اللجنة القانونية

الدبلوماسية في عصر الذكاء الاصطناعي

أثير هلال الدليمي

باحث دكتوراه في القانون الدولي العام

متخصص في مكافحة الجرائم السيبرانية الدولية

عضو اللجنة القانونية ، المنتدى العراقي للنخب والكفاءات

أدى إدخال الشبكات الالكترونية والتعليم الرقمي في أواخر التسعينيات إلى ظهور موجة جديدة من الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وتفاؤل متزايد في إمكانية تطبيقه على مجموعة واسعة من الأنشطة، بما في ذلك النشاطات الدبلوماسية السياسية والقنصلية.

 

يشير هذا البحث الى إمكانيات الذكاء الاصطناعي في تقديم المساعدة الفعالة  والموثوقة والسريعة في المجالات ذات الاهتمام الدبلوماسي كنشاطات الدبلوماسية العامة، والمفاوضات الدولية، وخدمات الشؤون القنصلية، وإدارة الازمات.

وتجدر الإشارة الى ان مصطلح “الذكاء الاصطناعي” ورد للمرة الأولى من قبل عالم الحواسيب الالكترونية الأمريكي ، جون مكارثي، عام 1956، والذي عرّفه بأنه “علم وهندسة صنع الآلات الذكية، وخاصة برامج الكمبيوتر الذكية“.

وبمفاهيم أساسية اخرى ، يشير الذكاء الاصطناعي إلى النشاط الذي تقوم به أجهزة الكمبيوتر من خلال معالجة كميات كبيرة من البيانات باستخدام خوارزميات رقمية معقدة  لمحاكاة المنطق والسلوك البشري.

ويعرفه اخرون بأنه “النشاط المكرس لجعل الآلات ذكية” بينما “الذكاء هو تلك الجودة التي تمكّن الكيان من العمل بشكل مناسب وبصيرة في بيئته“.

َهذا وتقدم المجموعة الرفيعة المستوى المعنية بالذكاء الاصطناعي التابعة للمفوضية الأوروبية فهما أكثر شمولا للمصطلح حيث أشارت الى:  “إن أنظمة الذكاء الاصطناعي

( Artificial intelligence – AI)

هي أنظمة برمجية أو (أجهزة) مصممة من قبل البشر، لتحقيق هدف محدد سلفا، وتعمل في البعد المادي أو الرقمي من خلال إدراك بيئتها عبر الحصول على البيانات”، لتفسرها وتعالجها وتحللها سواء كانت بيانات منظمة أم غير منظمة، وعلى أساسها تنظم المعلومات المستمدة من هذه البيانات لتحدد أفضل الإجراءات والحلول المثلى التي يجب اتخاذها لتحقيق الهدف المطلوب والمحدد سلفا “.

 

 * مستويات برامج الذكاء الاصطناعي:

تختلف برامج الذكاء الاصطناعي بشكل كبير وعلى نطاق واسع يتراوح من النماذج البدائية إلى النماذج فائقة الذكاء.

ففي الشؤون القنصلية على سبيل المثال، يظهر الجانب  الأدنى من مقياس التعقيد، حيث تساعد برامج الدردشة الآلية في طلبات الحصول على التأشيرة (سمات الدخول)، والمساعدة القانونية لطالبي اللجوء، والتسجيلات للمعاملات والخدمات القنصلية.

 ومع ذلك، فإن جميع هذه التطبيقات، بغض النظر عن درجة تعقيدها الفني، تقع في فئة الذكاء الاصطناعي ” الضيق”  أو ” الضعيف”، حيث أنها مبرمجة لأداء مهمة واحدة تقوم على استخراج ومعالجة المعلومات من مجموعة بيانات محددة لتقديم التوجيه بشأن المسائل القانونية والخدمات القنصلية المحددة، وياتي التعيين “الضيق” لتطبيقات الذكاء الاصطناعي هذه من حقيقة أنها لا يمكنها أداء مهام خارج حدود المعلومات التي تحددها مجموعة البيانات الخاصة بها.

وعلى النقيض من ذلك، فان الذكاء الاصطناعي العام والواسع يشير إلى الآلات التي تظهر قدرات بشرية تتراوح قدرتها من حل المشكلات والإبداع إلى اتخاذ القرارات الحاسمة في ظل ظروف عدم اليقين والتفكير المجرد، وبالتالي، فإنهم قادرون على أداء الأنشطة الفكرية مثل الإنسان، دون أي مساعدة خارجية.

والأهم من ذلك، يتطلب الذكاء الاصطناعي العام أو القوي شكلاً من أشكال الوعي الذاتي ليكون قادرًا على العمل بشكل كامل، فقد يصل الذكاء الاصطناعي القوي إلى نقطة لن يكون فيها قادرًا على محاكاة الدماغ البشري فحسب، بل يمكنه أيضًا تجاوز الأداء المعرفي للإنسان في جميع مجالات الاهتمام، وهذا ما يسميه نيك بوستروم “الذكاء  الفائق”، وهو نظام ذكاء اصطناعي قادر على القيام بكل ما يمكن أن يفعله العقل البشري، ولكن بصورة أسرع (“الذكاء الفائق السرعة”)، أو بامكانه تجميع عدد كبير من الذكاءات الأصغر (“الذكاء الفائق الجماعي”) أو على الأقل بنفس سرعة عقل بشري ولكنه أذكى نوعيا إلى حد كبير (“الذكاء الفائق الجودة”)، ومع ذلك ، فإن الذكاء الاصطناعي القوي، ناهيك عن الذكاء الفائق، لا يزالا مجرد بنيات نظرية في الوقت الراهن، كون أن جميع التطبيقات التي تم تطويرها حتى الآن، بما في ذلك تلك التي جذبت انتباه وسائل الإعلام مثل Alexa من Amazon أو نماذج Tesla ذاتية القيادة تقع بأمان في فئة الذكاء الاصطناعي الضيق.

 

كما تجدر الاشارة إلى امكانية تغير هذا المستوى تدريجيا قريبًا، خاصة إذا كانت تكنولوجيا الحوسبة الرقمية ستحقق تقدمًا كبيرًا نحو هذا الاطار، لاسيما وقد أشارت نتائج مسح كبير قام به مجموعة من باحثي التعلم الآلي بشأن توقعاتهم لمستوى التقدم والتطور في الذكاء الاصطناعي والتي كانت على قدر عال من التفائل، كما وقد توقعوا كذلك تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في العديد من الأنشطة خلال السنوات العشر القادمة، كترجمة اللغات (بحلول عام 2024)، وكتابة مقالات في المدارس والجامعات (بحلول عام 2026) ، وقيادة الشاحنات (بحلول عام 2027) ، والعمل في البيع بالتجزئة (بحلول عام 2031)، وكتابة الكتب الأفضل مبيعًا (بحلول عام 2049) ، وحتى العمل كجراح (بحلول عام 2053).

 

 

* الذكاء الصناعي والدبلوماسية:

تزايد الجدل بين الباحثين حول دور الذكاء الاصطناعي في سياق السياسات الخارجية  والنشاطات الدبلوماسية السياسية والقنصلية للدول، مما أثار زخمً وبطئ كبير في المناقشات الاكاديمية، بسبب عدم وجود نظام تحليلي واضح، وافتقار المصطلحات إلى الوضوح، مما جعل الباحثون يؤكدون على أن الفهم الأفضل للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والدبلوماسية يمكن أن يأتي من خلال التمييز بين الذكاء الاصطناعي كموضوع دبلوماسي ، والذكاء الاصطناعي كأداة دبلوماسية، والذكاء الاصطناعي كعامل يقوم على البيئة التي تمارس فيها الدبلوماسية.

 

* الذكاء الاصطناعي كموضوع للدبلوماسية:

بمعنى ان الذكاء الاصطناعي يعد مناسبا لتطبيق اجندة ذات موضوعات واسعة متباينة التخصصات تتراوح بين السياسة الخارجية، والاقتصاد والأعمال، والأمن، وصولاً إلى ترسيخ ونشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق.

 

* الذكاء الاصطناعي كأداة للدبلوماسية:

بمعنى تطبيق الذكاء الاصطناعي في دعم وظائف الدبلوماسية والمهام اليومية للدبلوماسيين.

 

* الذكاء الاصطناعي كعامل يؤثر على البيئة التي تمارس فيها الدبلوماسية، حيث يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى التكنولوجيا المحددة لعصرنا، وبالتالي لديه القدرة على إعادة تشكيل أساس النظام الدولي.

 

هذا ويمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين التواصل بين الحكومات والجمهور المحلي او الأجنبي عن طريق خفض الحواجز اللغوية بين البلدان، وتعزيز أمن البعثات الدبلوماسية عبر تقنيات التعرف على الصور وفرز المعلومات، ودعم العمليات الإنسانية الدولية من خلال مراقبة الانتخابات، والمساعدة في عمليات حفظ السلام.

 

* الذكاء الاصطناعي والخدمات القنصلية:

 

أن النشاط يمكن أن يكون ثمرة منخفضة لتكامل الذكاء الاصطناعي ضمن منظور العمل القنصلي، كون أن القرارات والإجراءات قابلة للرقمنة، والمساهمة التحليلية الإجرائية للبيانات ذات صلة معقولة وليست بالمعقدة وتقوم التكنولوجيا الرقمية فيها وفق مبدا التعاون بين المستخدمين والآلة.

حيث تعتمد الخدمات القنصلية على قرارات منظمة ومحددة للغاية مسبقا، لأنها تنطوي إلى حد كبير على عمليات متكررة وضوابط روتينية تستند الى أسس وإجراءات قانونية واضحة ومستقرة، ولاتحتاج إلى التعامل معها على أنها آليات جديدة في كل مرة يتطلب فيها اتخاذ قرار، (باستثناء حالات الأزمات الطارئة والظروف القاهرة، التي يتم فيها الخروج عن بعض الإجراءات والضوابط والقوانين المعمول بها لفترة محددة يتم تحديدها لحين انقضاء الازمة وإزالة اثارها).

اما من منظور المعرفة، قد تجسد الخدمات القنصلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي معلومات تعريفية (معرفة نوع الخدمة المطلوبة) ومعرفة إجرائية (معرفة فنية للاجراءات واليات الحصول على الخدمة) لأتمتة ورقمنة العمليات الروتينية وتنمية الإدراك البشري عن طريق تقليل الجهد المعرفي.

 

 

دراسة حالة رقم 1: الذكاء الاصطناعي  كمساعد القنصل الرقمي..

 

تواجه قنصلية الدولة “X” طلبًا غير متساوٍ على جوازات السفر الطارئة وطلبات التأشيرات وشهادات إثبات الحياة وشهادات الاعمال في السنوات الخمس الماضية، وعلى أثر ذلك يؤدي الوضع إلى تراكم متزايد، وفقدان كبير للسمعة والمصداقية العامة وعلاقة متوترة بين القنصلية ووزارة الخارجية والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة.

وبذلك يستخدم نظام الذكاء الاصطناعي الذي تم تدريبه وتنظيمه على جمع ومعالجة البيانات في تلك الفترة لإخراج تحليلات وصفية تحدد الأنماط المطلوبة في التطبيقات والتنبؤات اللازمة لاداء الخدمات بشكل سريع وفعال، وعلى سبيل المثال إن الاشهر أغسطس ومايو وديسمبر هي الأشهر الأكثر احتمالًا لزيادة الطلب على معاملات الفئات الثلاث في العام المقبل.

بذلك يحرص نظام الذكاء الاصطناعي على معالجة البيانات المحدثة، وبمساعدة التنبؤات الجديدة في إدارة الطلبات بشكل أكثر فعالية والاستجابة السريعة والفعالة لإنجاز هذه المعاملات مستقبلا وتلافي التأخير في الإنجاز.

كما وتجدر الإشارة أيضا الى أن نمو ثقة وزارة الخارجية في نظام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يظهر ايضا من خلال المنصات الرقمية باعتبارها ادوات مهمة لاغنى عنها في إدارة الأزمات الدبلوماسية في العصر الرقمي، حيث يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي مساعدة السفارات ووزارة الخارجية ودبلوماسيها في فهم طبيعة وخطورة الأحداث في الوقت الحقيقي لحدوث الازمة، وتبسيط عملية صنع واتخاذ القرارات الصحيحة من خلال تحليل البيانات الوصفية لطبيعة الازمة، وتحديد الاتجاهات المحتملة (التحليلات التنبؤية)، وإدارة توقعات الجمهور، وتعزيز الإجراءات الرامية لإنهاء الأزمات.

 

دراسة حالة رقم 2: الذكاء الاصطناعي كمساعد للدبلوماسي السياسي الرقمي

 

تود سفارة الدولة X في العراق إجراء حملة دبلوماسية عامة لدعم إحدى أولويات السياسة التالية: زيادة مستوى التبادل التعليمي والثقافي للطلاب العراقيين فيها، وإبراز قوة العلاقة العسكرية بين البلد X والعراق، وتعزيز الاستثمارات العراقية في البلد X.

 

باستخدام بيانات وسائل التواصل الاجتماعي، سيسعى نظام الذكاء الاصطناعي أولاً إلى الاستماع وتحديد مستوى الاهتمام والاستقبال الجماهيري للحملة وفق المستويات (إيجابي ، سلبي ، محايد) للجمهور في الموضوعات الثلاثة.

ستكون الخطوة التالية هي استخدام التحليلات الرقمية التشخيصية للبيانات لشرح الدوافع المحتملة ذات الأهمية لكل موضوع (ماهية الرسالة، تنسيق الأهداف، الشخوص المؤثرة والمؤيدة لطرحها) واحتمالات رد فعل الجمهور على حملة السفارة.

 

اما الخطوة الأخيرة تكون من خلال إجراء عمليات محاكاة لتقييم الحملة التي سيكون لها التأثير الأقوى بالنظر إلى الطريقة التي يضع بها الجمهور نفسه في كل موضوع والعوامل التي قد تساعد في زيادة أو تقليل الاهتمام العام بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى