عن وقائع اخرى يذكرونها الا اذا رأى الحاكم ان الطلب تتعذر اجابته او يؤدي الى تأخير التحقيق بلا مبرر او تضليل العدالة” ، كما نصت الفقرة (أ) من المادة (64) على أنه : (أ – لا يجوز توجيه أي سؤال الى الشاهد الا بإذن القاضي او المحقق ولا يجوز توجيه اسئلة اليه غير متعلقة بالدعوى او اسئلة فيها مساس بالغير ولا توجيه كلام الى الشاهد تصريحاً او تلميحاً او توجيه اشارة مما ينبني عليه تخويفه او اضطراب أفكاره).

والجدير بالملاحظة أن النص أعلاه اعطى الحق للمتهم وباقي الخصوم “في ابداء الملاحظات” وتوجيه الأسئلة” ، ولم ينص صراحة على وجوب الحضور .

وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين مراحل الدعوى الجزائية، ففي مرحلة المحاكمة يتوجب حضور المتهم سواء كان موقوفاً او مكفلاً إذ يتم تبليغه بموعد المحاكمة وعندئذٍ سيتمكن من مواجهة جميع  الشهود وابداء ملاحظاته وتوجيه الأسئلة اليه بصورة مباشرة او عن طريق محاميه بإذن من المحكمة ، فالمتهم سوف يكون موجود ولا إشكالية في الامر .

اما أذا كان المتهم هارب او غائب وجرت المحاكمة بصورة غيابية وبعد اتخاذ الإجراءات القانونية الخاصة بالتبليغ ، فسيكون المتهم قد اهدر حقه بالدفاع عن نفسه بنفسه ، ومع ذلك فإن القانون أوجب ان يحضر وكيله للدفاع عنه وفي حال عدم وجود محامي تنتدب المحكمة محامياً للدفاع عنه ، ويمكن للمحامي عندئذٍ مناقشة الشهود وابداء ملاحظاته وتوجيه الأسئلة لهم .

أما في مرحلة التحقيق، وبما ان القانون لم يوجب تبليغ  المتهم وحضوره اثناء الاستماع لشهادات الشهود ، وانما منحهم الحق في ابداء الملاحظات وتوجيه الأسئلة  فقط ، وهذا يعني ان عدم   تبليغ المتهم وحضوره للاستماع الى شهادات الشهود لا يعد خرقاً للقانون اذا لم يحظر والسبب في ذلك يعود الى ان هذه المرحلة هي مرحلة جمع ادلة ولا تنتهي الى ادانة المتهم، وان بإمكان المتهم بعد سماع المحكمة للشهود ان يقدم ملاحظاته عنها لقاضي التحقيق تحريرياً.

فضلاً عن ان الشاهد سوف يحضر لاحقاً في مرحلة المحاكمة وسوف يعيد الشهادة ، واذا غير بأقواله سوف تتلو المحكمة عليه شهادته السابقة وتسأله عن سبب التناقض ، وان المتهم سيكون موجود ويستطيع ابداء ملاحظاته ومناقشة الشاهد وتوجيه الأسئلة له سواء بخصوص شهادته السابقة ام شهادته خلال المحاكمة.

وهناك أسباب عملية أخرى   دفعت بالمشرع الى إعطاء الحق للمتهم في تقديم الملاحظات وعدم وجوب احضار المتهم عند الاستماع الى شهادة الشهود  في هذه المرحلة وهي أسباب عملية وقانونية وواقعية  عديدة جداً . يحتاج سردها وشرحها الى بحث كامل ، ولعل من أهمها :

  • لو اوجب القانون الزام المحكمة بإحضار المتهم عند الاستماع لكل شاهد في مرحلة التحقيق فهذا يعني انه كلما طلبت المحكمة شاهداً ، يتعين عليها ابلاغ المتهم ، والإبلاغات يجب ان تكون بمواعيد سابقة ،وهذا من شأنه ابطاء إجراءات التحقيقات الجنائية، وتأخير حسم التحقيق خصوصاً اذا ما علمنا أن هناك  الكثير من الدعاوى يكون عدد الشهود فيها بالعشرات ، في حين ان من اهم حقوق المتهم وفقاً لقواعد المحاكمة هو حقه في التحقيق والمحاكمة العادلة خلال مدة معقولة ، والذي يسميه البعض  بحق السرعة في الإجراءات الجزائية ، وإن إطالة امد التحقيق فيه ضرر كبير على المتهم الذي غالباً ما يكون موقوفاً ويتمنى انجاز التحقيق بأسرع وقت .
  • ان بعض الشهود يكون في مدينة أخرى ، لا بل قد يكون في دولة أخرى ، وغالباً ما تلجأ المحكمة الى انابة قاضي التحقيق في المنطقة التي يوجد فيها الشاهد للاستماع لشهادته ، اما اذا كان في دولة أخرى فتتم الإجراءات وفق ما بينه قانون أصول المحاكمات الجزائية في الفصل التاسع منه بخصوص الانابة القضائية ، وبالتالي فإن ابلاغ المتهم ولزوم حضوره سيكون متعذراً في الكثير من الأحيان .
  • يمكن تحريك الدعوى الجزائية ضد مجهول ، وتتم اتخاذ الإجراءات القانونية فيها ومن ضمنها الاستماع الى شهادات الشهود ، كما قد يتم توجيه الاتهام الى شخص ثم اثناء التحقيق يظهر ان هناك متهمين اخرين شركاء في الجريمة ، او ان هناك متهم اخر غير الذي تم اتهامه اولاً ، ولو فرضنا ان القانون قد اخذ بعكس ذلك ، فكيف للمحكمة ان تتعرف على المتهم المجهول ، او على المتهم الحقيقي قبل ان تباشر بالإجراءات ومن ضمنها الاستماع الى شهادات الشهود ، كما ان  بطلان الإجراءات القانونية في حال عدم حضور المتهم ، يعني انه عند توجيه الاتهام لكل متهم جديد ستبطل الإجراءات المتخذة مسبقاً وسينبغي اعادتها برمتها ، وهذا مخالف لقواعد العدالة وفيه تأخير في سير التحقيق وعرقلة لإجراءات الدعوى الجزائية واضرار كبير في مصلحة المتهم ، لا بل انه لا يستبعد عملياً ان يلجأ المشتكي الى تجزئة الاتهام ، وتجزئة الأدلة بغية المماطلة في التحقيق واعادته مجدداً عند توجيه الاتهام لكل متهم.
  • ان قانون أصول المحاكمات الجزائية أجاز الاستماع لشهادات الشهود الذين يطلبهم اطراف الدعوى او المحكمة من تلقاء نفسها فضلاً عن انه أجاز للمحكمة الاستماع الى شهادة الشاهد من تلقاء نفسه ، وهذا يعني  انه لو حظر شاهد من تلقاء نفسه فإن على المحكمة ان لا تستمع اليه وانما تأجيل ذلك حتى يتم تحديد موعد للاستماع وتبليغ المتهم وحضوره امام المحكمة ، وبما ان هذا الشاهد الذي جاء من تلقاء نفسه ربما يكون من المتعذر او من الصعب حضوره مره أخرى امام المحكمة  فهذا يعني ان المطالبة بتعديل القانون ووجوب حضور المتهم سوف يؤخر الإجراءات الجزائية في هذه الحالة ايضاً ، كما انه قد يؤدي الى تعذر سماع شهادات قد تكون مخمة وحاسمة في الدعوى .
  • اننا في مجتمع يغلب عليه الطابع العشائري اولاً ، وظاهرة  شيوع السلاح خارج يد الدولة ثانياً، ووجود الجهات المسلحة بمخلف اصنافها وانتماءاتها ثالثاً والتي أصبحت تملك السلاح والسلطة . وان الواقع يشير حالياً  الى تهديد الكثير من الشهود قبل ادلاءهم بشهاداتهم ، مما أدى الى امتناع الكثير منهم واحجامهم عن تقديم شهاداتهم ، او الحضور امام المحكمة وتقديم شهادات مغايرة للواقع، رغم ان المتهم لم يتم إبلاغه بموعد حضور الشاهد ، فماذا لو عدلنا القانون واوجبنا  تبليغ المتهم وحضوره اثناء الشهادة ، فمن المنطقي ان هذه الحالات ستتضاعف وتزداد .

6- ولعل السبب السابق قد دفع بالمشرع العراقي الى اصدار (قانون حمايــة الشهود والخبراء والمخبرين والمجنى عليهم) رقم 58 لسنة 2017 والذي   نص  في المادة  (6) منه على انه  ( ـ لقاضي التحقيق او المحكمة بناء على الطلب المنصوص عليه في المادة (3) من هذا القانون فرض أي من اوجه الحماية الاتية :

اولاـ تغيير البيانات الشخصية مع الاحتفاظ بالأصول

ثانيا ـ مراقبة الهاتف

ثالثا ـ عرض الشهادة او الاقوال بالوسائل الالكترونية او غيرها او تغيير الصوت او اخفاء ملامح الوجه او غيرها

رابعا ـ وضع الحراسة على المشمول بالحماية او مسكنه .

خامسا ـ تغيير مكان العمل بصورة مؤقتة او دائمة بالتنسيق مع جهة العمل إذا لم تكن طرفاً في القضية او وزارة المالية

سادسا ـ وضع رقم هاتف خاص بالشرطة او الجهات الامنية الاخرى تحت تصرف المشمول بالحماية للاتصال به عند الحاجة

سابعا ـ توفير مكان أقامة مؤقت

ثامنا ـ اخفاء او تغيير الهوية في المحاضر الخاصة بالدعوى . تاسعاـ تأمين الحماية اثناء الانتقال من والى المحكمة). .

وان طلب وضع الشاهد تحت الحماية  يستلزم  اجراء تحقيقات مسبقة قبل البت به والتحقق من جديته ،  وبالنتيجة فإذا اخذ المشرع العراقي بالتعديل ، فإن هذا يعني من الناحية العملية ان  بعض  الشهود سيدعي خشيته من بطش المتهم أو ذويه أو من يعمل معهم او لمصلحتهم ، وان المطالبة بوضع الشاهد تحت الحماية ستستغرق وقتاً طويلاً ومن ثم يصار الى الاستماع الى شهادته ، وهذا يعني تعقيد الإجراءات الجنائية اولاً ، بما يؤخر حسم الدعاوى وتراكمها لدى المحاكم ، كما سيؤدي الى إطالة امد التحقيق والخاسر الأول في هذه الاطالة هو المتهم الذي سينتهك حقه  في اتخاذ  إجراءات قانونية في فترة معقولة.

7- أن القول بأننا البلد الوحيد الذي لا يزال يأخذ بهذا الأسلوب هو كلام  جزافي ينقصه الدليل القانوني  و مشوب بعدم الدقة ، اذ ان الواقع القانوني ومن خلال اطلاعنا على التشريعات الخاصة بالإجراءات الجزائية  يناقض ذلك تماماً ، فالكثير من الدول العربية والأجنبية تقرر ذات الاجراء الذي بينه المشرع العراقي ، فهي توجب حضور المتهم اثناء المحاكمة ، ولكنها في مرحلة التحقيق تكتفي  بإجازة ذلك مع منح المتهم ومن يقوم مقامه قانوناً الحق في تقديم الملاحظات حول تلك الشهادة.

 

وعلى هدي ما تقدم أرى ان المقترح أعلاه  اذا تم الاخذ به في قانون أصول المحاكمات الجزائية بالصيغة المطلقة سوف يؤدي الى نتائج إيجابية  محدودة لمصلحة المتهم ، ويمكن الاستعاضة عنها بإجراءات بديلة.

في حين سيترتب على المقترح نتائج وخيمة كثيرة تمس حقوق المتهم وحقوق اطراف الدعوى وحق المجتمع في سرعة الإجراءات الجنائية والوصول الى الحقيقية بأسرع وقت وفق المعايير الدولية للمحاكمة العادلة ، وسوف يؤدي الى  المزيد من الإجراءات المعقدة والروتينية في عمل قضاة التحقيق مما سيتسبب في زيادة زخم الدعوى وارباكها .

ومن ناحية ثالثة   قد يؤدي الى نتائج قانونية كارثية لا يقبلها العقل والمنطق القانوني السليم لأنها ستعرقل اتخاذ الإجراءات القانونية عندما يكون المتهم مجهولاً ، وانها ستكون باطلة قانوناً وينبغي اعادتها  عند  توجيه الاتهام بعد ذلك لمتهم معلوم ، كما انها ستؤدي الى بطلان الإجراءات القانونية الخاصة بالشهادة ووجوب اعادتها عند  توجيه الاتهام لكل متهم جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى