اللجنة القانونية

مُشكلات ومعوقات المُحاصصة السياسية في الدستور العراقي لعام 2005 م

 

مُشكلات ومعوقات المُحاصصة السياسية في الدستور العراقي لعام 2005 م

 

د. غازي فيصل حسين آل سكوتي

أكاديمي ودبلوماسي

عضو لجنة العلوم السياسية

المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

 

المقدمة

لقد فقدت فكرة الدولة والجمهورية قدرتها في ضمان التطور الديمقراطي والمشاركة السياسية، بسبب افتقاد منظومات السلطة، شرعية الرضا والقبول الاجتماعي للسياسات وللبرامج، حيث غابت قواعد تكافؤ الفرص بين الناس بسبب التمييز الطبقي أو الاجتماعي أو الديني  والمذهبي، والابتعاد عن تطبيق معايير الكفاءة والمنافسة النزيهة في توزيع الموارد، أي فى شغل الوظائف العامة والخاصة، وتميزت سياسات السلطة في العراق باحتفاظ النخبة أو الأقلية بامتيازاتها المادية والمعنوية المتوارثة، سواء داخل طبقات مجتمعية أو عسكرتارية مغلقة أو في سياقات نخب ومؤسسات، تحتكر السلطة والمال بفعل آيديولوجية مهيمنة أو مرجعيات دينية مستبدة، مما يمنع الطبقات والفئات المختلفة في المجتمع العراقي من المشاركة في العملية السياسية والاسهام في تعظيم الموارد الاقتصادية لضمان التنمية الشاملة.

اتسمت الحياة السياسة بشمولية دينية مذهبية إقصائية، حكمت النظام السياسي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003م، وبدلا من تحقيق وعود بناء نظام ديمقراطي في العراق يضمن الحقوق ودولة المواطن، ظهر استبداد الأحزاب الدينية كواحد من أبشع انواع الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تاريخ العراق المعاصر. هكذا تجاهل النظام السياسي الشمولي، مفهوم حيادية المؤسسات في الانظمة الديمقراطية، حيث تكون الدولة محايدة بين جميع الطبقات والاديان والمذاهب والاعراق والقوميات والثقافات والعشائر، وعدم التدخل في شؤون الاحزاب السياسية، وضمان العدالة في المشاركة وفي الحق باختيار الاتجاهات السياسية والفكرية ضمن دولة مدنية ديمقراطية.

يفترض إذا ان يستهدف النظام السياسي تحقيق نموذج لتنمية سياسية مستدامة تضم جميع الطبقات والقوميات والاديان والمذاهب والاتجاهات والايديولوجيات السياسية، لتحقيق الاستقرار والتوازن والنظام وضمان العدالة. لكن يبدو ان طبائع الاستبداد والثقافة الشمولية في التمركز على الذات Egocentrism، مازالت تتحكم بالأفكار والسياسات الثيوقراطية، لتمثل تحديات خطيرة تواجه التحولات الديمقراطية السياسية والاقتصادية، وتكرس الخصائص الجوهرية للاستبداد والشمولية السياسية في العراق.

ان الديمقراطية هي فلسفة حكم وحياة قائمة على مجموعة من الأسس والمبادئ لضمان الحريات الأساسية الفردية والحقوق العامة، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وسلطة القانون والتعددية السياسية والفكرية والانتخابات الدورية والتداول السلمي للسلطة وللمؤسسات السياسية والاقتصادية، لتنمية دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني في التحول الديمقراطي نحو هوية وطنية جامعة، تكون بديلاً عن مشاعر التناقض والصراع المذهبي أو القومي والعرقي ونشر ثقافة التسامح المجتمعي واحترام القيم الفردية والمصلحة الوطنية، وتوفير فرصة للتعايش بين الطبقات والاديان والايديولوجيات والافكار السياسية، بما يوفر الحق في الاختلاف واحترام الرأي الآخر وضمان الحق السلمي للمعارضة السياسية في المؤسسات التشريعية والمجتمع المدني، بعيدا عن جميع أشكال التعسف والاضطهاد والاعتقالات ومصادرة الحريات والحق في التعبير عن الرأي. مما يمهد لإيجاد فرص واقعية وعملية للتحول الحقيقي باتجاه الحداثة في مواجهة التقليدية، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والشمولية، وبناء دولة المؤسسات لضمان التنمية السياسية المستدامة.

إن الهدف الرئيسي من أي دستور هو وضع قواعد للعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الدولة ومواطنيها، لضمان العدالة والحقوق والحريات للمواطنين، والدور الآخر للدستور يتمثل كضامن للوحدة الوطنية وسيادة الدولة، وبالتالي فإن أي دستور يجب أن يعبر عن حاجات ومطالب المجتمع واهدافهم من بناء الدولة والنظام السياسي. كما ينبغي صياغته ومناقشته والموافقة عليه من قبل الشعب باستفتاء عام. وتشير الاتفاقات الدولية، ومنها اتفاقيات لاهاي وجنيف، إلى ضرورة عدم إعطاء قوة أجنبية الحق في فرض دستور على بلد محتل، وعلى الرغم من كل هذه المحددات فإن الولايات المتحدة الأمريكية بعد احتلال العراق عام 2003م، قامت بإلغاء الدستور العراقي وانشأة مجلس الحكم العراقي في يوليو 2003م، وشرع قانون إدارة الدولة الانتقالي، الذي تمت الموافقة عليه باعتباره الدستور الانتقالي الجديد للبلاد. وقد كتب القانون الانتقالي وفرض من دون مشاركة العراقيين في إبداء الرأي نحوه. (1)

 

لقد هيمنت المقاربة الايديولوجية المذهبية على الخطاب السياسي للأحزاب العراقية بعد 2003، وانعكست هذه الهيمنة على مضمون الدستور وبمعزل عن أي نظرة علمية تراعي القواعد الدستورية للدولة الحديثة، مما افقد دستور 2005 هويته الوطنية التي تمثل مكونات وثقافة المجتمع الذي يتسم بالتنوع الديني والقومي، وظهر الدستور محكوماً بمفهوم “الأغلبية الشيعية العددية” الذي تمسك به الإتلاف الموحد مما قوض مفهوم الإرادة الديمقراطية التوافقية، وبجانبها تجلت إرادة التحالف الكردستاني المتمثلة بتكريس سلطة الأمر الواقع لضمان الفيدرالية الاختيارية التي ترقى لمفهوم الكونفدرالية، والتأويلات المفتوحة بسبب المواد والفقرات الدستورية الملتبسة، ثم أخيراً إرادة المجموعة السنية، التي هُمشت سواء في الجمعية الوطنية أو في لجنة  كتابة الدستور، لذا فشل الدستور في تجسير الفجوة الاجتماعية بين الهويات المتنوعة في العراق، وتحول لعامل تفكيك للمجتمع  بدلاً من كونه جامعاً وضامناً للوحدة الوطنية (2).

لم يكن للولايات المتحدة الأمريكية تجربة أو خبرة في الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، ولم تستهدف بناء دولة الأمة الموحدة الديمقراطية، بل إرساء دولة مدنية ذات هويات ثقافية ومذهبية متنوعة، هويات تضم العرب الشيعة والعرب السنة والقوى الكردية والعلمانية، لضمان ظهور دولة ديمقراطية على أنقاض الأنظمة السلطوية (3)، على حد تعبير نوح فيلدمان الذي كان له دور كبير في كتابة الدستور الجديد. لقد تجاهلت الولايات المتحدة الأمريكية تاريخ تشكُل هوية الدولة العراقية، مختزلة الدولة بمجموعة من الهويات المذهبية والقوميات والاقليات العرقية. كما اعتمدت الأحزاب والمنظمات التي رافقت وساندت الاحتلال الأمريكي، هذه الرؤية المتجزئة للدولة العراقية، والتي عملت على توزيع المناصب والمسؤوليات طبقا لنظام المحاصصة الطائفية (4).

لقد اعتمدت واشنطن استراتيجية الخروج المبكر من العراق، لذا تبنت برنامجاً لصياغة وإقرار دستور دائم جديد للعراق خلال شهرين فقط، مما يعطي واشنطن المجال للادعاء بأن مشروع تحقيق الديمقراطية قد تحقق في العراق. ونتيجة لتسرع الولايات المتحدة في صياغة الدستور العراقي الدائم، ظهرت العديد من أوجه القصور في الدستور والعديد من المشاكل الجوهرية في الصراعات السياسية التي نشأت بعد ذلك.

وتحاول هذه الورقة البحثية عرض وتحليل طبيعة صياغة واعتماد الدستور العراقي عام 2005، وانعكاسه وتأثيره في الحياة السياسية، وما سببه من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية. ومحاولة استكشاف المُشكلات الطائفية والمحاصصة السياسية التي ظهرت بسبب مقدمة الدستور ذات الطبيعة والمضمون الطائفي والبنود والفقرات المتناقضة. مما يثير الجدل اليوم وعلى مستويات مختلفة: لضرورة اعطاء الفرصة مجدداً للعراقيين لإجراء مراجعة شاملة لمناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية الخطيرة التي يتعرض لها العراق، ولتحديد الأسباب والعوامل الدستورية التي كرست ظاهرة المحاصصة السياسية والطائفية والتي أدت لظهور نظام سياسي استبدادي شمولي بعيد عن قيم الديمقراطية ودولة المؤسسات والفصل بين السلطات وابعاد الدين عن السياسية، مما يتطلب تبني برنامج وطني للاتفاق على كتابة دستور جديد يضمن التوازن والاستقرار والتنمية في ظل التعايش والتضامن.

 

 

 

 

 

 

  1. قانون إدارة الدولة الانتقالي للعراق: تأسيس لمبادئ المحاصصة الطائفية والسياسية

حُكمَ العراق بين عامي 2003م و2005م، من قبل بول بريمر الذي لم يكن لديه أي خبرة عن المجتمع والتاريخ السياسي للعراق، حيث تولى السيطرة والتحكم بموارد العراق المالية، وإصدار قوانين وقرارات حلت بموجبها القوات المسلحة العراقية بأكملها، وحزب البعث العربي الاشتراكي، مما أدى إلى حرمان مئات الآلاف من العراقيين من الحقوق المدنية والسياسية. وقام بول بريمر بإصدار قانون إدارة الدولة الانتقالي للعراق.

كما أعلن بول بريمر تشكيل مجلس الحكم (Governing Council, GC) الذي ضم 25 عضوا تم اختيارهم وفقا لانتمائهم الطائفي والخلفية العرقية، والأهم من ذلك هو ولاؤهم للولايات المتحدة. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ العراق تتم فيها التعيينات على أسس طائفية وعرقية، وتم تثبيت الانتماء العرقي والطائفي بعد كل اسم، وكانت المفارقة الكبرى أن يثبت بعد اسم السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي (شيعي)، بدلا من ذكر صفته الحزبية. وكذا كان الأمر مع أشخاص آخرين عرفوا بعلمانيتهم من الطائفتين، وطُلب من مجلس الحُكم الموافقة على قانون إدارة الدولة الانتقالي، وصدّق على القانون مع تعديلات طفيفة فقط. وكان الاعتراض الرئيسي للمجلس على أن القانون الجديد، لأنه لم يشر إلى أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، لذا أصروا على تضمين المادة (7) لتثبيت هذا المضمون (5).

لقد جاء ذكر “الطائفة” في قانون إدارة الدولة الانتقالي عدة مرات، في المادتين (12) و (20)، وقوبلت بارتياح كبير من الأحزاب المشاركة في العملية السياسية، والتي ساهمت بتجزئة وتفكيك المجتمع، وكان الأجدر التركيز على عناصر الوحدة السياسية والاجتماعية بدلا من الانقسام الطائفي، لقد تحول تبني مصطلح “الطائفة” في الدستور العراقي إلى ذريعة قوية لتكريس وصياغة مجموعة من القرارات والسياسات التي كرست نظام المحاصصة السياسية والطائفية في السلطات الثلاث ومختلف المؤسسات والمنظمات.

  1. إقرار الدستور العراقي وفق مبادئ المحاصصة الطائفية والسياسية

شكل مجلس الحكم الانتقالي العراقي لجنة من 55 عضوا لكتابة مشروع الدستور، والتي بدأت العمل يوم 13 يونيو 2005م. وقد تم تقسيم الأعضاء وفقا لنظام المحاصصة: 28 من قائمة الائتلاف الشيعي، 15 من القوائم الكردية، و8 من حركة الوفاق والقائمة العراقية، التي يتألف معظمها من الشيعة. كما أضيف عضو مسيحي، وعضو تركماني، وعضو شيوعي وآخر سني. وجوبهت هذه النسب في التوزيع الطائفي باعتراضات قوية من قبل الطائفة السنية مما دفع مجلس الحكم إلى إضافة 14 عضواً من السُنة إلى اللجنة.

افتقرت اللجنة إلى وجود أي من خبراء القانون الدستوري أو ممثلي منظمات المجتمع المدني. وعقدت اللجنة اجتماعاتها ومناقشاتها بصورة سرية، وتجاهلت تماما الرأي العام والجمهور وأراءه وأفكاره. بعد أيام قليلة من تعيين الأعضاء السُنّة في لجنة صياغة الدستور تم اغتيال ثلاثة من الأعضاء السُنة من بينهم أحد المستشارين الدستوريين الذين كانوا معروفين جيدا باعتراضهم الشديد على المشروع المقترح. وبعد بضعة أيام اختطف عضو لجنة آخر من السُنة واغتيل أيضا، مما دفع الاعضاء السُنة بعد بضعة أيام فقط من عملهم في اللجنة إلى تعليق مشاركتهم، مطالبين بالعمل الجاد لكشف الجناة الذين قاموا بقتل زملائهم. وبعد تعرضهم للترهيب والتهديد عادوا إلى اللجنة بعد عشرة أيام. وفي يوم 8 أغسطس، علّقت هذه اللجنة أعمالها لكن المناقشات تواصلت بين الأعضاء الشيعة والجماعات الكردية فقط مع عدم وجود تمثيل حقيقي للسُنة (6).

لقد عكست المناقشات داخل اللجنة، تركيز كل مجموعة على الأهداف الذاتية الخاصة بها، ولم تتم مناقشة الخطوط الأساسية والتي تهدد الوحدة الوطنية. حيث تمسك أعضاء المجموعات والأحزاب الدينية الشيعية أساسا على اعتماد الإسلام باعتباره دين الدولة الرسمي وضمان الحقوق في أداء المراسم والطقوس الشيعية. ويبدو أن الأحزاب الشيعية اعتبرت أن إدراج هذه القضايا يمثل الاعتراف الرسمي بوجودهم وأغلبيتهم (7). من ناحية أخرى تركز اهتمام الأعضاء السُنة بقضية الهوية العربية في الدولة الموحدة. ولم تتاح الفرصة لمناقشة الأحكام الخطيرة ولا مضامين المواد التي ستصبح فيما بعد مثيرة للجدل للغاية وللاختلافات الكبيرة، مثل مفهوم النظام الاتحادي الذي اتسم بالعمومية، ومشكلات استغلال واستثمار النفط والغاز، كما لم يكن العراقيون على علم بتفاصيل الوثيقة ومضمون البنود لعدم نشرها لاطلاع الرأي العام. باستثناء بعض الأكاديميين المختصين بالقانون الدستوري، الذين حاولوا عرض ومناقشة وتحليل ونقد مخاطر البنود الخلافية، مما عرضهم إلى المطاردة من قبل الشرطة والمليشيات المجهولة، وتعرض البعض الآخر للاعتقال بسبب معارضتهم لبعض البنود الدستورية.

  1. أثر الدستور في النظام السياسي العراقي

من الأهمية بمكان دراسة الدستور لتقييم جدوى ومدى ملاءمته للمساعدة في توحيد البلاد وتحسين أداء وقدرات النظام السياسي في العراق، تضمن الدستور بعض الفقرات والمواد الإيجابية والتقدمية، وتشمل هذه الفقرات مفاهيم ومبادئ وفق الآتي: لا ينبغي وضع أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات للمواطنين، الشعب هو مصدر السلطة وشرعيتها، خضوع القوات المسلحة للسلطة المدنية، حظر التعذيب، استقلال النظام القضائي، وتأكيد أهمية منظمات المجتمع المدني. بعض هذه الحقوق كانت موجودة في الدساتير العراقية السابقة، ولكنها لم تكتسب المعنى الحقيقي في التطبيق في ظل الأنظمة الشمولية. علما أنه في عراق اليوم وبعد هيمنة الأحزاب الدينية والمحافظة والعرقية على السلطة منذ 2003م، فقدت كل هذه المبادئ الإيجابية معناها وأهميتها.

كما تضمن الدستور مجموعة من المضامين السلبية التي دفعت إلى انعدام التوافق والانقسام بين أطراف العملية السياسية بدلا من المساعدة على حل العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، وأسهمت العديد من الفقرات في خلق وإثارة مشكلات خطيرة. وبالإمكان تحديد هذه القضايا والإشكاليات الرئيسية كما يأتي:

الدولة الدينية المذهبية الإقصائية

يحتوي الدستور على ديباجة مطولة بشكل غير عادي (330 كلمة)، والتي وصفت بأنها أفضل بيان سياسي طائفي يكرّس الانقسام، والتي ليس لها أي علاقة بالدستور نفسه. فبعد فشل أعضاء المجموعة الشيعية في لجنة صياغة الدستور في تضمين إشارة واضحة ضمن مواد الدستور عن دور القيادة الدينية في تاريخ العراق المعاصر والإشادة بدور المرجعية الدينية في النجف في العملية السياسية، جرى تأكيد دورها ومكانتها في ديباجة الدستور، كما أثارت الديباجة خلافات ومآسي تاريخية قديمة في العراق، بدلا من التركيز على الأخوة والوحدة الوطنية، الأمر الذي خلّف انطباعا بأنها ستؤدي إلى تعميق التباين والتمييز الطائفي. ويبدو أن فكرة الديباجة قد أخذت من دستور الولايات المتحدة، حيث تبدأ الكلمات: (نحن أبناء وادي الرافدين، [ليس العراق] موطن الرسل والأنبياء، ومثوى الأئمة الأطهار، ومهد الحضارة، وصناع الكتابة، ورواد الزراعة، ووضاع الترقيم…..) في حين أن ديباجة دستور الولايات المتحدة الأمريكية تحتوي على 51 كلمة فقط، أكدت الوحدة والحرية والازدهار. علما أن الديباجة العراقية لم تشر إلى موضوع الحرية.

لقد نصت المادة (2) على أن “الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساسي للتشريع”، وذكرت النقطة (أ) من الفقرة أولا من المادة (2) على أن: “لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام”. وبينما قد لا يكون هناك ضرر في القول إن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، حيث إن الغالبية الساحقة من السكان من المسلمين، فإن النقطة (أ) تُفقد جميع المعاني الإيجابية التي وردت في الفصل الثاني (الحريات)، والمواد (14-46)، حيث إنه وبالاستناد إلى الممارسة العملية، ومع هيمنة الأحزاب والمؤسسات والشخصيات الدينية، فإن نفوذ هذه الأطراف يستطيع إلغاء جميع أشكال الحرية إذا ما أصر أي حزب أو مؤسسة دينية مثلا على أن أي قانون لا ترغب فيه، يتناقض مع العقيدة الإسلامية، كما رأينا في العراق والعديد من دول الشرق الأوسط التي عرفت هيمنة للأحزاب الدينية.

في الوقت الذي لم يسبق فيه ذكر الانتماءات الطائفية في أي دستور عراقي قبل عام 2003م، حيث كان الهدف لجميع الحكومات السابقة، العمل لتعزيز الشعور بالهوية الوطنية الموحدة، إلا أن دستور عام 2005م، أشار إلى الطوائف الدينية مرتين على الأقل في (المادتين 41 و43) بالإضافة إلى الديباجة. في حين ذهبت المادة (43) إلى حد تأكيد حرية الطقوس الخاصة بالطائفة الشيعية، مُشيرة في الفقرة أولا: “أتباع كل دين أو مذهب أحرارُ في، (أ) ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية”(8). وتمشيا مع هذا الموقف الديني الطائفي المحافظ، أشارت المادة 41 إلى النص الآتي: “العراقيون أحرارُ في الالتزام بأحوالهم الشخصية، بحسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، ويُنظم ذلك بقانون”. فهو يصنف العراقيين وفقا للطوائف الدينية ومعتقداتهم في التعامل مع وضعهم الشخصي، وهي مشكلة سبق للقوانين العراقية النافذة أن تجاوزتها عن طريق وضع قانون موحد للأحوال الشخصية منذ عام 1959م، يضمن المساواة والعدالة للمواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية، مما أثار تحفظات واعتراضات منظمات حقوق الإنسان والجمعيات النسوية.

البنية والوظيفة الطائفية للقوات المسلحة

جاءت المادة (9) من الدستور، أيضا فضفاضة وتثير الجدل والانقسام، لأنها لا تتحدث عن سلطة الدولة في إنشاء جيش وطني واحد وموحد، على الرغم من أنه يصف القوات المسلحة العراقية كمؤسسة واحدة، إلا أن (الفقرة أ من أولا) تنص على الآتي:”تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون أداة لقمع الشعب العراقي…”. وتنص الفقرة (ب) على الآتي: “يحظر تشكيل ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة”. ولكن من الناحية العملية والتطبيق الفعلي فإن وزارة الدفاع لا تمتلك أي سلطة على القوات المسلحة الكردية (البيشمركة) التي تعتبر جزءا من الجيش العراقي ويتم تمويلها من قبل الحكومة المركزية.

كما أن الأحداث التي جرت بعد احتلال الموصل في 2014م، من قبل ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام (داعش) أثبتت عكس ما ورد في الدستور إذ تم تشكيل والقبول بوجود عدد غير قليل من المليشيات العسكرية، وأن سلطة وزارة الدفاع عليها في أرض الواقع شبه معدومة، علما أن تشكيل الجيش العراقي الجديد بعد 2003م، تم بالأساس عن طريق دمج مجاميع من المليشيات فيه، وربما يكون أخطر ما أعلن عنه بخصوص الجيش هو ما صرح به ضابط أمريكي رفيع عمل في العراق حين قال: إن أحد أهم الفرق العسكرية العراقية، الفرقة الخامسة، تخضع بالكامل لقيادة وأوامر الحشد الشعبي ولا تملك وزارة الدفاع أو رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة أي سيطرة عليها (9).

علما أن مصاريف ورواتب الحشد تدفع من ميزانية الدولة، كما تتلقى هذه القوات دعما مباشرا من إيران، وكل هذه الأمور تشكل مخالفات دستورية واضحة إلا أن الحكومة ظلت عاجزة عن فرض الدستور. وهذا كله يعود إلى الطريقة المشوهة التي اتبعتها الولايات المتحدة في تشكيل الجيش الجديد.

هكذا تعرض المشهد السياسي العراقي لحالة من الفوضى والتفكك والضعف وذلك بسبب فشل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي والحالي حيدر العبادي، في إيجاد وسيلة للتوافق مع المجموعات السياسية الأخرى، وتعنت الأطراف المشاركة في العملية السياسية. ومما زاد الأمر سوءا هو فشل الجيش العراقي في الدفاع عن المحافظات العراقية: الموصل والأنبار وصلاح الدين، وكركوك وديالى، مما أدى إلى احتلال قسم منها بالكامل وأجزاء من الأخرى، لا بل إن هذا الجيش تفكك بصورة دراماتيكية بين ليلة وضحاها مما أظهر الدولة المركزية بصورة العاجز عن فعل أي شيء، وفسح المجال بصورة أكبر للتدخلات الخارجية. ناهيك عن الفساد الذي نخر جسد الدولة وأوصلها إلى حافة الإفلاس، مع تدني أسعار النفط ووارداته إلى مستوى جعل الوضع الاقتصادي للدولة عاجزاً عن الإيفاء بمتطلبات إدارة الحياة السياسية والاقتصادية وضمان الأمن الوطني.

هوية الدولة

أصرت مجموعة الأعضاء من العرب السُنة في اللجنة الدستورية على أن الدستور يجب أن يذكر بوضوح أن العراق دولة عربية وجزءً من الأمة العربية (80٪ من العراقيين هم من العرب). ورفض المُقترح بشدة من قبل أعضاء المجموعة الكردية. وفي نهاية المطاف، ذكرت المادة (3) ما نصه: “العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها، وجزء من العالم الإسلامي”، مؤكداً مرة أخرى، على هوية العراق الإسلامية وعلى الأفكار المُقسمة للدولة. وفي النهاية تضامن أعضاء المجموعة الشيعية، الذين منذ وصولهم إلى السلطة كانوا دائمي الانتقاد لمواقف الدول العربية والجامعة العربية واتهامهم بالتضامن مع النظام السياسي العراقي قبل 2003م، مع المجموعة الكردية في اللجنة مما جعل الباقين في أقلية وأخرج المادة بهذه الصورة.

عبرت المرأة العراقية من خلال منظمات المجتمع المدني عن عدم الرضا عن الدستور الذي نص على إلغاء قانون الأحوال الشخصية التقدمي لعام 1959م، مع جميع التعديلات اللاحقة (10)، مما يُفقد المرأة العديد من الحقوق المدنية المُكتسبة، حيث نصت المادة (41) على الآتي: “العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصية، بحسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون”. لقد واجه الدستور انتقادات واسعة وعميقة من جميع الأطراف المشاركين في العملية السياسية وخارجها، ففي نوفمبر 2008م، عبر رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن انتقاده للدستور، وشدد على الحاجة إلى تعديله. وقال: لقد “تمت صياغة الدستور بطريقة متسرعة وفي جو كان يسود فيه نظام المحاصصة بصورة طاغية”.

ومما لا شك فيه، ان الالتباسات التي لا تعد ولا تحصى والانقسامات الكامنة وراء عملية صياغة الدستور، والخلافات حول تأويل النصوص الدستورية، قد خلقت المزيد من المشاكل السياسية وعطلت قدرات النظام السياسي. كما كان الدستور عاملا رئيسيا في إدامة حالة الفوضى التي تعم معظم المدن والاقاليم منذ احتلال العراق عام 2003م، حيث مازال العراق حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من الوعود الانتخابية، واحدا من البلدان الأكثر خطورة وفسادا في العالم (11).

فالوضع الأمني الهش و​​الخدمات الاقتصادية والبلدية مثل الكهرباء والصرف الصحي، والمياه النقية والخدمات الصحية والتعليمية تكاد تكون غير متوافرة، والحصة التموينية الغذائية التي كانت تقدم كاملة للأسر العراقية منذ فرض العقوبات على العراق في عام 1990م، أصبحت نادرا ما تصل إلى السكان بكميات كافية او أي جزء منها. والائتلاف الذي شكل الحكومة في عام 2010م، بعد تأخير دام ثمانية أشهر استمر عاجزا عن تكليف وزراء للدفاع والداخلية والأمن القومي، وبقيت جميع هذه الوزارات تدار من قبل رئيس الوزراء نوري المالكي لغاية انتهاء ولايته.

وحدثت أزمة مشابهة في أعقاب انتخابات 2014م، ولم ينجح رئيس الوزراء المكلف حيدر العبادي في تشكيل الحكومة إلا بعد شهرين من اعلان نتائج الانتخابات، وجاءت ناقصة من دون وزيري الدفاع والداخلية، وتتطلب الأمر شهراً آخر أو أكثر لتعيين الوزيرين المذكورين. ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى نظام المحاصصة الذي ثبته الدستور وبني عليه مجلس النواب، كما أن الواقع فرض حالة جديدة في العراق تتمثل في تقسيم المناصب بحسب نظام المحاصصة حتى إن لم يكن ذلك واردا في الدستور، فمنصب رئيس الجمهورية أصبح من حصة الأكراد ومنصب رئيس الوزراء من حصة الشيعة ورئيس مجلس النواب من حصة السُنة (12).

ونظرا إلى أوجه القصور الواسعة في الدستور لم يحظ باحترام والتزام الحكومة الاتحادية والإقليم بتطبيق مواده. وتجلى هذا الوضع من خلال رد فعل الحكومة على المظاهرات السلمية في جميع أنحاء العراق عام 2011م، والمعروفة باسم (الربيع العراقي). ولقد نُظمت هذه الحركة لمعارضة وفضح الفساد المالي والإداري للحكومة الاتحادية ومؤسسات الدولة وللمطالبة بتحسين الخدمات الأساسية. عبرت إجراءات الحكومة الاتحادية عن انتهاك صارخ للأحكام الدستورية التي منحت المتظاهرين الحق في حرية التعبير، وقامت القوات الحكومية بقمع الحركة بعنف، وتكرر ويتكرر هذا الأمر يوميا في العراق الآن ومنذ شهر سبتمبر 2015 مع التظاهرات التي خرجت في بغداد ومحافظات الجنوب معترضة على سوء الخدمات والفساد المالي والإداري.

كما يطرح وجود بعض السجون السرية الخاصة التي لا تخضع لسلطة وزارة الداخلية أو وزارة العدل، وإنما تدار مباشرة من قبل رئيس الوزراء أو قادة المليشيات، مشكلة أخرى تتعلق بانتهاك العدالة وحقوق الإنسان، على الرغم من أن مسؤولي الحكومة يزعمون أن أعمالهم لها ما يبررها بموجب المادة (7) من الدستور، التي تعطي الدولة الحق في مكافحة الإرهاب. إن الطبيعة الواسعة والمطاطية لهذه المادة تجيز للحكومة الاتحادية القيام بسحق ومصادرة الأصوات المعارضة ومنع حرية التعبير.

  1. المحاصصة الطائفية ادخلت العراق في نفق التفكك والتقسيم

مازال المشهد السياسي والأمني، منذ احتلال العراق غير المشروع عام 2003م، يكتنفه الكثير من الفوضى والضبابية والغموض، واتساع الفجوة الأمنية التي عُدت المدخل لتفكيك بنية ووظيفة المجتمع والدولة، وانتشار ثقافة التخندق الطائفي على أنقاض الوحدة الوطنية، والدفاع عن جمهورية المحاصصة الطائفية وتبرير العنف المسلح أداة للإكراه الاجتماعي والديني. لقد انعدمت خطط التنمية الاستثمارية، وانعدم دور الصناعة والزراعة في الاقتصاد العراقي، وتلاشت فرص الإعمار عبر الصفقات الوهمية وانتشار الفساد السياسي والمالي تحت رعاية الاحزاب والمرجعيات الدينية، وظهر النظام السياسي كواحد من الأنظمة الشمولية الفاشية لاستبداد الاحزاب المذهبية المتطرفة، التي غذت الحروب ونشر ثقافة الكراهية، فانعدمت فرص الديمقراطية وحقوق الانسان. لذا يفترض إعادة النظر بصورة شاملة في الفلسفة الدستورية ووظيفة البنية السياسية التي قامت على أساسها العملية السياسية.

ان الغزو الأميركي للعراق، لم يُسقط السلطة فقط وإنما الدولة العراقية بكامل كياناتها وأوضاعها، وانبثقت عملية سياسية قامت على الطائفية السياسية والتهميش والإقصاء، وبالتالي انتهت إلى ما انتهت عليه، ووصل العراق إلى طريق مسدود، أن: “اللهاث يدور حول مواقع المسؤولية في البلاد ليس للإصلاح وإنما للهيمنة والاستحواذ وتعميق الشروخ الطائفية والجهوية”، لذا لم تعد العملية السياسية في العراق تُشرف حتى الشركاء في العملية السياسية. ودخل العراق بالفعل نفق التقسيم والتجزئة بسبب الأخطاء المتراكمة والسياسات الطائفية التي اتبعتها الحكومة برئاسة نوري المالكي. أن شبح التقسيم بات يخيم بقوة على العراق، ولا بد من مواقف حاسمة لإيقاف التدهور وإعادة العراق للاستقرار والوحدة والسلام والأمن. لقد تغير المسرح السياسي في العراق برمته في ظل حكومة نوري المالكي التي لم تكن تسيطر إلا على جزء من أرض العراق، كما أن استمرار الانقسام المجتمعي الواضح الآن في العراق دون علاج سيتبعه انقسام جغرافي (13). وتتحمل المسؤولية كل من الولايات المتحدة وإيران ومن يتبنى المشروع الطائفي السياسي في العراق من رئيس الحكومة ومن معه.

ولمواجهة الأزمة الشاملة للنظام السياسي، دعا ائتلاف الوطنية العراقي إلى إصلاح مسارات العملية السياسية في العراق من خلال إخراجها من المحاصصة الطائفية السياسية والتهميش والإقصاء. يجب أن يكون هدف العملية السياسية واضحاً في اقامة دولة المواطنة المدنية الحقة التي تنهض على العدل والمساواة وسيادة القانون وبناء المؤسسات المهنية القادرة على توفير مستلزمات الامن والخدمات وايقاف التداعيات الامنية وتعبئة الطاقات، لتحقيق الانتصار السياسي والعسكري على الارهاب والقضاء على كل اشكال التطرف ليكون العراق اساساً للاستقرار على المستوى الوطني والاقليمي والعالمي.

ولفت إلى أن العراق يمر بأوضاع خطيرة للغاية تتسم بالدموية والعنف والفوضى، والاعتماد الكلي على الأجنبي، وتراجع الاداء الحكومي، وانتشار الارهاب وسيطرته على مناطق عديدة من العراق، وانتشار عصابات الخطف والايذاء،(14) كما أوصلت سياسات المحاصصة، ومناخات الطائفية السياسية، والتهميش والإقصاء، وغياب المؤسسات المحترفة والمهنية التي تؤدي الى بناء الدولة الناجزة، لانعدام الأمن والسلم الأهلي، وانهيار التنمية الاقتصادية وضعف البنى التحتية، مما اوصل العملية السياسية الى طريق مسدود، وأصبح الفساد القاعدة وليس الاستثناء، وفقدان الأمن، وارتفاع نسبة الفقر الى ما يزيد عن الثلاثين في المائة، وازدياد التضخم النقدي والعجز في الميزانية ووصوله الى مستويات غير مسبوقة علماً أن كل الموازنات الضخمة طوال الفترات الماضية لم تستخدم إيجاباً لتطوير البنى التحتية وتحسين الخدمات (15).

لقد اتسعت الدعوات، حتى من داخل أطراف في العملية السياسية، للتعبير عن المواقف الداعمة لحق الجماهير في المطالبة بحقوقها عبر التظاهر والاعتصام السلمي منذ انطلاق التظاهرات في شهر شباط ٢٠١١. كما رفعت شعارات المطالبة بالدولة المدنية، دولة المواطنة التي تقوم على العدل والمساواة وسيادة القانون. والتأكيد على ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية ببعديها الأمني والسياسي لفتح صفحة جديدة من تاريخ العراق والخروج من النفق المظلم للمحاصصة المقيتة. والتأكيد على عدم الاستخفاف بإرادة الجماهير وإهمال مطالبها، فلقد كان للموقف الحكومي غير الحكيم من هذه المطالب المشروعة ابلغ الاثر فيما وصلت اليه البلاد من تداعيات مؤلمة. لذا يجب العمل للخلاص من المحاصصة الطائفية وتسيس الدين، وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية، والاقتصاص من الفاسدين والمفسدين، واعادة الاموال العراقية المنهوبة، وتحقيق الاصلاح الناجز، بما يفضي الى بناء الدولة المدنية دولة المواطنة وسيادة القانون والمؤسسات الشرعية والمهنية والاحترافية (16).

مما يستدعي العمل على تغيير الواقع العام ليشمل البنى التحتية والوضع الامني والاقتصادي للبلد ومناهضة التمييز والعنف ضد المرأة، ومن اجل اصلاح هذا الواقع لا بد من اصلاح المنظومات القيمية وتمكين التحديث المجتمعي، ان الدولة المدنية لا تعني شيئاً مالم تقم على مفاهيم المواطنة وبدونها لا يمكن الحديث عن الدولة المدنية والتي هي دولة المواطنة القائمة على العدل والمساواة وضمان الحقوق وسيادة القانون. أي ضرورة الخروج من نفق الطائفية السياسية وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية ومحاسبة الفاسدين. بناء الدولة المدنية دولة المواطنة القائمة على اسس العدل والحرية والمساواة والمؤسسية واحترام القانون (17).

المصالحة الحقيقية ينبغي أن تتم عبر جملة من الاجراءات الفورية، التي تتمثل في: إصدار قانون العفو العام، وحل معضلة اجتثاث البعث والمسائلة والعدالة، وإنصاف المظلومين والمحرومين، والاهتمام بأوضاع النازحين. حركة الوفاق الوطني العراقي 2  آذار 2016 إطلاق سراح المتهمين الأبرياء، وإعادة بناء المدن، وتوفير فرص العمل، والخروج من الطائفية السياسية والمحاصصة المقيتة، وبناء دولة المواطنة الحقيقية وسيادة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة العراقية، ومحاربة الفساد، بالإضافة الى حزمة من التشريعات التي طال انتظارها (18).

الأزمة الشاملة في العراق، ذات طبيعة دستورية وهيكلية بنوية سياسية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، لا تمتلك برنامجاً واقعيا قابلا للتطبيق، سواء في دعوات الإصلاح أو مواجهة ومعالجة الفساد أو وضع حد للتدهور الأمني أو الفساد المالي والتفكك الاقتصادي الذي أصبح يشكل خطورة كبيرة، لهذا معالجة الأمور بشكل سطحي استبدال وزراء، بوزراء تكنوقراط، لكن القضية المهمة هي الوضع السياسي في البلد هناك تفرقة طائفية هناك مناخ سياسي حاضن للإرهاب هناك انهيار اقتصادي هناك فساد أداري ومالي . فالمشكلة لا تكمن بوزير معين أو غيره، المشكلة بالطائفية السياسية والتهميش، والطائفية والمحاصصة دمرت البنية العراقية وفككت مفاصل الحكومة (19).

يجب معالجة القضايا الأساسية والجوهرية في العراق، والعمل لتقويض البيئة الحاضنة للطائفية وانهاء سياسة الإقصاء والتهميش، فالمشكلة تكمن في المناخ السياسي وفي العملية السياسية، التي قامت على أساس دستوري خاطئ، وعلى تكريس النفوذ الأجنبي والاستئثار بالقرار السياسي السيادي وحتى بالمفاصل الجزئية للقرارات من قبل القوى الخارجية، وتتحمل المراجع الدينية الشيعية والسنية والمسيحية (20).

كما دعا القيادي في الحزب الشيوعي العراقي، مفيد الجزائري، إلى: ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية والخلاص من المحاصصة وإعلان حرب على الفساد كي يستعيد البلد عافيته. وفيما اشار الى أن التمييز وعدم المساواة في الحقوق والمنافع مستمران على قدم وساق، وأكد أن هناك بعد فرصة لإنقاذ البلد ووضع نهاية للازمات. وقال إن “التمييز وعدم المساواة في الحقوق والمنافع والمزايا يجريان على قدم وساق”، مستدركا أن “ما أوصلنا الى هذا الواقع الخطير والى الأزمات السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي نعاني منها اليوم، هو نهج المحاصصة الطائفية وعدم الجدية في تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية وفي محاربة الفساد المستشري” (21).

وأضاف الجزائري: “أمامنا فرصة لإنقاذ البلد ووضع نهاية للازمات المتفاقمة، بالتوجه لبناء البلد على أساس المواطنة وإقامة الدولة المدنية واحترام حقوق الناس حسب ما ينص عليه الدستور”.  مبينا أن: “الوفاء باستحقاق انجاز المصالحة الوطنية والتحرر من المحاصصة الطائفية والقومية وإعلان حرب عامة وشاملة على الفساد والمفسدين سيعيدان للعراق عافيته من جديد” (22).

كما اعلن النائب مهدي الحافظ: ان مجلس النواب عبارة عن هيكل طائفي فاشل وظيفياً و لا ينفع لأي شيء، والغريب في الأمر ان جميع من شارك في العملية السياسية الفاسدة هم مسؤولون مسؤولية مباشرة عن جميع الإجراءات برعاية بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق والمرجعية الشيعية في النجف عن انتاج وفرض دستور عام 2005 الذي كرس الكراهية والتمييز الطائفي والاقصاء السياسي واتاح الفرصة كاملة للاحتلال الايراني للعراق وهيمنة المليشيات والاستخبارات الايرانية لتدير البلد وافقار الشعب ونهب المليارات من الدولارات، وسيأتي اليوم الذي يحاسب فيه شعب العراق قيادات الأحزاب الإسلاموية التي نهبت الثروات باسم الدين.

 

وفي نفس الإطار، وعبر سيناريوهات الصراع بين الأحزاب الطائفية وتقمص الأدوار، دعا مقتدى الصدر انصاره في ساحة التحرير، إلى اعتصام أمام المنطقة الخضراء، التي تضم مؤسسات الدولة، لمطالبة الحكومة بإنجاز الإصلاحات الموعودة، وفق بيان للصدر، نشر على موقعه الرسمي، ويتضمن نصب خيم أمام بوابات المنطقة الخضراء، وسط العاصمة بغداد، وفي شهر فبراير/ شباط 2016، أمهل الصدر رئيس الحكومة، حيدر العبادي، 45 يوما للوفاء بالتزاماته المتعلقة بالإصلاحات، لا سيما مكافحة الفساد، وإلا فإنه سيواجه تصويتا بسحب الثقة في البرلمان(23).

وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي، قد دعا إلى “ثورة حقيقية” ضد الفساد، تبدأ بأعلى “رأس فساد” في الدولة مهما كان منصبه أو حزبه. واجتمع مع القضاة، وتعهد بإعطائهم الدعم والحماية اللازمة للقيام بعملهم في محاربة الفساد وملاحقة المفسدين. لكن وعوده لم تتحول لبرنامج استراتيجي لإجراء الاصلاحات الجذرية لأن الطبقة السياسية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن استشراء الفساد في كافة مفاصل النظام السياسي.

وتصاعدت الاحتجاجات الشعبية في الفترة الأخيرة ضد سوء الخدمات والفساد المستشري في مرافق الدولة. وكان آخر الاحتجاجات في بغداد في شهر مارس/ آذار، والذي جرى قرب أسوار المنطقة الخضراء المحصنة، وشارك فيه مئات الآلاف.

مما تقدم نستخلص ثلاث ملاحظات جوهرية: الاولى، ترتبط بتنامي ظاهرة انعدام أو عدم وضوح الثقافة الدستورية في المجتمع العراقي وضعف الايمان بالدولة الدستورية المدنية الديمقراطية، كما ادى تهميش الهوية الوطنية في الدستور وسيادة الثقافة الطائفية والمحاصصة السياسية، لاحتكار حزب الدعوة الشيعي وحلفاءه من الاحزاب والحركات والمليشيات للسلطات الثلاث والهيمنة على الجيش والأجهزة الأمنية والشرطة، كواحد من الاسباب الجوهرية لتفكك العملية السياسية وانعدام الاستقرار والأمن.

الملاحظة الثانية، تتمثل في الخلل البنيوي في هوية الدستور لعام 2005م، فهو من جانب يحاول ان يطبع النظام السياسي بالطابع الديني والمذهبي، وفي نفس الوقت يتضمن عناصر ومبادئ للدولة المدنية، المتمثلة بضمان حقوق الانسان والديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي وتأسيس منظمات المجتمع المدني، والتي جاءت تعبيراً عن رغبة الولايات المتحدة الامريكية ومستشاريها في اعطاء طابع ليبرالي للدستور العراقي. لقد دفعت هذه الازدواجية والتناقض، للفوضى والازمات السياسية ولاندلاع الحرب الأهلية المذهبية، وعلينا ان نتذكر ان التاريخ السياسي شهد ظهور الدولة الثيوقراطية الدينية في العصور الوسطى ثم ظهرت الدولة المدنية، دولة القانون والحقوق لتفصل بين الديني والسياسي، كشرط لضمان الديمقراطية وتحقيق التوازن والاستقرار في المجتمعات.

الملاحظة الثالثة، ترى ان لا مناص من الفصل بين الدين والدولة في العراق والبلدان العربية، كما لا يوجد ضرورة أو مبرر للإشارة في الدستور بان الإسلام دين الدولة الرسمي وانه المصدر الاساسي للتشريع، لان مجتمعاتنا تتمتع بأغلبية ساحقة من المسلمين ولعدم وجود نموذج لنظام اسلامي موحد ومتفق عليه، بفعل الصراعات المذهبية وما تقدمه من نماذج متباينة ومتناقضة على صعيد الانظمة السياسية، واليوم تجد مجتمعاتنا نفسها أمام نموذج دولة ولاية الفقيه في ايران ودولة الخلافة الاسلامية، بجانب نموذج طالبان ونموذج الحكم العسكري الاسلامي في السودان الذي قسم السودان لدولتين ونموذج المنظمات الارهابية الإسلاموية في ليبيا، وجميعها تقود كما في العراق لظهور النظام السياسي الشمولي الاستبدادي المذهبي.

لذا فان الحل يكمن في دستور لدولة مدنية عقلانية تضمن الحقوق لجميع الاديان والمذاهب والقوميات والطبقات، غير منحازة لدين أو مذهب ولا لقومية أو طبقة اجتماعية، فالنظام السياسي الديمقراطي يكون محايدا وفوق جميع المذاهب والايديولوجيات لتجنب سياسة الاقصاء والتهميش والمحاصصة الطائفية والسياسية التي دفعت العملية السياسية في العراق نحو العجز والتفكك والفساد الاداري والمالي وانعدام الحقوق والحريات، كما وضعت في تاريخنا المعاصر، النظام السياسي اللبناني امام مآزق وحروب دينية مذهبية دموية وصراعات ايديولوجية، حيث يواجه تنامي ظاهرة عدم الاستقرار السياسي والعجز وانعدام القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية.

ان الرأي العام السائد اليوم عن النظام السياسي الراهن في العراق، الذي يتسم بالفساد ونهب 800 مليار دولار ما يوازي جميع الناتج الاجمالي المحلي للعراق منذ عام 1921م حتى الاحتلال الامريكي عام 2003م، بجانب انتشار التعصب المذهبي والمحاصصة الطائفية والسياسية والانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان وانتشار السجون السرية والتعذيب على ايدي المليشيات الطائفية، وفق ما تنشره المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ومنظمة العفو الدولية، بجانب وجود اكثر من 3.5 مليون نازح عراقي يعانون من الاهمال الحكومي، حسب البيانات الرسمية العراقية، وهجرة اكثر من 5.4 مليون عراقي في دول العالم، طبقاً لوثائق المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وهم يعانون من ظروف صعبة ومعقدة واهمال مطلق من قبل الحكومة العراقية وكأن الموضوع لا يعنيها، وكما تشير البيانات الحكومية، يقع اكثر من 22% من مواطني العراق تحت مستوي خط الفقر وانتشار الامراض والجوع والتشرد.

ولمواجهة الازمات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الخطيرة في العراق، يمكن الذهاب لتبني نظام فيدرالي على اساس إداري سياسي وليس مذهبي او قومي، بمعنى آخر نظاما للامركزية الإدارية، يضمن التوزيع العادل للثروة والسلطة ويحقق الاستقرار والامن ويبعد العراق عن شبح الحروب الدموية، ويضمن التنمية السياسية عبر مصالحة تاريخية يأتي في مقدمتها الغاء القوانين الاقصائية والتعسفية والعمل من اجل وحدة الشعب العراقي في ظل دولة مدنية ديمقراطية، تضمن الاستقرار والتوازن والتنمية المستدامة، وهذا يتطلب تفكيك العملية السياسية الفاسدة واعادة هيكلة الدستور العراقي والنظام السياسي في إطار دولة دستورية عقلانية تستند على الفصل بين الديني والسياسي.

الخاتمة والاستنتاجات

لقد واجه النظام السياسي العراقي تحديات عديدة، تتمثل بإشكالية الشرعية السياسية، التي هددت ومازالت تهدد توازن واستقرار النظام، وغياب الهوية للمشروع الوطني الذي يؤطر السلوك السياسي لجميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية سواء على مستوى علاقات مؤسسات النظام السياسي، أو في علاقة المؤسسات بمنظمات المجتمع المدني، وفي مستقبل جمهورية العراق، لضمان قدر من الاستمرارية والتوازن لدولة المؤسسات في مواجهة تحديات وتداعيات الاحتلال والتفكك. إذاً، يبقى هدف الحفاظ على الدولة وبنية النظام السياسي في إطار الصيرورة التاريخية لتطور المجتمع العراقي، يمثل هدفا لبلورة هوية وطنية عراقية جامعة، لمختلف مكونات الشعب العراقي في إطار نظام سياسي ينسجم معطيات وحاجات الطبقات والاديان والقوميات، ويوفر فرصاً لمقومات البقاء والتنمية الشاملة المستدامة. أي إنشاء نظام سياسي برلماني ديمقراطي تعددي، يوفر إطاراً لكل المنظمات والأحزاب في العراق لتجد في الدستور إطاراً سياسيا جامعاً للتعايش والتعاون والتوافق، تحت إطار من الشرعية السياسية التوافقية، بعيداً عن المحاصصة المذهبية والاستحواذ المذهبي والإقصائي لاحتكار السلطة الشمولية.

ومن المؤسف ان الاحزاب السياسية، عبر تاريخ العراق الحديث، لم ترتقي إلى مستوى تحديات التحديث والتنمية السياسية، وبقيت أسيرة لآيديولوجيات قادت للجمود الفكري والعقائدي، فجاء النظام السياسي امتدادا لتركيبة الاحزاب وتناقضات المجتمع العراقي، وانتقل النظام السياسي إلى التعددية السياسية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وهي تعددية إقصائية شمولية، اتسمت بالتناقض والصراع على السلطة والنفوذ والثروة، وكل هذا انعكس في تراجع واضح في القضية الوطنية والهوية العراقية، وفشلت الاحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية، في تحقيق إقامة دولة عراقية، وضمان وحدة الأرض والسيادة والشعب، كما فشلت في تبني التداول السلمي للسلطة، وتعاني من سوء الإدارة والفساد المالي، والبعد عن معايير الحكم العقلاني، ورفض الفصل بين الدين والسياسة، حيث تدير اليوم المرجعية في النجف شؤون العراق السياسية الذي يعاني من التمزق والتفكك وانهيار الأمن والاستقرار.

والحل البديل يكمن في التوافق الوطني حول الهوية الوطنية لجمهورية العراق، وبناء دولة المؤسسات والفصل بين السلطات، وتوفير فرصة حقيقية لتطبيق العدالة الانتقالية، في إطار دستور يضمن استقرار النظام والشرعية والتعددية السياسية، من خلال إجراء انتخابات سياسية شاملة، تحت رعاية وإشراف المجتمع الدولي لضمان العدالة والنزاهة والشرعية. ان الديمقراطية تعبر عن وجودها عبر دولة النظام والدستور، دولة التمايز والتنوع بين المؤسسات والوظائف التي تؤديها في المجتمع، وهي أيضا تعكس ثقافة وحضارة الشعوب، وان أحد محددات ازدهار المؤسسات الديمقراطية هو المضمون الفكري والثقافي للمجتمع الديمقراطي، فبدون وجود ثقافة التعددية السياسية واحترام الخصوصية والتنافس فصل الدين عن السياسة، لن يزدهر النظام السياسي في العراق.

الصراع الراهن على السلطة في العراق، يمثل امتداداً لأزمة النظام السياسي، وعدم قدرته على ضمان العدالة في توزيع الثروة والموارد وفشله في ضمان حقوق الانسان والديمقراطية وعجزه عن تحقيق التداول السلمي للسلطة واعتماده على ايديولوجية اقصائية طائفية تمثلت في هيمنه الاحزاب الشيعية على السلطات الثلاث مما يشكل سبباً جوهرياً لاندلاع المواجهة والنزاع بين الاحزاب الشيعية التي تحتكر السلطة وتتوافق مع نظرية ولاية الفقيه الايرانية، التي تستهدف تكفير وتقويض الحكومات الوضعية، والتمهيد لإعلان حكومات اسلامية تخضع للجمهورية الاسلامية العالمية، التي سيؤسسها الإمام المهدي بعد عودته من الغيبة الكبرى، وهي  مجرد خرافات تفتقد للأسانيد العلمية والدينية. بذلك يترسخ جدل الصراع والحروب بين النموذج الثيوقراطي الايراني وبين النموذج العقلاني لبناء دولة المؤسسات والدستور. والمشكلة تكمن في معارضة أكثر من مليار وربع مسلم في العالم لنظرية ولاية الفقيه.

الأزمة السياسية والدينية العميقة اليوم في العراق، تعكس خللا بنيويا ودستوريا خطيراً أسس لظهور نظام استبدادي فاشي طائفي، اعتمد على احزاب مارست الارهاب السياسي خلال تاريخها الدموي في لبنان والعراق والكويت وسوريا واليمن، مدعومة من طهران وملتزمة بالتبعية لنظام ولاية الفقيه في قم.  ان الاحداث والازمة الراهنة في الحياة السياسية في العراق، تؤكد ان منطقة الشرق الاوسط تمر بمرحلة خطيرة جدا من الصراع بين هيمنة الجمهورية الايرانية الثيوقراطية الاستبدادية الفاشية، وبين نموذج الدولة الديمقراطية الدستورية المدنية.

فبعد فترة قليلة من إقرار الدستور الدائم بدأت بوادر الخلاف والجدال الحاد حوله تثار من منظمات مدنية ومؤسسات علمية، وهذا أمر بديهي حيث تمكنت هذه الأطراف من الاطلاع عليه بعد إقراره، إلا أن الملفت للنظر هو الاعتراضات الكبيرة التي توجه إلى الوثيقة من قبل الأطراف التي ادعت أنها كتبته، ومها كان الحال لا يزال الدستور الدائم يثير الجدل، ويستمر النقاش حول صياغته وطبيعة الغموض لمعظم مواده، مما يُثير العديد من الانقسامات والخلافات السياسية.

لقد أصبح واضحا بعد إقرار الدستور أن مواده تضمنت العديد من المضامين الفضفاضة والمعاني الغامضة التي تُهدد الوحدة الوطنية وتُفكك النسيج الاجتماعي، بجانب العديد من التدخلات الخارجية، وغياب العراقيين الخبراء في الشؤون الدستورية، وضعف الحكومة الاتحادية والانقسامات الحادة والعميقة قد أسهمت جميعها في الوضع غير المستقر في العراق حتى اليوم، الأمر الذي أدى إلى توسع المطالب والدعوات إلى تعديل الدستور.

لقد ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن احتلال العراق يستهدف بناء نظام سياسي يتوافق مع خطط واستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة الرامية إلى إنشاء شرق أوسط جديد، أي نظام سياسي ديمقراطي تُحترم فيه حقوق الإنسان في العراق، والعمل على تحويله إلى نموذج ديمقراطي يحتذى به من قبل دول الجوار الإقليمي. ولكن التجربة وبعد مرور ما يقارب 13 سنة من الاحتلال والنفوذ الأمريكي القوي داخل العراق، انتجت التوصل إلى استنتاج يؤكد الفشل الذريع لجميع هذه الأهداف الأمريكية، وأن ما أسهم في هذا الفشل هو أوجه القصور الهيكلية والقانونية والسياسية العميقة في الدستور العراقي إلى حد كبير.

 

 

المصادر والهوامش

 (1) Andrew Arato, Constitution Making Under Occupation: The Politics of Imposed Revolution in Iraq, Columbia University Press, 2009, p. 54.

انظر أيضا المادة 43 من وثيقة لاهاي لعام 1907م، التي تنص على أن على القوة المحتلة أن تفعل كل ما في وسعها، قدر الإمكان تحقيق الأمن والنظام العام وضمانه، مع احترام القوانين السارية في البلاد، إلا في حالات الضرورة القصوى التي تحول دون ذلك. مستل من بحث: أ.د. سعد ناجي جواد، “الدستور العراقي: العيوب الهيكلية والآثار السياسية”، مجلة دراسات دستورية، العدد(6)، يناير 2016، مملكة البحرين، ص 79.

(2) مجموعة من الباحثات والباحثين، مراجعات في الدستور العراقي، بغداد، مركز عراقيات للدراسات، 2006، ص 6-7.

(3) Andrew Arato, Constitution Making Under Occupation: The Politics of Imposed Revolution in Iraq, Op. Cit, p.3.

(4) See Majid Khadduri, Independent Iraq: A Study in Iraqi Politics from 1932 to 1958, Oxford University Press, 1960; and Raider Visser, “Historical Myths of a Divided Iraq, Survival, Vol. 50, no.2, April-May 2008.

مستل من بحث أ. د. سعد ناجي جواد، “الدستور العراقي: العيوب الهيكلية والآثار السياسية”، مصدر سابق، ص 80.

(5) انظر: أ. د. سعد ناجي جواد، “الدستور العراقي: العيوب الهيكلية والآثار السياسية”، مصدر سابق، ص 84.

(6) انظر: نفس المصدر: ص 88.

(7) Andrew Arato, Constitution Making Under Occupation: The Politics of Imposed Revolution in Iraq, p. 142.

 (8) هذه المادة تعني إجازة تعطيل العمل في كل أجهزة الدولة أو شلها أثناء هذه الممارسات لهذه الطقوس، وشمل ذلك المدارس والجامعات، لا بل حتى بعض السفارات في الخارج.

 (9) أنظر: القدس العربي، 23/10/2015، http://www.alquds.co.uk/?p=422434

(10) للمزيد من التفاصيل انظر: سوسن إسماعيل العساف وأ.د. سعد ناجي جواد: المرأة العراقية بين ديمقراطية الاحتلال ومبدأ التدخل الإنساني الأمريكي، دار الجنان، عمان 2012م، ص ص119- 120. وكذلك انظر التقرير:

Searching for Peace in Iraq, compiled by Sawsan al-Assaf, Ali Dahir Ali and Kai F Brand-Jacobsen, issued by NOVA Innovacio Social, 2012, pp. 90-91.

(11)Saad Jawad and Sawsan al-Assaf, Iraq Today, The Failure of Reshaping a State, LSE IDEAS Blog, 4 June 2013. http://blogs.lse.ac.uk/ideas/2013/06/iraq-today-the-failure-of-re-shaping-a-state-on-sectarian-and-quota-lines/

(12) وفي هذا العرف حاكى الوضع العراقي نظام المحاصصة الطائفية اللبناني، والدستور الإيراني الذي ينص على أن يكون رئيس الجمهورية من أتباع المذهب الاثني عشري الشيعي حصراً، مما يؤسس لعنصريات مذهبية اقصائية وظهور الفاشية والشمولية الاستبدادية.

(13) د. أياد علاوي، برنامج “لقاء اليوم” على قناة الجزيرة، في حلقة الثلاثاء 15 تموز 2014.

(14) المكتب الاعلامي، بيان صادر عن ائتلاف الوطنية، علاوي إصلاح العملية السياسية بالعراق يستلزم الخروج من العنصرية الطائفية، الثلاثاء 13 أكتوبر2015.

(15) بيان ائتلاف الوطنية، 15 شباط 2016.

(16) بيان ائتلاف الوطنية،28   شباط 2016.

(17) المكتب الاعلامي للدكتور إياد علاوي، 20 شباط 2016.

(18) ائتلاف الوطنية، 1 اذار 2016.

(19) الدكتور أياد علاوي، مقابلة على قناة العربية، العملية السياسية في طريقها الى الموت إذا استمرت على هذا الحال، حكومة اقطاب قد تكون الحل في انتقال العراق الى بر الامان، بتاريخ 12 شباط 2016.

(20) د. أياد علاوي، مقابلة على قناة سكاي نيوز عربية، مسؤولية اخلاقية وسياسية للنتائج الكارثية التي حلت بالعراق، بتاريخ 14 شباط 2016.

(21) مفيد الجزائري، “نهج المحاصصة الطائفية دمر العراق وهناك فرصة لإنقاذ البلد”، جريدة الحقيقة، 31 مايس 2015

(22) المصدر نفسه.

(23) تقرير عن العراق: مقتدى الصدر يدعو لاعتصام لمطالبة الحكومة بالإصلاحات، 12 مارس/آذار 2016، BBC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى